فؤاد سالم بين المجد الفني العريق والمجد السياسي الوطني

 

متابعة التآخي

عندما أغلق اليافع، فالح حسن آل بريج، الغرفة على نفسه وراح يغني لناظم الغزالي، اعتقد أحد أقاربه المشتغلين بالفن أنه يستمعُ إلى المذياع، وعندما أدرك أن ذلك صوت فالح، أخذه من البيت إلى فرقة نادي الميناء الاجتماعي في البصرة، التي انضمّ إليها عازفاً على آلة “الأكورديون”، ومغنياً في بعض حفلات الفرقة، قبل أن يصبح واحداً من أشهر الفنانين العراقيين، ويُعرف باسمه الفني: فؤاد سالم.

في 21 ديسمبر 2013، رحل الفنان فؤاد سالم، بعد مسيرة امتدت لأكثر من 40 عاماً، امتزج فيها الفن بالسياسة، تقلب خلالها الفنان بين المسارح والسجون، وشاشات التلفاز وغرف التحقيق، ليشكل حالة فريدة في تاريخ الفن العراقي الحديث.

ولد فؤاد سالم عام 1945 في بلدة التنومة بمحافظة البصرة، لعائلة ميسورة ومتدينة لديها موقف متشدّد من الغناء.

مات والده وهو في السادسة من عمره، فانتقل تحت رعاية عمه الحاج كاظم بريج، الذي تمنى عليه بعد أن ظهرت موهبته في الغناء منذ الطفولة أن يغني لنفسه، أو داخل غرفته، وألا يغني أمام الناس أو على الملأ، كما يسرد الفنان في إحدى مقابلاته.

خلال دراسته الابتدائية، وكان ما يزال ابن تسع سنوات، اختاره مدرس النشاط الفني للغناء في ليلة سمر كشفية، لينال صوته إعجاب زملائه والمعلمين بعد أن قدم أغنية للفنان ناظم الغزالي، وأصبح حديث البلدة.

شكل نادي الميناء منعطفاً هاماً في حياة فؤاد سالم، حيث ذاع صيته في البصرة، وفتح له الباب أمام النقلة الكبيرة عندما زارت لجنة المسح الإذاعي والتلفزيوني البصرة في العام 1967، بحثاً عن مواهب جديدة.

وقع اختيار اللجنة على فؤاد سالم، ليكون مطرباً في الإذاعة والتلفزيون دون أن يقف أمام لجنة اختبار، انتقل بعدها إلى بغداد ليبدأ مشواره الفني بأغنية “سوار الذهب” من ألحان سالم حسين، الذي اختار لفالح حسن آل بريج اسمه الفني “فؤاد سالم”.

الفنان القادم من ريف البصرة العراقي إلى المدينة (بغداد) ترك بصمة في الغناء العراقي من خلال مساهمته في انتشار الأغنية الريفية على حساب أغاني المدينة، كما يقول الفنان العراقي، حسين الأعظمي لـ”ارفع صوتك”.

 

 

ووفقاً للأعظمي، فإن “حقبة أواخر ستينات القرن الماضي حملت انعطافاً جديداً في الأغنية العراقية من حيث بنائها الفني والتعبيري، فقد سادت الأغنية الريفية على أغنية المدينة من خلال جيل رائع من المغنيين القادمين من أصول ريفية، ومنهم الفنان فؤاد سالم الذي تمتع بصوت رخيم وجميل”، ويلفت إلى أن فؤاد سالم أضفى على الأغنية الريفية تعابير متحضرة بعد انتقاله إلى بغداد.

تعاون فؤاد سالم مع كبار الملحنين العراقيين من أمثال جوادي أموري، وياسين الراوي، ومحسن فرحان، وكوكب حمزة، كما غنى للعديد من الشعراء مثل كريم العراقي، وكاظم إسماعيل، وعريان السيد، وكذلك غنى بعضا من أشعار محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، ومظفر النواب.

قدم سالم عدد كبيراً من الأغنيات التي أصبحت من روائع الغناء العراقي الحديث، مثل أغنية “مو بدينه نودع عيون الحبايب” و “ردتك تمر ضيف” و” أنا ياطير ضيعني نصيبي” التي تعد من أيقونات الغناء العراقي.

يقول حسين الأعظمي: “تميّزت أغاني فؤاد سالم بجمال ألحانها وتعابيرها وكلماتها، وأغنية (ردتك تمر ضيف) نموذج جميل وناجح لأغاني فؤاد سالم على مستوى الغناء واللحن والكلمات. هذه الأغنية وأمثالها جعلته يحتل موقعاً مرموقاً بين مغني جيله الكبار في سبعينات القرن الماضي.

إلى جانب الغناء الفردي، تألق فؤاد سالم في المسرح الغنائي، فقدم أوبريت” بيادر الخير”، وأوبريت “المطرقة”، وأوبريت “نيران السلف”، وختمها بأوبريت “الشمس تشرق من هناك” التي قدمها في الولايات المتحدة الأميركية، حول قضية اللاجئين العراقيين.

ويبقى أوبريت “بيادر الخير” التي قدمها عام 1969، أشهرها على الإطلاق، خاصة أغنية “يا عشقنا” التي غناها مع الفنانة شوقية العطار، وأصبحت تعرف بـ”أغنية الأرض”.

“المغني الأحمر” المطاردة والمنفى 

 

تعتبر البصرة من أولى المحافظات العراقية التي عرفت الفكر الشيوعي، حيث تشكلت فيها مجموعة ماركسية في العام 1927. وكان نادي الميناء الاجتماعي مركزاً لاجتماع المثقفين، والكتاب، والشعراء، والسياسيين أصحاب التوجهات اليسارية.

في هذه البيئة، نشأ فؤاد السالم وتكونت توجهاته الفنية، والثقافية، والسياسية، التي دافع عنها حتى نهاية حياته، ودفع ثمنها باهظاً في سبيلها.

لا يُعرف على وجه التحديد متى انتمى الفنان إلى الحزب الشيوعي العراقي، لكن الحزب يشير إلى أن نشاط فؤاد سالم بدأ مبكراً حيث كان يشارك وهو طالب في المرحلة المتوسطة بتوزيع مناشير وأدبيات الحزب.

الالتزام الحزبي انعكس في أغنياته التي غلب على العديد منها النزعة اليسارية في الكلمات أو الشراكات التي نفذها مع الفنانين والكتاب والملحنين. وقدم فؤاد السالم عشرات الأغنيات “الترويجية” للحزب الشيوعي مثل أغنية “ارجع للحزب الشيوعي” وأغنية” لأني بروليتاري”، إضافة إلى أغنياته في رثاء الشيوعيين العراقيين الذين قتلوا خلال فترة الاقتتال مع حزب البعث بعد انقلاب 1963، ومنها أغنية “ياجمال الغالي” في رثاء جمال الحيدري الذي أعدم في سبتمبر 1963، وأغنية “جورج تلو”، كما غنى للقائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي قتل في سوريا عام 1959.

 

 

الخط السياسي الذي حمله الفنان صاحب الجماهيرية الكبيرة في العراق جلب له العداوة مع النظام العراقي، شانه شأن جميع الشيوعيين، بعد الانقلاب البعثي على حكم عبد الكريم قاسم عام 1963 وحتى توقيع اتفاقية 1973 التي انضم بموجبها الحزب الشيوعي إلى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية جبناً إلى جنب مع حزب البعث.

حتى خلال فترة الاتفاق لم يسلم فؤاد سالم من المضايقات، فكان يمنع أحياناً من الغناء، علاوة على الاستدعاءات الأمنية للتحقيق، ومن تلك المضايقات اعتقاله لساعات في عام 1974، في محاولة لمنع مشاركته في حفل إحياء الذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي الذي أقيم في قاعة الخلد ببغداد، وعندما أطلق سراحه قبل ربع ساعة من انطلاق الحفل، توجه مباشرة إلى القاعة وغنى لحزبه.

شيئاً فشيئاً أصبحت الدائرة تضيق على فؤاد سالم، توالت الاستدعاءات الأمنية، وعمليات الاعتقال والتوقيف. يقول عنها: ” لم أتعرض للضرب أو التعذيب، لكن كنت أسمع وأنا في زنزانتي أنين المعذبين”.

في 9 ديسمبر 1977، غادر فؤاد السالم العراق متخفياً إلى الكويت، وذلك بعد أن أصبح يخشى على حياته من القتل.

يقول في إحدى مقابلاته حول قرار المغادرة: ” ذات مرة وبعد منعي من الغناء، غنيت في مكان ما، وعند خروجي من هذا المكان كان ينتظرني في الخارج جلاوزة النظام، أوقفوني وبدأوا يضربونني بأخماس مسدساتهم وبعدها تركوني سابحاً بدمائي، عندها أدركت أن لا مكان آمنا في العراق لأنهم سيقتلونني في المرة القادمة لا محالة”.

 رحلة المنفى الطويلة
 من الكويت، غادر فؤاد سالم إلى جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي كان يحكمها الحزب الشيوعي، حيث تابع دراسته الفنية، بعدها تجوّل في العديد من الدول الخليجية، وأقام حفلات في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، إلى أن استقر فيه المقام في 1982 بالكويت مجددا.

يقول حسين الأعظمي: “بقي فؤاد سالم في نظر الجمهور العراقي ذلك الفنان الكبير الذي يمتلك جماهيرية كبيرة في بلده”.

في غربته، طغت أغاني الحنين والشوق للعراق على منتجه الفني، فكانت أغنية “الله أش حلاة العمر يا سمرة”، كما غنى قصيدة بدر شاكر السياب “غريب على الخليج”، حيث توحدت أوضاع فؤاد سالم مع أوضاع السياب عندما كتب القصيدة أثناء وجوده في الكويت معبراً فيها عن حنينه للعراق

الى جانب، ذلك قدم أغنيات ضد النظام العراقي، والرئيس العراقي السابق صدام حسين، تحرض العراقيين على الثورة على حزب البعث، وتتوعده بمحاسبه الجماهير، مثل أغنية “ليش يا شعبي” وأغنية “وقف عد حدك يا صدام”.

بعد الغزو العراقي للكويت، انتقل فؤاد سالم إلى سوريا حيث أقام فيها حتى وفاته، باستثناء مغادرات قصيرة للمشاركة في الأنشطة الفنية.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق عاد فؤاد سالم إلى بلده بنيّة الاستقرار لكنه سرعان ما غادر إلى سوريا مجدداً بعد أن وجد مدينته مدمّرة وبعد أن أصبح مسموحاً للفنان أن يحمل رشاشاً، ولكن يمنع عليه أن يحمل عوداً ويغني، كما تحدث في إحدى المقابلات قبل وفاته في سوريا التي نقل منها جثمانه إلى العراق حيث دفن.

الفنان فؤاد سالم، يكاد يكون المطرب العراقي الوحيد الذي لم يغن للطاغية صدام بل غنى ضده، ويستحق أن ينصب له تمثال الشجاعة من الذهب في أبرز شارع في البصرة… لكن من يستجيب في العراق وهو يعيش فترته المظلمة الجديدة؟!

 

 

قد يعجبك ايضا