هفال زاخويي
مرت الثقافة الكُردية في العراق بثلاث مراحل مفصلية، أولها كان بعد اتفاقية 11 آذار (مارس) 1970 بين الدولة العراقية والقيادة الكُردية، وكانت الثانية بعد انتفاضة آذار (مارس) 1991 وقيام الإدارة الكُردية المستقلة في كردستان العراق والتي تشكلت بعد انسحاب كامل المؤسسات الرسمية والقوات العراقية من كردستان، والثالثة كانت بعد الغزو الأميركي للعراق وتغيير نظام الحكم الذي على إثره تبلور الشكل السياسي دستورياً لإقليم كردستان والذي رافق حضوراً سياسياً كردياً كبيراً في بغداد، وخلال هذه الفترات الثلاث والتي مرت عليها 54 عاماً طرأت الكثير من التغييرات المهمة على اللغة الكُردية، الثقافة الكُردية، التراث الكُردي، حركة الطباعة والنشر، الصحافة وأجهزة الإعلام، لكن ما يثير الدهشة هو ضعف الحضور الثقافي والاعلامي الكُردي في بغداد بعد سنة 2003 مقارنة بالحضور السياسي والذي كان مثار جدل لدى أغلب العراقيين.
الرؤية الضبابية
لقد كانت هناك حالة من عدم الاهتمام سواء من قبل النخب السياسية الكُردية أو النخب الثقافية الكُردية، وهذا ما انعكس سلباً على الكُرد أنفسهم، إذ لم تستطع النخب الثقافية التسويق للثقافة الكُردية بشتى اتجهاتها (الأدب، التراث، الفن، التأريخ… إلخ)، مما تسبب في حالة من الضبابية لدى المتلقي العربي في العراق وكذلك حالة من عدم الدراية لدى هذا المتلقي الذي ينبغي له أن يطلع على تراث الكُرد وفنهم وعاداتهم وتقاليدهم وتركيبتهم الاجتماعية وتأريخهم ومساهمتهم منذ القدم في بناء الدولة العراقية وما قدموه عبر التأريخ لهذا البلد وللمنطقة، ومع الأسف هذا ما لم يحصل لحد الآن، وهذا بحد ذاته تقصير كبير يحسب على المثقف الكُردي الذي يتقن العربية بالذات ويحسب على النخب السياسية الكُردية أيضاً، ومن الطبيعي أن يكون هناك خطاب موجه إلى الآخر المختلف في الرؤية والتوجه والثقافة والعادات والتقاليد داخل البلد الواحد والمتعارف عليه انه لا يمكن إدراك الذات ان لم
يكن هناك الآخر المختلف، وهذا ما غاب عن الرؤية الثقافية الكُردية التي انمازت بالضبابية من جهة واحادية الخطاب من جهة أخرى، فالكُردي بطبيعته يعرف تفاصيل قضيته وهو في غير حاجة للكثير من المخاطبة، أما العربي فهو بكل تأكيد كان بحاجة لخطاب النخبة الثقافية الكُردية كي يكون على علم ودراية بالمكون الذي يشاركه في هذا البلد، وهذا ما لم تقم به النخبة الثقافية الكُردية بل تلكأت هذه النخبة إلى حد بعيد!
لا ينكر أن هناك محاولات وجهود فردية في حركة ترجمة بعض القصائد أو القصص القصيرة من الكُردية إلى العربية، لكن هذا الجهد بحد ذاته لم يلق أي إقبال يذكر من قبل المتلقي العربي، وينبغي أن ندرك بأن الثقافة الكُردية والترويج لها لا يكمن في بضع قصائد أو قصص قصيرة لا يراها ولا يطلع عليها الا بعض المثقفين العرب، وذلك من خلال علاقاتهم الشخصية مع بعض الأدباء الكُرد والتي تكونت من خلال الملتقيات والمهرجانات هنا وهناك، وحقيقة لم تكُ هناك أية أهمية لهذه الأمور، بدليل النتيجة التي نراها اليوم، وهي حالة القطيعة الثقافية، ومن الغريب أن منصات التواصل الاجتماعي والتي يستخدمها الأهالي – رغم شعبويتها – هي التي نشطت أكثر وخلقت حالة جميلة من التواصل بين الكُرد والعرب، ورغم تعقيدات اللغة فقد حقق رواد التواصل الإجتماعي ما لم تستطع النخب الثقافية تحقيقه.
الخطأ الاستراتيجي
إنَّ المحاولات التي جرت وتجري فيما يخص أجهزة الإعلام الكُردية الناطقة بالعربية لم تلق نجاحاً لحد الآن، وتكاد نسبة مشاهدي هذه القنوات لا تُذكر، والسبب من وراء ذلك غياب الرؤية والاستراتيجية والهدف من تأسيس هذه القنوات ورصد الأموال لها، فأولى الأخطاء التي وقعت فيها الجهات الممولة لهذه القنوات هي تهميش المهنيين والحرفيين الكُرد في هذا المجال ممن يتقنون اللغة العربية، والاستعانة بمهارات عادية لغير الكُرد، فالمعروف أن الكُردي الذي يتقن العربية ويعرف تفاصيل قضيته قادر على التسويق والترويج لها عبر القنوات والمنصات الإعلامية والثقافية أكثر من الآخرين، كما أنَّ العربي الذي يعمل في أجهزة الإعلام العربية أدرى بتفاصيل وحيثيات قضيته، في الحقيقة حتى كاتب المقال لا يعرف ما هي المعايير التي تتبناها الجهات السياسية المسؤولة عن هذه الأجهزة الاعلامية الكُردية الناطقة بالعربية في اختيار وانتقاء غير الكُرد، وقد يعود السبب في ذلك إلى مقولة : (مغنية الحي لا تطرب) وهذا حديث ذو شجون…
مراكز الأبحاث والدراسات
على مستوى مراكز الأبحاث والدراسات في إقليم كردستان، الرسمية منها والحزبية، شخصياً لم أر مجلة بحثية فصلية وسنوية تنشر بحوثاً حول القضية الكُردية باللغة العربية لتقديمها إلى السياسيين والمثقفين العرب في العراق أو حتى إلى القارىء الكُردي الذي عاش وترعرع في المناطق العربية، ولم نر مجالاً لنشر أفكارنا وبحوثنا عن القضية الكُردية باللغة العربية عكس الحالة في بغداد والتي ننشر في دورياتها وفصلياتها الصادرة عن مراكز البحوث والدراسات لنقدم للمتلقي العربي ما نستطيع تقديمه… أليست هذه مفارقة ينبغي الوقوف عليها؟!
إنَّ مضي فترة 21 سنة على التغيير الذي حصل في العراق كان كافياً للتأسيس لثقافة كردية رصينة ناطقة باللغة العربية وكان من شأنها تغيير الكثير من الأمور وخلق حالة من الاندماج بين المكونين العربي والكُردي وحالة من التفاهم والاندماج تتجاوز المشكلات السياسية بين بغداد وبين اقليم كردستان، وبالطبع اللوم الأكبر هنا يقع على عاتق الجهات السياسية المسؤولة الكُردية والتي يفترض أن تستوعب الإمكانيات الفكرية والثقافية والبحثية والاعلامية الكُردية وتدعمهم وتحثهم على التسويق للقضية الكُردية وتاريخ الكُرد وتراثهم وثقافتهم وفنهم، وهذا ما لم يحصل الا في نطاق ضيق جداً ولم ينتج شيئاً يُذكر.
والحالة هذه تتطلب وقوفاً جدياً من قبل النخب السياسية والثقافية الكُردية واعادة النظر في مجمل ما مضى والتدشين لمرحلة جديدة فالكُرد ليسوا مشاركين في ادارة الدولة بل شركاء حقيقيين، ولا أعتقد أن الشراكة تعني أن يكون لك وزير أو وزيرين أو عشرة وكلاء للوزارات وعشرة مدراء عامين من الكُرد في بغداد، فموضوع الشراكة أعمق وأكثر أهمية من ذلك، وإذا انبرى أحد لمناقشة هذا الطرح مع الكاتب فهو على استعداد للنقاش المفتوح ومن على شاشات التلفاز … وأتمنى أن أكون على خطأ.