الجزء 3
اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 28- 5- 2024
وأضاف المصدر ذاته:
– ” وفي ضوء هذه الحقائق ماذا كان يتطلب من المشرّع العراقي لكي يبدأ بتكوين النسيج الوطني المشترك المطلوب لتعزيز وحدة العراق شعباً وأرضاً؟ الإجابة عن هذا السؤال سهلة للغاية وسليمة تماماً، لو عمد المشرع إلى تثبيت نص أساسي واحد لا غير لكل الأشخاص من النساء والرجال، الذين عاشوا في المنطقة التي أصبحت جزء من العراق الملكي الحق الطبيعي في حيازة الجنسية العراقية، ولم تكن هناك أي حاجة إلى وضع نص يساعد على نشوء حالة التمييز بين العراقيين. لكن المشرّع العراقي، ومن ورائه سلطات الانتداب البريطاني، اختار نصاً أوجد ثم كرّس الانقسام في المجتمع العراقي. وكان كما يبدو يسعى إليه بوعي مشوّه وبعيد عن الإحساس بالمسؤولية إزاء مستقبل العلاقات في المجتمع العراقي. إذ نصت المادة الثالثة من القانون رقم ٤٢ لسنة ١٩٢٤ على ما يلي:
المادة الثالثة:
كلَّ مَن كان في اليوم السادس من آب ١٩٢٤ من الجنسية العثمانية وساكناً في العراق عادة تزول عنه الجنسية العثمانية ويُعد حائزاً على الجنسية العراقية من التاريخ المذكور. ([1])
ماذا كان يعني ذلك؟. كان يعني محاولة المشرّع تجاوز ثلاث جماعات من السكان وهي:
1- الجماعة الأولى التي لم تحصل على الجنسية العثمانية وبقيت دون جنسية لأي سببٍ كان.
2- والجماعة الثانية التي كانت تحمل الجنسية الفارسية ولكنها تقيم في العراق منذ عقود، حتى قرون، أو أنها كانت لا تحمل أي جنسية ولكنها معروفة في أنها كانت إيرانية.
3- والجماعة الثالثة هي التي كانت تضم العرب والكورد الفيلية بشكل خاص، التي منحت الجنسية الإيرانية للتخلص من الخدمة العسكرية سواء في الدولة العثمانية أم في الدولة العراقية لاحقاً، أو لأسباب الشعور بالانتماء المذهبي مع سكان فارس دون أن تقدر أهمية الجنسية العراقية.
والسؤال الذي يفترض الإجابة عنه هو: لِمَ انتهج المشرع العراقي هذا السبيل؟. يفترض الانطلاق في التحليل والإجابة عن هذا السؤال من الظروف والفترة التي صدر فيها هذا القانون. وعليه يمكن الإشارة في الإجابة بصورة اجتهادية إلى الأفكار التالية، التي يمكن أن نجد اتفاقاً على أغلبها بين الباحثين في موضوعات الجنسية العراقية:
* كانت الغالبية العظمى من سكان العراق من العرب والكورد بشكل خاص ترتبط بحياة القبائل الرُحَل وشبه المستقرة وكذلك العوائل الفلاحية. وكانت أغلب هذه العوائل تتنقل على الحدود العراقية الإيرانية والعراقية- السعودية، والعراقية- السورية، والعراقية- التركية. وكان يلاحظ ذلك بشكل خاص بالنسبة للقبائل الكوردية الفيلية، وكذلك بالنسبة لمجموعات من العوائل العربية والفارسية التي كانت ترتبط بعلاقات مذهبية وأواصر قربى نتيجة الزواج بنساء إيرانيات والزيارات المتبادلة والإقامة الطويلة، سواء كان ذلك في إيران أم في العراق خاصة في مدن العتبات المقدسة، وكان المشرّع العراقي يدرك هذه الحقيقة وكان يريد التخلص من هذه المجموعة من خلال التمييز في الجنسية أولاً وحرمان مجموعات غير قليلة منها من الجنسية العراقية ثانياً.
* وكان العراقيون أثناء الهيمنة العثمانية لا يحملون بالضرورة جنسية معينة، فالغالبية العظمى منهم تعتنق الإسلام ديناً وتعتقد بأن هذا كاف للبقاء في إطار ،الرعية إذ أن مبدأ المواطنة لم يكن واضحاً في هذه المرحلة من تطور المجتمع، وبالتالي لم تجد فائدة من اكتساب الجنسية العراقية فلم تطالب بها، ولكن مجموعات من العوائل طلبت الجنسية الإيرانية ومنحت فعلاً تخلصاً من قانون التجنيد الإجباري بعد صدور هذا القانون في العراق الملكي حتى قبل ذاك في ظل الدولة العثمانية للخلاص من تجنيدها القاسي المعروف الذي يستمر ٢٥ عاماً، حيث نص القانون العثماني: ( على كل عثماني أن يقوم بالخدمة مسلماً أو غير مسلم على أن يكون بلغ ۲۱ عاماً من العمر ومدة الجندية ٢٥ عاماً منها ٣ سنوات نظامية ٥ احتياطية ۱۲ رديفة ٥ مستحفظة، هذا في الجيش البري، أما البحري فمدتها ٢٠ سنة بإسقاط مدة المستحفظية منها). ([2]) ويبدو مفيداً أن نشير إلى أن المقصودين بهذه الإجراءات هم في الغالب الأعم وحصراً الجماعات المسلمة التي تدين بالمذهب الشيعي، الذي خلق فيما بعد حساسيّة خاصة من جانب العراقيين إزاء نظام الحكم عموماً بسبب تصرفاته اللاحقة. وكان المشرع يريد التخلص من هؤلاء أيضاً حين يرفض منحهم الجنسية العراقية، إذ يمكن عندها ترحيلهم متى عنَّ للسلطة التنفيذية ممارسة ذلك.
* وكانت بريطانيا تريد ذلك أيضاً بسبب موقف ثوار العشرين من سلطات الاحتلال البريطانية، إذ بدأت في وسط العراق ثم في جنوبه، خاصة في مدن العتبات المقدسة، ومن علماء الدين الشيعة، ولكنها شملت بعد ذلك الكثير من أوساط الشعب العراقي. ولم يتخلف أتباع المذهب السُنّي عن المشاركة في الثورة. وكان الحكام العراقيون وكذلك دائرة الانتداب البريطاني تريد تلقين ثوار العشرين درساً قاسياً من خلال عزلهم عملياً عن السلطة وجعل وجودهم في العراق قلقاً ومحكومـاً بموقف السلطة، فضلاً عن إمكانية إبعادهم عن العراق بحجّة كونهم من التبعية الإيرانية. وكان هذا الأمر في الواقع يعتبر سيفاً مسلّطاً باستمرار على رقاب هؤلاء الناس.
تعرّض الكورد الفيلية إلى تمييز شديد ولحقت بهم إساءات كبيرة منذ تأسيس الدولة العراقية حتى الوقت الحاضر، ولكنهم عانوا أيضاً في فترة الحكم العثماني. وأكثر تلك الإساءات والتجاوزات على حقوق الإنسان وحقوق القوميات حصلت في فترة حكم البعث الذي أسقط في العاشر من نيسان من العام ٢٠٠٣ على أيدي قوات التحالف الأمريكي البريطاني. مارست الطغمة الصدامية وهي في الحكم ثلاث موجات متتالية من عمليات التهجير شملت عدداً كبيراً جداً من الكورد الفيلية لا في بغداد فحسب، بل وفي المدن التي عاشوا فيها منذ أجيال. كانت الموجة الأولى بعد انقلاب شباط عام ١٩٦٣، حيث زجّ بأعداد غفيرة منهم في السجون والمعتقلات وعذبوا أشدّ تعذيب. وكان الاضطهاد مُضاعفاً بسبب كونهم كورداً أولاً أو أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكوردستاني ثانياً، فضلاً عن كونهم من مُعتنقي المذهب الشيعي ثالثاً، والإشكالية الأخيرة أججّها النظام العراقي وبشكل متعمد.
أما الموجة الثانية فقد اقترنت بالضربات الموجعة التي توجهت لحركة الشعب الكوردي التحررية في کوردستان العراق بعد عقد اتفاقية الجزائر عام 1975 والتآمر الرجعي الإقليمي والدولي ضد هذه الحركة وانتكاسة المقاومة المسلحة، حيث قامت سلطات البعث، وكان أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة، باعتقال وتهجير عدد كبير من الكورد الفيلية إلى إيران وفق الحجة القديمة بكونهم من التبعية الإيرانية. ([3]) واقترنت الموجة الثالثة بتهيئة النظام العراقي للحرب ضد إيران أي في أعوام ۱۹۷۹ و ۱۹۸۰، حيث أصدر في عام ۱۹۸۰ ثلاثة قرارات متتالية عن مجلس قيادة الثورة الذي كان وما يزال يقوده منذ عام ۱۹۷۹ صدام حسين، وتضمن القرار الأول رقم ۱۸۰ عدداً من المسائل الخطرة المصممة بالطريقة التي تمس مباشرة الكورد الفيلية من النساء والرجال في العراق وهي:
1- استمرار اعتبار عدد كبير من العراقيين القاطنين في العراق ومنذ أجيال عدة بالأجانب، وبالتالي الطلب منهم تقديم طلبات لاستحصال الجنسية العراقية في فترة نفاذ هذا القانون التي حددّت بستة شهور وكانت هذه الصياغة بمثابة الفخ لاصطياد العراقيين الفيليين مِمّن يتعذر على أجهزة الأمن الوصول إليهم لاعتقالهم وترحيلهم.
2- النص في الموافقة على منح الجنسية العراقية على ما يلي: ” أن لا يكون في وجوده في العراق ضرر على أمن وسلامة الجمهورية العراقية”. وكان هذا يعني أن جميع الكورد الفيلية الذين يعتبرون أجانب ومن تبعية إيرانية يشكلون خطراً على الجمهورية العراقية لأنهم سيتحولون في لحظة ما إلى طابور خامس للدولة الإيرانية. وكان الحكم المسبق هذا تجاوزاً شرساً وعنصرياً مقيتاً على وطنية الكورد الفيلية، وضد دَورهم الوطني في النضال على امتداد تاريخ العراق الحديث.
3- منح وزير الداخلية، وليس دائرة الجنسية أولاً والقضاء العراقي في حالة الاختلاف مع حق المواطن ثانياً، الحق في منح أو منع الجنسية العراقية. ويشكل هذا الموقف تجاوزاً خطيراً على القانون الدولي.
4- كما تضمن القرار منح وزير الداخلية الحق في أن يقبل أو يمنع اكتساب المرأة الأجنبية، والمقصود هنا حقاً النساء الكورديات الفيليات قبل غيرهن من النساء الجنسية العراقية، ثم ورد في الفقرة ( أ) من المادة الخامسة ما يلي بشأن النساء ” الأجنبيات”: ( لا يُسمح للمرأة الأجنبية المتزوجة من عراقي مضى على إقامتها في العراق مدة خمس سنوات الاستمرار على إقامتها فيه عليها خلال مدة ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا القرار أن تعلن عن رغبتها باكتساب جنسية زوجها العراقي أو مغادرتها العراق). ولكن قرار الموافقة كان منوطاً بوزارة الداخلية، لهذا كان هذا النص هو الآخر مصيدة للنساء الفيليات.
ورغم قساوة وآلام كل تلك الموجات التهجيرية والاضطهادية التي تعرض لها الكورد الفيلية من النساء والرجال على امتداد الرقعة العراقية، وكذلك على عدد كبير من العرب العراقيين في مناطق الوسط والجنوب، ومنها بغداد، وبعض المدن الكوردستانية التي وجد فيها فيليون أيضاً، فأن أبشع تلك الموجات اقترنت بصدور القرار رقم ٦٦٦ في ٥- ٧- ۱۹۸۰، الذي نصّ على ما يلي:
1- تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة.
2- على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقـــرة ( ۱) ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً.
ووفق هذا القرار أصبح كل الكورد الفيلية موضع شك في وطنيتهم من قبل نظام ابتعد كليّة عن الحسّ الوطني السياسي والأخلاقي. وفي ضوء ذلك تعرّض مئات ألوف من الكورد الفيلية إلى جريمة التهجير القسري إلى خارج الحدود، وهم الذين ينتشرون اليوم في إيران وأوروبا وأمريكا واستراليا وغيرها من بلدان العالم، فضلاً عن أعداداً كبيرة منهم تعيش في إقليم كوردستان بعيداً عن الجُناة في بغداد. وهم الذين فقدوا وطنهم وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وداس النظام على حقوقهم المشروعة بكل شراسة وخسّة، وهم الذين فقدوا من جراء تلك العمليات فضلاً عن الاعتقال والتعذيب والتهجير، عدداً كبيراً من أقاربهم إذ حصدهم الموت على أيدي جلاوزة النظام. ولم يميز النظام بين النساء والرجال، الشيوخ والأطفال والمرضى في عملياته تلك. إذ أعتبر جميع هؤلاء مشاريع خيانة ينبغي التخلص منهم وما يزال عدد المفقودين المغيبين من جانب النظام من بنات وأبناء الكورد الفيلية كبيراً جداً ويتطلب إدامة المطالبة بمعرفة مصيرهم وتقديم الدعاوى ضد النظام لمقاضاته دولياً على تلك الجرائم البشعة التي ارتكبت بحقهم. ويفترض تشكيل لجنة في كوردستان العراق وفي الخارج لتعمل من أجل ذلك. وعلينا أن نشير هنا إلى أن الشبيبة الكوردية الفيلية كانت الأكثر تعرضاً للاعتقال والقتل خشية هجرتها ومساهمتها في القوات الإيرانية في الحرب العراقية- الإيرانية. وهو بدَوره تشكيك شائن بوطنية الكورد الفيلية، الذين كانوا دوماً موضع حرص على وطنيتهم العراقية وقوميتهم الكوردية. وتعرّض الكورد الفيلية إلى موجة رابعة من موجات الاضطهاد والتهجير التي اقترنت بحملات الأنفال الدموية، والتي شملت بدورها هذه المجموعة السكانية العراقية أيضاً”.
[1] – الوقائع العراقية العدد ٢٣٢ في 21- 10- 1924.
[2] – محمد عنوز، المصدر السابق، ص 156.
[3] – جابر الجابري: انتهاكات النظام العراقي لحقوق الكورد الفيليين في العراق. إصدار منظمة حقوق الإنسان للكورد الفيليين في العراق، فيينا- ۱۹۹۳، ص ۲۳.