حاوره :الدكتور توفيق رفيق آلتونجي
الجزء الثاني والأخير
الربيع في كركوك الآن
أيّام النرجس ، ضيف الحقول .
أنا المسافر الدائم الى هناك
لا أصلُ أبداً .
أستطيع تشخيص أجواء مدينة كركوك والصور في كتابتي الشعرية ، بشكل مباشر ودقيق من حيث أنحاء المدينة وعناصرها من ازقة وبيوتها القديمة ، الابنية والمجرى التاريخي لجدول المدينة في الشتاء والمسمى (خاصة صو). تمتاز مدينة كركوك بأن أحيائها لا تكرر . فالقلعة وحيدة من حيث كينونة البناء والحكايات الخرافية حوله ولا انسى السلالم الطويلة إلى مرتفعاتها وازقتها الضيقة وانحدارها من جهة اخرى إلى السوق الكبير بكل حرفها العتيقة، الخانات ومقاهي الأرصفة . هذا قبل يتم هدمها . تسكعت طويلا في دروب هذه المدينة من هذه الجهة إلى تلك التي اكثر حداثة وهي كركوك الجديدة (حي عرفه) التي بنتها شركة النفط لعمالها ألمحدودي الدخل ، وحيث تنظيم المنطقة مختلف تماما عن غيرها من مناطق كركوك.. اتذكرها جميلة بحدائقها ونظافتها. كل هذا ليس موثقا في الذاكرة الجمعية لادباء وشعراء كركوك فقط وانما موثقة في نصوصهم الأدبية ايضا. كركوك معي إينما حللت.هذا هو سبب هذا الحنان العميق إلى المدينة من قبل مبدعيها الكتاب والشعراء.اجد هذا في نصوص مؤيد الراوي وانور الغساني ، شعر سرگون بولص وكتاباتك وفي قصائد كثيرة لي ، اضافة إلى قصص جليل القيسي..
الخيال جزء أساسي من ميثولوجيا الإنسانية (الأسطورة) وحضارات العراق القديم قدمت للبشرية ملحمة گلگامش وبات النص الشعري جزء من التراث الإنساني. سألته عن كيفية توصيفه كل هذا الإرث الثقافي في أشعاره؟
يقول جلال الدين الرومي:
ليس هناك خيال بدون عالم أو وقائع .
علينا أن نؤكد هنا أيضا انتماء الذاكرة الفعالة إلى هذه الوقائع. أن نشاط الخيال هو تعويض عاطفي في إشكاله الأدبية للعناية بالإنسان الذي يواجه أخفاقات مستمرة أزاء قوى تعاديه وتقوم بالحط من قدراته لتجاوز واقعه المحبط . كنت صغيرا حين كان ابي يرغمني أن أرافقه إلى جامع ما لحضور فعالية دينية نشطة ، فقد كان من دراويش الطريقة النقسشبندية**** .
كان ذلك ممتعا بالدوران كحلقة حول شيخهم وهم يرددون كلمات غامضة ، شعورهم طويلة وملابسهم فضفاضة ، يرتطمون بقوة جدارا برؤؤسهم ، بينما طبول ودفوف ترافق حركاتهم.كانوا في واقع أخر ، بديل عن البؤس اليومي ، بالتباهي مع نماذج شخصيات متخيلة تقدم الامل. بعد سنوات بدأت أفهم هذه الحال من خلال التحليل الماركسي للدين ووعوده الساحرة كبديل للفشل في حياة حقيقية . في الآداب والفنون ، خصوصا في الشعر والموسيقى نجد بدائل مختلفة لوقائع حقيقية تعاش وتحرر من اوهام . وهذا واقع يخلقه المخيال .
خرجُ من مرآةٍ لأفاجئكِ
لكنّكِ منشغلةٌ ، تغسلين حصاناً أمام البيت
يراقبكِ جيرانٌ غاضبون .
لا ترينني رغم قامتي
لا تسمعينني رغم صفيري .
أعود الى المرآة
اختفي .
اتذكر في المدرسة الابتدائية تأكيد معلم العربية بأننا ننتمي إلى الحضارات الأولى في تاريخ العالم ، وجرى ذكر قلعة كركوك كانجاز سومري ، وبأننا اهدينا الكتابة إلى العالم ، إضافة إلى كثرة أساطير بطولية ومنها گلگامش وصديقة انكيدو . كل هذا خلق في نفوسنا منذ الطفولة احتفاء بوجودنا كعراقيين بين الامم بالنظر إلى منجزاتنا الحضارية القديمة . نحتاج أن نتذكر هذه الوقائع عنا ، بتراث من الآداب ، وليس الأوهام الدينية والقومية المتعصبة لأسباب سياسية.
صلاح فائق يخرج في أشعاره من المعقول الى عالم الفنتازيا يداعب فيها الكلمات ليرسم عالما جديدا للقارئ. عالم يداعب مخيلة القارئ ليعيش في اجوائها ، من يلهم الشاعر؟
متى كان شعري معقولا والأفضل مفهوما ؟
اعتقد أن شعري في العراق كان ضحية هيمنة الذاكرة الشخصية وكوابيس الواقع اليومي بسبب الأوضاع السياسية آنذاك . لذا كان بعض الرمزية في تلك الأعمال. مع خروجي من العراق زالت المخاوف اليومية وتأثيرها في الكتابة.يكفي أن
مجموعتي الشعرية الأولى اسمها رهائن وكانت مكتوبة في العراق. لم أتخلص من التأثير السلبي لتلك الأوضاع ونتائجها النفسية إلا بعد قيامي بتصفية حساب معها من خلال كتابة مجموعة اخرى وهي تلك البلاد . انما بعد هذه الرحلة الطويلة عدت إلى الطبيعة ومآثرها الجمالية , فكانت مجموعات شعرية جديدة في بريطانيا ، منها مجموعة طريق إلى البحر ومقاطعات واحلام وغيرها حيث بدأ المخيال يستعيد ممالكه الصافية والغنية بالصور والتنوع الذي تتيحه بل تمنحه البيئة الجديدة والمختلفة.في سنواتي الأولى في بريطانيا قمت بسفرات كثيرة إلى أنحاء هذه البلاد وخصوصا اريافها ، انهارها وبحارها من اجل الامتلاء بهذه الأجواء والاغتناء ثقافيا بحوارات مع حاضرين . من المصادفات لقائي مع سرياليين ولاسلطويين في لندن والمشاركة في نشاطاتهم الأدبية.
اطرقُ باباً واسألُ :
– تعرفون صلاح فائق ؟
– نعم نعرفهُ ، تُجيبُ امرأةٌ متأنقةٌ
– أين يسكنُ ؟
– في الفليبين .
مع نهاية حرب الخليج الأولى ، وافلاس عدد من الصحف والمجلات لانها كانت ممولة من الحكومة العراقية حينها , قررت التوقف عن العمل في الإعلام العربي والهجرة إلى الفليبين .كنت زرتها وكتبت عن ثورتها ضد ماركوس *وطغمته هناك. في ذلك الوقت خطر لي أقيم في الفليبين اذا اضطررت لأي سبب. هكذا قضيت اكثر من عشرين سنة في تلك الجزر التي تعج بالزلازل والأعاصير في سيبو ، جزيرتي التي أقمت فيها , اشتريت جهاز سگانر ، بدأت اكتب واطبع مجموعاتي الشعرية الجديدة والتي تجاوزت عشر مجموعات وأسست دار نشر لهذه المجموعات هناك باسم “دار اشباح”. لماذا دار اشباح ؟ لان الاسم أعجبني. قبل خمس سنوات عدت إلى بريطانيا لأسباب صحية ،حاملا كتبي معي وبعد أن غيرت البيئة الفليبينية كتابتي لكنني مازلت اعتبر جزر الفليبين وطني الثاني ، ازورها لفترة كلما استطعت ولاستجيب لحناني إلى اكثر من سبعة الاف جزيرة دخلت أجواؤها في قصائدي.
هناك اليوم ما يقارب النصف مليارد ممن يتحدثون اللغة العربية كلغة ثقافية كيف ترى إمكانية التواصل مع اللغة المحكية الحديثة دون الحاجة إلى القاموس لفك رموز الكلمات؟
ليس عدد المتكلمين بهذه اللغة مهما .إذ مازالت الأمية مهيمنة على العرب وهم في الحقيقة ليسوا بامة. ربما كانوا في الماضي لكن ليس الآن. المشهد العربي الحالي من صنع بريطانيا وفرنسا ضمن اتفاقية اسمها سايكس-بيكو . كافة الحكومات العربية وأنظمتها وجيوشها من صنع الامبرياليين ولخدمة مصالحهم ومصالح اسرائيل.انظر إلى مشاهد الحرب الامبريالية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها .ماذا ترى ؟ تعاون هذه الأنظمة مع أميركا واسرائيل ضد الفلسطينيين بهدف تصفيتهم كشعب والاستيلاء على مابقي من ارضهم. اهذا نصف مليار عربي تشير اليهم ؟ هذا النصف مليار لا يتكلم وانما يثرثر وهو اصلا لا يقرأ ، إذ لا تستطيع بيع ألف نسخة من رواية أو مجموعة شعرية وسط نصف مليار من البشر . انت بلا حقوق في الأمان والعمل والتعليم والعناية الصحية في هذه البلدان التي حكامها بلا قوانين .هذه ليست بلداننا وانما كوابيس . عملت في لندن لعشرين سنة ، ثم هاجرت إلى الفليبين وبقيت هناك لعشرين سنة اخرى.عدت إلى بريطانيا قبل خمس سنوات لأسباب صحية.حسب حقوقي تدفع الحكومة ايجار شقتي ومساعدة مالية إضافية ومازلت استلم راتبي التقاعدي منذ حوالي خمس عشرة سنة. كما قام النظام الصحي بالعناية بي واجراء عمليات لجسدي المنهك وكلفت ماليا اكثر من أربعين الف باوند الإسترليني ، إضافة إلى تكاليف الأطباء والأدوية. بعد ايام من وصولي جاءني احد المسئولين وكتب ما احتاج في شقتي الفارغة وتم هذا أيضا.
قارنوا بين حالي الراهنة والعذاب الذي تعانيه مئات الملايين من مصطلح نصف مليار في ما تسمى البلدان العربية.
المنفى ترك في أنفسنا شوقا للوطن رغم البعد المكاني وألزماني لذكرياتنا، لكن تلك الحسرة تسموا دوما كغمامة داكنة من الأخبار الواردة من الوطن. كيف عالج صلاح فائق تلك الحسرة في كتاباته؟
العدالةُ في حياتي بيتٌ مظلم , مأوى حشرات , مدنٌ مغمورةٌ بأنقاضٍ , بأوحالٍ , حصانٌ يبكي أمام مصاصِ دماء .
لا إميل إلى مفردة “المنفى” في تعاملي مع نفسي ، ماضي أو مع الآخرين. إنها مفردة سياسية وانا اكره السياسة العربية لأنها غير إنسانية وإنما قائمة على العنف والوحشية في العلاقة مع المواطنين . قتلوا مئات الآلاف من السنة والشيعة في العراق بعد احتلاله من قبل التحالف الامريكي – الايراني.
هل هذا وطن تتألم بسببه ؟
واذا كنت أرغموك على الهروب أو الخروج لأسباب إرهابية ، فلماذا اذن تحن إليه طالما أن الأوضاع لم تتغير فيه ؟ عليك أن تتصالح مع الحياة حيث انت الآن وحاول جهدك أن تتخلص من الأوهام والأماني . فحياتك لن تتكرر. إلى هذا فإن الفنون والآداب تقدم بدائل عن الماضي وعذاباته .
لقد خلقت لنفسي أوطانا في بلدان أجنبية ، وكان الشعر رفيقي دائما ، وما زال.
2024
اشارات:
* راجع سلسلة كتاباتنا حول جماعة كركوك الأدبية على صفحات صحيفة التآخي.
جماعة كركوك الادبية – جريدة التآخي (altaakhi.net)
**فرانس كافكا، هو كاتب تشيكي من أصول يهودية كتب بالألمانية، رائد الكتابة الحديثة في الاغتراب والقلق كما ترجم في قصصه الأحاسيس الإنسانية كالشعور بالذنب ، الخوف والذعر. اشهر رواياته: المحاكمة، القصر، الرجل المفقود.
*** الكاتب فِيُودُور مِيخَائيلُوفِتْش دُوسْتُويَفِسْكِي روائي وكاتب قصص قصيرة وصحفي وفيلسوف روسي. وهو واحدٌ من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم. رواياته تحوي فهمًا عميقًا للنفس البشرية كما تقدم تحليلًا ثاقبًا للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية. من اعماله:
الأخوة كارامازوف و الجريمة والعقاب والابله وروائع ادبية اخرى.
**** ألطريقة النقشبندية: واحدة من أكبر الطرق الصوفية المنتشرة في كوردستان العراق والتي تنتسب إلى السيد محمد بهاء الدين نقشبند ومن لقبه اشتق اسم الطائفة . الطريقة النقشبندية هي الطريقة الوحيدة التي تدّعي تتبع السلسلة الروحية المباشرة بالعائلة الهاشمية الشريفة ومن الامامية.
* الدكتاتور فرديناند إيمانويل إدرالين ماركوس محامي وسياسي فلبيني من موليد 1917 . كان رئيسا لجمهورية الفلبين في الفترة من 1965 إلى 1986. وحكم البلاد بموجب الأحكام العرفية من عام 1972 حتى عام 1981.
بعض دوواين الشاعر صلاح فائق:
رهائن . 1975 . دمشق
تلك البلاد. 1978. لندن
طريق الى البحر . 1983 . باريس
مقاطعات وأحلام . 1984 . لندن
رحـيل . 1987. لـندن
أعوام . 1993 . منشورات دار الجمل . ألمانيا
بيروت – بغداد 2013
دببة في ماتم . منشورات الجمل، ألمانيا_2013
و للشاعر مجموعات أخرى , معدة للنشر
كما ترجمت كتاباته إلى لغات أخرى منها الانكليزية، الفارسية ، الكوردية والتركية.