د. علي مهدي*
جرت الانتخابات في تركيا يوم الأحد الموافق 31/3/2024 لانتخاب رؤساء بلديات 81 ولاية و973 منطقة و390 بلدة بالإضافة الى 50 ألف مختار لعموم الاحياء والمناطق، وكذلك لانتخاب عضوية مجالس المحافظات والمجالس البلدية في تركيا وقد شارك أكثر من 70% من الناخبين الذين يحق لهم التصويت، وهذه الانتخابات تجري مرة كل أربع سنوات وهي أحد المؤشرات لقياس حالة الراي العام ومفتاح للفوز للانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. وقد تقبل الحزب الحاكم نتائج الانتخابات التي تمخضت عن أكبر هزيمة له منذ 22 سنة من اعتلاء حزب الرفاه والتنمية مقاليد الحكم، واعتبرها انتصارا للديمقراطية في تركيا، وهي نتيجة طبيعية تصاب بها الأحزاب التي يطول فترة بقائها في السلطة بسبب الترهل بأجهزة الحزب والحكومة وغيرها من الاسباب.
انتخابات منقوصة
بعد سقوط النظام الديكتاتوري وانتهاج التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات وتبني نظام النظام الاتحادي ومبدأ اللامركزية الإدارية، والنجاح في انتخاب الجمعية الوطنية وخمسة دورات لمجلس النواب وثلاث دورات لمجالس المحافظات، أصبح لزوما استكمال العملية الانتخابية في العراق بعد إقرار الدستور بما يقارب من عشرين سنة باختيار مجالس الاقضية والنواحي والقرى والإدارات المحلية والبلديات والمخاتير عبر الانتخابات والتي تقوم بدورها باختيار رؤسائها والقادة الإداريين:( قائممقام، مدير ناحية، رئيس بلدية …) وتجاوز حالة التعيين من قبل السلطات الاعلى التي لازمت العراقيين منذ تشكيل الدولة العراقية وحتى هذه اللحظة باستثناء مجالس المحافظات، ان هذ النهج ساهم في ترسيخ قيام النظم الفردية والشمولية والديكتاتورية طوال تلك الفترة على حساب تربية الشعب من خلال المشاركة عبر صناديق الانتخاب باختيار قادته. وان التعيين دون انتخاب يعد منافيا للدستور الذي نص على ان الشعب مصدر السلطات وشرعيتها يمارسها بالاقتراع السري وعبر مؤسساته الدستورية، ولهذا فأن اختيار مسؤولي واعضاء التشكيلات الإدارية للدولة يكون عبر الانتخاب منسجما مع مبدأ اللامركزية الإدارية القائم على المشاركة الشعبية في اختيار الإدارات المحلية، وان غير ذلك هو منافي لجوهر النظام الديمقراطي.
تشريع موفق
لقد شرع مجلس النواب العراقي في دورته الاولى قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 مؤكدا للأسباب الموجبة للإصدار: نظرا للصلاحيات الكبيرة التي منحها الدستور العراقي النافذ للمحافظات وإدارتها وبما ينسجم مع الشكل الاتحادي للدولة والنظام اللامركزي الذي حدد المجالس وإجراءات تشكيلها وكذلك اختصاصات وصلاحيات كل منها وحدد أيضا تاريخ انتخابها في موعد أقصاه 1/10/2008.
ومع الأسف الشديد لم تجر أي انتخابات مجالس الاقضية والنواحي حتى هذه اللحظة وهذا قصور تتحملها القوى السياسية المتنفذة التي هي المستفيد الأكبر من ذلك لأنها في العادة هي التي تقوم بتعيين رؤساء الوحدات الإدارية دون إرادة الناخبين من سكانها، وكذلك القوى المعارضة من مدنيين وديمقراطيين بسكوتها المطبق، بل بالعكس قسم منها يدعو لرفض المشاركة.
الدعوة لانتخاب المجالس
يوجد في العراق بحدود 522 ناحية ومركز قضاء يتم تعيين قيادتها من قبل القوى المتنفذة في مجالس المحافظات واختيارهم من خلال ارتباطهم بتلك القوى دون انتخاب، وهذا يدعونا للمطالبة من أجل تفعيل قانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم رقم 21 لسنة 2008 الذي يتيح تشكيل مجالس الأقضية والنواحي عبر الانتخابات والتي بدورها تنتخب القائممقام ومدير الناحية ويعملون تحت رقابتها الدائمة بما يعزز المشاركة الشعبية وفق عملية انتخابية ديمقراطية وتتجدد كل أربع سنوات وفق مبدأ اللامركزية الإدارية التي نص عليها الدستور. مع العلم ان عند كل انتخابات مجالس المحافظات يتم تأجيل الانتخابات لمجالس الاقضية والنواحي. وهذا يجري على حساب البناء الديمقراطي للدولة، حيث أساس الديمقراطية يبدأ من التشكيلات الأدنى في الدولة ومنها تتدرج الممارسة حتى نصل قمة الهرم وهو مجلس النواب، حيث يتعلم الشعب الممارسة الديمقراطية من خلال اختياره للمختار وعضو المجلس البلدي ومجلس الناحية، وهي عملية تكاملية من ناحية الناخبين من جهة وكذلك للأعضاء المرشحين، فاغلب قادة الدول العريقة ببنائها الديمقراطي، يتدرجون في تحمل المسؤولية من عضويتهم في البدء من خلال المجالس البلدية ومنها يكتسبوا الخبرة والمهارة والتجربة وكذلك الناخبون ينشأ لديهم الحدس والتقييم المناسب لأداء أعضاء هذه المجالس من خلال الاحتكاك المباشر لأعمالهم وهي تشكل في النهاية مدرسة يتعلم منها الجميع.
يُقدر عدد أعضاء مجالس الاقضية والنواحي الذين يجب ان يخضعوا للانتخاب بحدود 7830عضو (إذا افترضنا معدل عضوية كل مجلس 15)، وهذا العدد من غير أعضاء مجالس البلديات والإدارات المحلية والمخاتير، ان اختيار هذه الاعداد الكبيرة نسبيا من خلال الانتخاب وعبر المشاركة الديمقراطية كل أربع سنوات، ستشكل ظاهرة دورية لترسيخ البنية التحتية للبناء الديمقراطي للبلد، فاستمراها بشكل دائم يوطد القيم الديمقراطية في المجتمع وتكون مدرسة حقيقية للتربية للمرشحين ولعموم الناخبين، ويعتاد المرشح لهذه المجالس ان وجوده مرتبط برضا المواطنين لما يحققه من خلال عمله وليس للسلطات العليا.
القوى المتنفذة والتعيين
ان اتباع نهج التعيين دون الانتخاب سوف يكرس هيمنة القوى المتحكمة في مجالس المحافظات وبالتالي يضعف من إمكانية التداول لاحقا فيها، لان مجالس المحافظات وحتى مجلس النواب يعتمد في الأساس على مسؤولي هذه التشكيلات في كسب الأصوات لهم، لما يملكونه من إمكانية في توظيف مناصبهم في الدولة لكسب الأصوات، وهذا ما نشاهده عند قرب الانتخابات على مستوى مجلس المحافظات او مجلس النواب حيث تسخر موارد الدولة في انجاز المشاريع الخدمية التي هي بيد هؤلاء في كسب الأصوات لهذا المرشح او ذاك.
مع الأسف الشديد بعض الشخصيات المحسوبة على القوى المدنية والديمقراطية تعتبر تشكيل المجالس للوحدات الإدارية هو بمثابة حلقة زائدة وبالتالي لا ضرورة لوجود هذه المجالس وبالتالي لا جدوى من المشاركة في الدعوة لانتخابها، وأن هؤلاء عمليا يريدون العودة بنا الى النظام المركزي وبالتالي تعيين هذه القيادات من قبل بغداد وهذا يكرس وجود الطبقة السياسية المتنفذة في الحكم لانهم يتركون امر تعيين مسؤولي هذه التشكيلات الإدارية المحافظ والقائممقام ومدير الناحية ورؤساء البلديات والإدارات المحلية بيد السلطة التنفيذية وبهذا عودة للنظم المركزية التي هجرتها اغلب دول العالم وتكريس لبقاء القوى المتنفذة وحرمان الشعب من ممارسة حقوقه بانتخاب المسؤولين عنه.
ان انتخابات مجلس البلدية في تركيا وما شكلته نتائجها تدعونا لرفع الصوت عاليا بتشكيل مجالس الاقضية والنواحي بشكل ديمقراطي وفق الانتخابات الدورية وخلق رأي عام ضاغط بهذا الاتجاه. وان انتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي وغيرها من التشكيلات أساس متين للمشاركة الشعبية وعنوان مهم للتبادل السلمي الدوري للمناصب الإدارية بما يعزز المسار الديمقراطي للبلد ولا يتيح الفرصة للنكوص عنه.
التعلم من التجارب المتراكمة
إن فشل عدد من المجالس المنتخبة في مهامها هذا لا يعني القبول بالعودة للنظام المركزي، ان هذا الفشل راجع لطبيعة القوى السياسية التي هيمنت على المشهد وكذلك لضعف الوعي السياسي للناخبين الذين يواجهون ممارسات هي جديدة عليهم ولم يعرفوا عنها الا في الكتب والمجلات، واعتقد الممارسة والتعلم من خلال الخطأ والصواب هي الكفيلة بنجاح هذه المجالس بأداء دورها الصحيح، وان اخفاق مجلس النواب دوره التشريعي والرقابي هذا لا يعني ان ندعو لمقاطعة الانتخابات لمجلس النواب وان البديل عنه بالعودة للنظام الديكتاتوري، انما الصحيح هو ببث الوعي ومن ثم الوعي لرفع من مستوى قدرة الشعب باختيار الأفضل دون ان تنطلي عليه الاعيب القوى المتنفذة.
ان الانتخابات البلدية التي جرت في تركيا فرصة للتحفيز والتمعن لدور القوى الشعبية عبر الانتخابات بتقييم قيادتها الادارية من خلال معاقبة المتقاعسين في خدمة ناخبيهم ومكافأة للذين حققوا الإنجازات، رغم وجود حزب حاكم مازال مسيطر على مفاصل الدولة الأساسية. وان هذه الانتصارات التي حققتها المعارضة ستشكل أرضية للتهيئة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.
وهذا ما يتطلب ان تقوم به المعارضة العراقية لنهج المحاصصة والفساد المستشري، من ان توحد صفوفها وطرح برنامج واقعي للانتخابات القادمة وان يكون على جدول الاعمال بتفعيل قانون المحافظات رقم 21 لسنة 2008، فالنجاحات الواقعية والراسخة تبدأ من الأسفل من مجالس الاقضية والنواحي ومن الاتحادات والنقابات لتصل الى اعلى الهرم وهو مجلس النواب وليس بالقفز بدون سلم، وهذا ما كان عليه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قبل أكثر من عشرين سنة عندما كان رئيس بلدية إسطنبول.
• نائب رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية