عصام الياسري
في عام 1964 قُبلنا في معهد الفنون الجميلة، الرائع صلاح جياد المسعودي والمدهش حسن شويل وكاتب هذه الحروف، وكانت لنا سمعة حميدة بين الطلبة كبصريين وكرسامين معاً. بعد سنة او أكثر تعرفنا على الأخ سامي الربيعي، الذي كانت له اهتمامات متنوعة وخاصةً ما يتعلق بالطفل وثقافة الأطفال.
كان الصديق سامي متحمساً لإصدار مجلة للأطفال وفاتحنا بالأمر، كنا، الراحلون الفنانون حسن شويل، بسّام فرج، صلاح جياد وفيصل لعيبي صاحي، يا لحزني وانا اتذكر هؤلاء الأحبة الذين رحلوا واحد تلو الآخر في الغربة التي أصبحت بالنسبة لنا غربتان وفي هذه الجلسة تعرفنا على الصديق بسّام، وبسرعة تآلفت قلوبنا وكأننا نعرف بعضنا منذ سنين.
رسمنا كل مواد المجلة وعلى ورق شفاف وكل منا اخذ موضوعاً خاصاً به وأذكر ان المجلة كانت باسم علاء الدين او شيء من هذا، لكن هذه التجربة لم ترى النور لضعف الإمكانيات، فنحن طلبة في المعهد ونعيش في القسم الداخلي وبسّام من عائلة كادحة بالكاد تستطيع تدبير امورها وسامي يعول على مجنون ومغامر مثلنا يملك المال والرغبة في جعل هذا الحلم يتحقق، بعد ان يأس من الجهات الرسمية في تمويله. لكن المجانين عادة يندر ان نجدهم في طبقة المترفين وخاصة في عالمنا المتخلف هذا.
ذات يوم جاءني الصديق الفنان الراحل أيضاً إبراهيم زاير ليخبرني بوجود وظيفة رسام في صحيفة ، فقدمت طلباً وقبلت فوراً بعد ان رأى المشرف العام على المشروع وأسمه علي منير وهو مصري الجنسية – جاء مع تقلبات الأوضاع في العراق بدعوة من حكومة عبد السلام عارف الذي كان قد جلب عدد كبير من الأشقاء المصريين الى العراق بما فيهم جنود وضباط لتدعيم حكومته التي تشكلت بعد انقلابه على حلفائه في حزب البعث الذين شاركهم الانقلاب الدموي على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث كان لعبد الناصر اليد الطولي في هذين الانقلابين المشؤومين وكبدا العراقيين عشرات الألوف من الضحايا والشهداء من خيرة ابناء الشعب المدافعين عن قيم المدنية والتحضر والديمقراطية – في هذه الجريدة، التي كما يبدو تمثل رأي الإتحاد الاشتراكي في العراق، وجدت كادرها يتكون من معظم جماعة ”مقهى المعقدين” الذين هزتهم الجرائم التي ارتكبها نظام 8 شباط الدموي الأسود عام 1963. مثل الشاعر مؤيد الراوي الذي كان سكرتير تحرير الجريدة حينها والكاتب المسرحي عارف علوان الى جانب الفنان عامر العبيدي وكذلك كان هناك الكاتب سهيل سامي نادر والشاعر عمران القيسي.
لكن بعد فترة تم تأميم الصحافة وتشكلت المؤسسة العامة للصحافة التي تشرف عليها وزارة الثقافة والارشاد وقتها، فتم تنسيبي الى مجلة إلف باء ضمن فريق عملها المؤسس، فالتقينا مجدداً الراحلان صلاح جياد وبسام فرج والعبد الفقير. فتوطدت العلاقة فيما بيننا مجدداً وكنا لا نفترق إلا في انتهاء الدوام فنذهب صلاح وانا الى مقهى ام كلثوم لترطيب الأعصاب ويذهب بسام الى مقهى المعقدين لإثارة الأعصاب، حيث ينتظره دعاة الثورة الدائمة والوجوديين واللامتين كما يطلق عليهم وقتها.
في ذلك المقهى كان بسام يتسلح بالأفكار والحكايات لصفحتيه في إلف باء الأسبوعية، لأنه كثيراً ما يحير بالمواضيع التي عليه تناولها، فتأتيه النجدة ممن حوله من الأصحاب مثل الراحل الفنان الفوتوغرافي جاسم الزبيدي او صلاح جياد وغيرهما من العاملين في مؤسسة الصحافة إذ يمدونه بالأفكار فيطير فرحاً ويأمر لهم بالشاي واحياناً نفر كباب لكل واحد منهم.
كانت ألف باء في بدايتها أكثر مرونة وانفتاحا لكنها بعد انقلاب 17 – 30 تموز عام 1968 تحولت الى مجلة تأتمر بأوامر حزب البعث وخطه الفكري والسياسي، ولهذا فقدت شيئاً من لمعانها الأول وحياديتها النسبية في تناول الأمور.
أصبح بسام وكل من على شاكلته من الخارجين عن السرب يشعرون بالقبضة التي بدأت تشتد على نوع المواضيع المراد نشرها أو التثقيف بها. لكنهم كانوا يجدون دائماً ثغرات للتعبير عن أنفسهم بشكل مقنع وغير ملفت للنظر عموماً.
بسام شخصية ودودة ، مسالمة، ينصت كثيراً لمحدثه وهو قليل الكلام عموماً، ومن جميل الصدف ان الرسام الكبير غازي كان يعمل في دار الجماهير للصحافة – صار اسمها هكذا بعد إسقاط نظام عبد الرحمن عارف، ولهذا فكنا نحن العاملين في هذه المؤسسة نعيش مع مبدَعَيْنِ لكل واحد منهما طريقته الخاصة وشخصيته المتميزة، لكن غازي وقتها كان يخط العناوين وبعض الموتيفات وليس رساماً ساخراً، بعد ان فقد حماسته الأولى ، وربما أدرك ان أسلوبه لم يعد مناسبا للمرحلة الجمهورية وهي ”جمهورية خاكية ” حسب تعبير عبد السلام عارف، لا تحب النقد ولا السخرية أبداً فرضيَ بما هو موجود لسد الرمق وقد ظهر ذلك بوضوح في رسومه الأخيرة خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وربما كان عدم قناعته بما يرسم سبباً في عدم اهتمامه بالرسوم التي نفذها بناءً على طلبات النظام بضرورة مساهمة الجميع في دعم الحرب والدعاية لها او تمجيدها. وكانت الواقعية الساخرة بوصلته وهدفه معاً. اما بسّام فقد خطى الخطوة التي لم يخطوها غازي في الرسم الساخر، وربما لم يدركها، وأقصد تحديث الرسم الساخر، وهي المهمة التي اخذ بسّام على عاتقه القيام بها وقد فعل، فتخلص الرسم الساخر مع بسّام من تأثير الفنان غازي وانتقل الى الحداثة مباشرةً.
لقد تحول الفلاح، المواطن وجهاز الدولة البيروقراطي عند بسام الى شخصيات تحمل مواقف ورؤى فلم يعد الفلاح ذلك الجاهل والساذج التي يمكن الضحك عليه او جعله أضحوكة للجميع، كما أصبح المواطن يأخذ ادوار مختلفة، فهو مرة ثوري ومرة انتهازي ومرة مرتشي ومرة عميل، مرة سكير ومرة حكيم، تبدلت الأدوار والأقنعة والمهام وصار الموضوع السياسي أكثر وضوحاً وجرأة وأصبحت الدولة ورموزها محط نقد ومساءلة ولو عن طريق الضحك والسخرية.
خطوط بسام بسيطة سهلة قليلة التفاصيل ليس فيها حذلقة ولا تعقيدات الرسم الساخر السابق عليها وأحياناً يكتفي بالرسم الذي يعبر عن نفسه بدون تعليق، وقد ادخل بعض التحسينات على رسومه من خلال استخدام الشبك وبعض حيل اللصق (الكولاج) التي ظهرت في رسوم الصحف الأجنبية عموماً، فيضفي على الرسم رونقاً مختلفاً لم يألفه الرسم الساخر العراقي من قبل.
ولما كان بسّام رساماً ساخراً ويتناول القضايا السياسية الساخنة، فهذا يعني ان له رأي خاص بما يجري حوله وليس هذا فقط، بل عليه ان يختار موقف ما من بين المواقف التي يجدها امامه وتشغل بال المواطن ولها علاقة بالوطن وعموم الناس. وهكذا نراه ينحاز الى القوى التقدمية والديمقراطية واليسارية بالذات، ومع انه يسمع كل يوم شكاوى زبائن مقهى المعقدين وتأوهاتهم ونقدهم لليمين واليسار” التقليدي” كما يسمونه، إلا انه عرف تماماً تشخيص القوى التي يجب ان ينحاز لها، فكان انتماؤه الى الحزب الشيوعي الحل الأمثل لفنان يقف مع الناس ويدافع عنهم في مضامين رسومه وسلوكه اليومي.
في هذا الجو اكتمل وعي الفنان بسّام ومن خلاله بدأ يقدم مواضيعه التي اصطبغت بالصبغة السياسية أكثر من معالجة المشاكل الاجتماعية العامة. وقد سار على هذه التصورات جيل من الكتاب والشعراء والفنانين وحتى السياسيين من الحزبيين. لكن الأحزاب اليسارية وخاصة الشيوعية منها كانت غير مستوعبة لمثل هذا التغيير في المزاج وغير قادرة على تفهم أسبابه الحقيقية أو ربما لا تريد معرفتها، وحتى على المستوى الأوروبي نجد من وقع فيه من احزاب عريقة مثل الحزب الشيوعي الفرنسي في موقفه من أضراب الطلبة في باريس عام 1968 وكذلك موقف الحزب الشيوعي الجيكو سلوفاكي من حركة الاحتجاجات في براغ ونعرف ما جرى لمسيرات الهيبيز في شوارع نيويورك وواشنطن.
كان فقيدنا الراحل بسّام فرج في محاولاته وما انجزه من نتاج فني ثمين، الجسر الذي عبر عليه الجيل الذي تلاه وتأثر به ومد أفق الرؤية ووسع مداه الى ما نراه اليوم من تنوع باذخ ومميز ومثير للدهشة لدى العديد من مبدعينا من فناني الرسم الساخر، ابتداء من الراحل مؤيد نعمة والسلسة الذهبية التي تشكل اليوم حركة مؤثرة وفاعلة وتلعب دوراً مهما في فضح قوى الفساد والتخلف والظلام وتساهم مساهمة فعالة في تدعيم مفاهيم المواطنة والدولة المدنية والتقدم والسلام ولكثرتهم أخشى ان انسى منهم أحداً فأُتَهَمْ بالتحيز مع تحيتي وافتخاري بهم جميعاً.