بيوراسب داريوس
كان الرُمّان رمزاً دينياً عند شعوبٍ كثيرة منذ اكتشاف زراعته الى الوقت الحاضر، وخاصةً عند شعوب غربي آسيا، حيث انبثقت زراعة شجرة الرُمّان من كوردستان في عهد السومريين والخوريين والكاكائيين وانتقلت منها الى الهند والمناطق الأخرى من العالَم، حيث اهتم الإنسان بالرُمّان منذ العصور القديمة، وكان مقدّساً عنده.
على سبيل المثال عُثِرت في قصر في مدينة أوروك السومرية على زخارف للرُمّان مرسومة على مزهرية، عُمرها خمسة آلاف سنة وكان السومريون يُسمّون الرُمّان (nu-úr-ma).
نرى أنّ اللغة الكوردية لا تزال تحتفظ بالاسم السومري للرُمّان، الذي هو (نار NAR أو هَنار (HENARالسومريون الذين كانوا أصحاب أقدم الثقافات الزراعية، كانوا يُقدّمون الرٌمّان إلى الإلهة إنانا (Innana) حيث كانوا يعتبرون الرُمّان من المُقدسات، فهو كان رمز الخصوبة وهذا الرمز قد يعود الى كثرة بذور الرُمّان.
كان الرُمّان مُقدّساً أيضاً عند اتحاد القبائل الكاكائية التي أفرادها كانوا يعتنقون الدين اليارساني، حيث كان الكاكائيون يعيشون في المنطقة الممتدة من كوردستان الى الهند قبل أكثر من (3800) سنة.
وكانت لهم مملكة باسم مملكة (كاكە يى) لم ينقل السومريون زراعة أشجار الرُمّان فقط، بل انتقلت أيضاً قُدسية الرُمّان منهم الى الشعوب الأخرى، حيث انتقلت قُدسية الرُمّان من السومريين الى الآشوريين خلال الألفية الثانية قبل الميلاد.
كما أنّ الرُمّان مذكور في التلمود البابلي وكانت تتم زراعته في مصر قبل زمن موسى، حيث ظهرت شجرة الرُمّان في الأساطير المصرية وفي الفن المصري وأشاد بها كتاب العهد القديم والتلمود البابلي.
كما تمّ العثور على أشجار الرُمّان في وادي السِند في وقتٍ مُبكّر جداً وأنّ هناك ذكرٌ للرُمّان في الكتابة السنسكريتية. لقد ألهمهَم الجَمال الداخلي للرُمّان، فأنّ الرُمّان كان مُقدّساً عندهم منذ آلاف السنين واستمرت قُدسيته عندهم الى الوقت الحاضر، حيث أنّ الرُمّان من الثمار المُهمة التي يتم تداولها في الاجتماعات الدينية(جەم) Cem الخاصة بِتوزيع الفواكه على الحاضرين في الاجتماع وعلى الناس الآخرين الذين ينتظرون خارج غرفة الاجتماع (جەمخانە (Cemxane) لاستلام حصصهم من هذه الثمار بعد أداء مراسيم دينية من قِبل ال پیر (Pîr) الذي يرأس الاجتماع و يكون مساعده ال(مامMam ) ويُشارك آخرون أيضاً في الاجتماع.
جاء في الكتاب المُقدّس (اليارساني سەرئەنجام) Serencam)) أنّ مُجدّد الدين اليارساني (سان سَهاك) أعطى عصا (شاه إبراهيم) الى (پیر إسماعيل كۆلاني) لِكي يزرعه. بعد عدة سنوات، نما العصا وأصبح شجرة رُمّان مُثمِرة. عندما حملتْ شجرة الرُمّان المذكورة، الثمار تمّ قطفها وجعلها كجەماتCemat)) التي تقابلها في اللغة العربية (نذر) خلال اجتماع ديني. بعد الانتهاء قامت سادِنة غرفة الاجتماعات الدينية (جەمخانە Cemxane) وكان اسمها (داده سارا) بنت (پیر ميكائيل)، بِتنظيف ال(جەمخانه Cemxane) التي تمّ فيها الاجتماع الديني وتم خلاله تقديم الرُمّان كَنَذْر، عثرتْ (داده سارا) على حبّة رُمّان واحدة في أرض ال(جەمخانە)، فأكلتْها لأنها مُقدّسة ولا يمكن تركها في الأرض، حيث أنها من بقايا نذر الاجتماع الديني. بعد مرور بعض الوقت، شعرتْ (داده سارا) بِأنها حامل وبعد ذلك ولدتْ طفلاً، سمّوه (باوه یادگار). أخذ الناس ينظرون الى (داده سارا) بِعَين الريبة والشك والاحتقار من جرّاء ولادتها دون أن تكون متزوجة. لذلك أمرَ (سان سهاك) أحد أصحابه السبعة (داود كەوەسوار)، أن يرمي الطفل المولود (باوه یادگار) في التنّور لمدة ثلاث أيام بعد إشعال النار في التنّور. بعد مرور الأيّام الثلاث، تمّت إزالة غطاء التنّور وخرج (باوه یادگار) منه سالماً، غير محترق. هذه القصة هي امتداد لِقُدسية الرُمّان وكونه رمزاً للخصوبة عند أسلاف الكورد السومريين والخوريين والكاكائيين.
يذكر الكتاب المقدس اليارساني أيضاً أنّ الرُمّان ثمرةٌ لذيذة ودواءٌ للجروح والأمراض. يُثبت العِلم الحديث صحة المعلومات الواردة في الكتاب المقدس اليارساني.
من الجدير بالذكر، أنّ اليارسانيين يقومون بِتوزيع الرُمّان في الاجتماعات الدينية في حالات الخطوبة والزواج أيضاً. لأهمية باكورة الأشجار والخضروات والمحاصيل الزراعية واستمرارا لِتقاليد أسلاف الكورد القدماء، يقوم اليارسانيون بِتوزيع أول وجبة من الثمار التي تحملها الأشجار المُثمرة أو نباتات الخضروات في اجتماع ديني (جەمCem) وتُسمى هذه الثمار أو الخضروات بِ(نوێبەرە Nwêbere) التي هي كلمة كوردية تعني (باكورة المحصول). من الجدير بالذكر أنّ كلمة (جەمCem) هي كلمة كوردية أصيلة وأنّ الكلمات العربية المتعلقة بكلمة (جمع)، مثل (جماعة، مجموع، مجموعة، اجتماع، جمعة، جِماع) وغيرها من مشتقات كلمة (جمع)، هي مأخوذة من الكلمة الكوردية (جەم Cem) التي لا يزال يحتفظ بها معتنقو الدين اليارساني.
من منتصف أكتوبر وحتى أوائل نوفمبر، يحتفل الكورد بأهينجو هنار (مهرجان الرمان)، الذي يُطلق عليه أيضًا اسم أهينجو ياري (حفل الأخوة).
يبدأ المهرجان بصلاة الشكر على مباركة الحصاد، ثم تعزف الموسيقى التقليدية والرقص. ثم يذهب الناس إلى البساتين ويقطفون الرمان. بما أن الرمان في الثقافة الكوردية هو رمز التقديم، خلال المهرجان يتم طهي الطعام وتقديمه للحاضرين. بمجرد أن يتم تناول الطعام وتقديم الرمان، تبدأ مجموعات الدف، المكونة من عشرات أو مئات الأشخاص، بلعب ديف وتمبور.
في بعض مناطق كوردستان، هناك دمية تمثل الآلهة آنا (أناهيتا) -إلهة الحب والخصوبة والمياه- تحملها امرأة ترتدي ملابس حمراء، تليها عدة نساء يرتدين ملابس كوردية ملونة (معظمها أحمر) يحملن الرمان المحصود حديثًا. يعتقدون أن الرمان هو ثمرة آنا، ولونه الأحمر مرتبط بإله الشمس ميثرا -إله الحب والنور والأخوة.
ترتبط الثقافة والمعتقدات الدينية الكوردية ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة والأخوة والتعاون (“هنا” باللغة الكوردية) وهي أيضًا ذات قيمة عالية. لذلك فإن جميع الاحتفالات الكوردية وأسماء الأشهر والمهرجانات الموسمية تأخذ أسمائها من الطبيعة ومن المنتجات التي تقدمها الطبيعة ومن ألوان الطبيعة..