جماعة كركوك الادبية
د. توفيق رفيق التونچي
القسم الرابع
الدكقورعبد الله ابراهيم عبد الله
اما الصديق الدكتور عبد الله ابراهيم عبد الله فيحدثنا عن اسماء اخرى قائلا:
كان إسماعيل إبراهيم موظفًا في بلدية كركوك، عربي ينظم شعرًا بالتركمانية، ولكنه يكتب قصصه القصيرة بالعربية في محاكاة خلَّاقة لواقعية تشيخوف، فالتداخل الثقافي، والاندماج الإنساني، حلَّ مكان الخصوصية المغلقة، ولم أسأله عما يعدُّ من «الازدواج اللغوي» فقد تعايشنا في منأى عن الانتماءات الضيقة، فالألقاب العربية شائعة بين الأدباء من قوميات غير عربية، المثال الأشهر عائلة العزاوي. لم يزعجنا الازدواج الثقافي، إنما كنا نعدُّه من صلب هوية المدينة؛ فكركوك سبيكة من التنوع الكردي، والعربي، والتركماني، والآشوري، والكلداني. وإسماعيل واحد من النماذج الكثيرة في كركوك التي تفكِّر وتعبِّر بلغتين، وقد برع فيهما، فينطبق عليه وصف الجاحظ لأبي موسى الأسواري في إتقان العربية والفارسية.
أما عواد علي فأمضى طفولته في محلة «بريادي» التي يمتزج فيها التركمان بالأكراد بالعرب في بيت يعود ليهودي هُجِّر إلى فلسطين نهاية الأربعينيات. والبيت خان كبير تسكنه ست عشرة عائلة؛ فامتزج في مجتمع متعدد اللغات، والأعراق. وقد جمعتنا المدرسة المتوسطة والثانوية، وسكنَّا حيًّا واحدًا، ومثلي نزح أهله إلى المدينة من منطقة القبائل العربية، وكان يعتز بلقبه «المعماري» الذي تخلَّى عنه بعد أن تخليّت أنا نفسي عن لقبي «الحمداني» منذ سنوات احتقارًا للانتماءات العشائرية؛ لأنها لا توافق الرؤى الفكرية التي نؤمن بها. تعلَّق بالتمثيل المسرحي، وهو موهوب فيه على النقيض منِّي، وكان ولوعًا بارتداء ملابس صارخة الألوان في مراهقته، يعنى بأناقته، وهندامه، وتسريحة شعره الطويل الذي تلاشى بعد ذلك. وعُرف في الثمانينيات ناقدًا مسرحيًّا، وأنجز أطروحة عن السيميولوجيا في المسرح العراقي، ثم أصبح أستاذًا في جامعة بابل. وبعد مغادرتي العراق في عام 1993 بسنة غادر إلى الأردن حيث عمل باحثًا في المعهد الملكي للدراسات الدينية، ثم هاجر إلى كندا، ومُنح جنسيتها.
على أنّ أكثرهم تأثيرًا فيَّ هو جان دمّو الذي رجع من بيروت قبل نحو سنة من تكوين الجماعة، فألِفْنا اللقاء في المقاهي. كان جان يلوك الأسماء المدهشة لكبار الكتَّاب والشعراء في العالم، ويمضغها، كأنه تربّى مع أصحابها في حضانة للأطفال، ويصدر صفيرًا تعجبيًّا طويلًا حينما نذكر أمامه أيًّا منهم، فيما كانت أسماؤهم تهيّج المهابة في نفسي، كأنها لنخبة من الأولياء، وكنت لتوِّي أستكشف تلك القارة العجيبة. رحل جان إلى بغداد قبل أشهر من التحاقي بجامعة البصرة، ومكث فيها زهاء عشرين عامًا قبل أن يغادرها إلى الأردن في منتصف التسعينيات، ثم رحل عنها إلى أستراليا حيث تُوفِّي نائيا عن العراق في 8/5/2003.
بيئة مدينة كركوك التعددية انعكست في اعمال ادباء كركوك وحتى ابان لقاء هؤلاء الطيبين من ابناء الوطن. جميع الكتاب ابدعوا باللغة العربية رغم انتمائهم القومية والثقافية المختلفة والجدير بالذكر ان العديد منهم لم يحظي بالمعاملة المتساوية من قبل الباحثين والدارسين ولعل اسماء ك المرحوم زهدي الداوودي، محيي الدين زنكَنه، يوسف الحيدري وعبد الطيف بندر اوغلو وعلي سعيد السعيدي وحسين علي الهورماني و نور الدين الصالحي عصمت الهرمزي و نجيب المانع وعباس عسكر وصلاح فائق و علي شكر السباتي سعيد افضل مثال على ذلك.
” .. وحده الصُّوفي، يستطيع أن يرتدي أسماله البالية
ويسير في أسواق مدينة كركوك ..
توارى ذلكَ الصُّوفي وكتبَ على عمود المرمر
أنا أصطاد حجل الجبال الشِّمالية،
ثمَّ أرحلُ صوب الصَّحراء العربيّة لأصطاد قبَّرة العقل” …
الاب يوسف سعيد
يذكر الكاتب القدير عوني الداوودي ما يلي عن احد أدباء المجموعة ” الأب يوسف سعيد:
“… جعل من الكنيسة مكاناً للاجتماع ، واللقاء ، والنقاش حول القصيدة والجديد في الأدب العالمي . وتحتل كركوك مكاناً خاصاً في ذكرياته ويحدثه الاب يوسف سعيد الذي قضى الفترة من عام 1955 الى 1971 في كركوك قبل ان يرحل عنها متوجها الى بيروت قائلا :
” كان شارعان يمتدان في تلك المدينة الباهرة ، في أحدهما ، وفي أمسية ما ، التقيت بشاعر بسيط جداً ، دلني بإصبعه إلى بقية الشعراء والكتاب . فارق العمر والعمل اليومي ، كانا يفصلاننا ، بالأحرى يفصلانني عنهم ، إذ كنت قساً مسؤولاً ، أعيش في شارع أسمه شارع المحطة ، حين إلتقيتهم كانوا شباباً مراهقين ، بدل أن يقرؤوا كتب الغزل وجدتهم يلاحقون أفضل ما في الأدب العالمي من رواية وشعر ” ……….. ” وأغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرسوا حياتهم تماماً للثقافة والشعر ، يعيشون بزهد ، بلا طموحات مادية أو وظيفية ، وبقوا هكذا حتى الآن . ما يدهش إلى اليوم ، هو أن هؤلاء جميعاً ، حين التقيت بهم ، كانوا في قلب الثقافة العالمية ، يبحثون عن الجديد ، واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي . وينتهي ” أبونا ” إلى التمني:
ليتنا ، وأقصد كل المجموعة ، نلتقي ونحج ، كل عام ، تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا.
أمنية لرجل دين و شعر… أمنية إنسانية تحمل عصارة الموروث العقائدي السلمي لإنسان الرافدين، أمنية الأب يوسف سعيد ينعكس نورا بروحية الناسك المتعبد حين ينشد للمدينة والوطن:
يقول الاب يوسف سعيد بروحية الناسك المتعبدعن مدينته:
الدكتور زهدي الداوودي
اعد الداوودي مع صديقة فاضل العزاوي القائمة التالية للرواد الأوائل لجماعة كركوك:
- يوسف الحيدري (1934 – 1993)
- قحطان الهرمزي (1936 – 2009)
- أنور الغساني (1937 – 2009 ) كان اسمه في البداية ( أنور محمود سامي)
- فاضل العزاوي (1940)
- مؤيد الراوي (1939)
- زهدي الداوودي (1940)
- جليل القيسي ( 1937 – 2006 )
- الأب يوسف سعيد (1936)
- محي الدين زه نكنه
- صلاح فائق (1940)
- سركون بولص (1944- 2007)
- جان دمو (1943- 2003)
- عبد اللطيف بندر اوغلو (1937- 2008)
لذا ساكون ملزما في بحثي هذا بهذاه القائمة مع معرفتي بوجود اسماء اخرى استمرت في تلك المسيرة الادبية والى يومنا هذا. كانت تلك الجماعة من الشباب تعقد اجتماعات سرية منتظمة قبل ثورة 14 تموز عام 1958. قررت المجموعة إيقاف نشاطاتها بعد ان القي القبض على المرحومان الأستاذ الغساني والهرمزي. وكانوا ينشرون نتاجاتهم الأدبية في الصحف المحلية وساهم بعضهم في تحرير مجلة الشفق الصادرة في كركوك، التي كان يشرف على قسمها العربي القاص عبد الصمد خانقاه.
بعد ثورة 14 تموز 1958 توسعت الجماعة وضمت مجموعة من النشيطين في الميدان الثقافي منهم علي حسين السعيدي ونور الدين الصالحي وعصمت الهرمزي وغيرهم. رغم ان بوادر تجمع مجموعة من شباب كركوك “جماعة أبناء الشقاء” بدا ابان الحكم الملكي وقبل ثورة 14 من تموز 1958 على أسس سياسية وأدبية. استمرت على الأقل فكريا على نفس النهج إبان سنوات الثورة حتى انقلاب شباط عام 1963 الذي ادخل البلاد في نفق مظلم لا يزال اثره يعمل بنفوس الناس وينخر ذاكرتهم. على اثرها تم القاء القبض على كل من أنور الغساني، فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأما زهدي الداوودي، فالتحق بالثورة الكردية وما لبث أن ألقي القبض عليه في تموز 1964 ونفذ بحقه الحكم الغيابي الصادر من المجلس العرفي الرابع لمدة سنتين، قضى محكومتيه في سجون بعقوبة والرمادي والحلة، حيث ترك السجن الأخير تاركا وراءه رفاقه : فاضل ثامر، يوسف الصائغ، جاسم محمد الجوي، مظفر النواب، هاشم صاحب، نعيم بدوي، ألفريد سمعان، صادق قدير الخباز و هاشم الطعان وغيرهم وذلك في آب 1966.
كان كل من أنور وفاضل ومؤيد قد أطلق سراحهم في نهاية العام 1963 اثر انقلاب تشرين من نفس العام الذي قام به المشيرعبد السلام عارف على البعثيين حيث بدا بزيارات مكوكية الى المدينة وعلى اثرها تم تنفيذ الإعدام بكوكبة من المناضلين الكورد اتهموا بالمشاركة في حوادث تموز 1959 التي سآتي لاحقا الى ذكرها. هؤلاء الأصدقاء عملوا مع رفيقهم سركون بولص خلال الفترة ما بين اعوام 1964 – 1966 في الصحافة الرسمية والقيام بضجة في الوسط الأدبي الذي حكم عليه إنقلابيوا شباط من البعثيين بالركود. نجحت المجموعة في إنعاش الحياة الثقافية والأدبية بالحداثة والحيوية. ولكي يتم تمييزهم عن أدباء الألوية المتجمعين في بغداد، أطلقوا عليهم لقب (جماعة كركوك). الحركة الأدبية والفنية ومنذ ذلك اليوم ولحد يومنا هذا لا تزال المدينة تقدم قافلة من المبدعين و تفتخر ببروز العديد من الفنانين التشكيلين والأدباء الذين رفدوا الحركة الأدبية العراقية بأسماء لامعة شاركت في نهضة الحركة الأدبية الإبداعية وطورت في حركات تحديثية لكسر طوق ذلك التقليد الأعمى للموروث الأدبي الكلاسيكي. نرى هنا بان تسميات جديدة لتلك الأسماء أللامعة تذكر كما هي عليها في تسمية جماعة كركوك الثانية . لكننا نرى بان الجماعة في واقع الأمر آثرت على مجمل الحركة الأدبية في المدينة ليس فقط بروادها الأوائل بل بتأسيس تقليد أدبي جديد وتطوري في المدينة أخذت بالمشاركة في مسيرة الثقافية العراقية والعالمية. ونرى ان أثر الحركة لا يزال فعالا ونشطا لحد يومنا هذا.
ان الكثير من أدباء المدينة المعاصرين لتلك الفترة التاريخية لم يحظوا بالمعاملة المتساوية من قبل الباحثين والدارسين ولعل أدباء امثال زهدي خورشيد الداوودي و قحطان الهرمزي ، محيي الدين زنكَنه وعبد الطيف بندر اوغلو، يوسف الحيدري وعلي حسين السعيدي وحسين علي الهورماني و نور الدين الصالحي عصمت الهرمزي وعباس عسكر وصلاح فائق و علي شكر السباتي سعيد و جان دمو أفضل أمثلة على ذلك. هنا سأكون على حياد تام فيما يخص الانتماءات السياسية والفكرية للأدباء آنذاك في محاولة لطرح موضوعي للعملية الإبداعية من ناحية ومن ناحية اخرى ارى بان السلوك البشري يعكس تماما كنه الأنظمة التي تعيش في كنفها كنتيجة لتفاعلات وانعكاسات ثقافة الأحزاب الشمولية وحكومات العسكر الفاشيين على كافة نواحي الحياة هؤلاء الذين حولوا البلاد الى سجن كبير لابناء الشعب.
هنا تجدر الإشارة ان الرواية أخذت مساحة واسعة من اهتمام الأديب زهدي الداوودي الذي راح يفتش في موطن الطفولة عن كل مضطهد ليترجم حياته بتفصيل دقيق عن بيئة سهل كركوك المسمى ب “كرميان- المنطقة الحارة” ذو الخصوصية الثقافية والعقائدية والاثنية التعددية.