دراسة تكشف ما توصلت إليه زيارة رئيس الوزراء الأولى لإيران من ضمنها لقاء المرشد

متابعة التآخي

سلطت دراسة الضوء على نتائج الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني إلى ايران مشيرة الى أنه رغم قرب الحكومة الحالية من إيران إلّا أنّ بعض معطيات القوة على الأرض والتوازنات الداخلية والخارجية قد تحد من قدرتها على إحداث تغييرات جذرية في سياسة بغداد تجاه بعض الملفات التي تهم إيران.

  

 

وأضافت الدراسة التي أعدها الأكاديمي “د. إحسان الشمري” ونشرها مركز الإمارات للسياسات، تابعتها “التآخي” (9 كانون الأول 2022) أن الملفات العصية على التغيير هي التعامل مع المعارضة الكوردية الإيرانية في كوردستان، ومسار العلاقات الاقتصادية، ومستقبل الوجود الأمريكي في العراق.

 

فيما يلي نص الدراسة:

شكلت زيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لإيران، في نهاية نوفمبر الماضي (2022)، حدثاً سياسياً لافتاً، نظراً للعلاقة التي تربط التحالف الحاكم بقيادة “الإطار التنسيقي” بطهران، والدعم الإيراني المبكر لحكومة السوداني، ونوعية الملفات الحساسة التي طرحت خلال الزيارة. ومن الأمور التي لفتت المراقبين، أن زيارة السوداني لطهران جاءت مع إكمال الشهر الأول من عمر حكومته، وتلت زيارتين قام بهما إلى الأردن والكويت، كَسَرا العرف الذي لا يُتيح لرئيس وزراء جديد بالقيام بجولة خارجية إلا بعد المئة يوم الأولى المخصصة لترتيب أوراق حكومته الداخلية.

 

زيارة بروتوكولية أم محطة لاستعراض النفوذ الإيراني؟

أحدثت زيارة السوداني الأولى إلى إيران جدلاً سياسياً أولياً حول توصيفها، ومن ثم تصنيفها وتقييمها من حيث النتائج؛ فيما إذا كانت زيارة بروتوكولية أم بوصفها مظهراً لتنامي النفوذ الإيراني، أم كونها استجابة لحاجة عراقية في المقام الأول. لقد اعتادت إيران، خلال العقدين الأخيرين، على توجيه دعوات رسمية لرؤساء الحكومات العراقية لزيارتها في إطار الدبلوماسية البروتوكولية حال منحهم الثقة من البرلمان العراقي، وتكون تلبية الدعوة وتوقيتها – في حدود معينة – خاضعة لعدة اعتبارات سياسية، وترتيبات تتلاءم مع السياق المعقَّد لعلاقات العراق الخارجية.

 

ومن الملاحظ أنّ زيارة السوداني لإيران حدثت بعد أسبوع واحد من زيارة غير معلنة -كالعادة- قام بها إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الإيراني والمسؤول عن ملف العراق، إلى بغداد، هي الأولى له بعد تشكيل حكومة السوداني التي كان قاآني منخرطاً في بناء تحالفاتها السياسية. وبذلك فإن قاآني قد يكون بحاجة لزيارة السوداني من أجل تدعيم قوته في الداخل الإيراني، لاسيما أنّه واجه انتقادات وضعته في موضع المقارنة مع قاسم سليماني وما اعتُبر نجاحات للأخير في حسم تشكيل الحكومات العراقية، في مقابل تعثُّر قاآني وضعف قدرته على ضبط الملف العراقي بشكلٍ يحفظ المصالح الإيرانية العليا.

 

 

يُضاف إلى ذلك، فإنّ التلويح بتمدد إيراني على الأراضي العراقية، بعد إعلان قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني إرسال وحدات مدرعة وقوات خاصة للحدود مع كوردستان العراق في إطار تصعيد المواجهة مع الجماعات الكوردية الإيرانية المعارضة والمتموضعة في كوردستان العراق، ومنْح مهلة مشروطة لعدم الاقتحام العسكري، يُعطي هذه الزيارة أهمية خاصة. فوجود السوداني في طهران، والاحتفاء به، سيخدم الدعاية الإيرانية عبر إظهار أنّ طهران كسبت حكومة حليفة لها في بغداد وقادرة على تفهُّم خطوطها الحمراء ومصالحها، بل وأنّ هذه الحكومة ما كانت لتتشكل لولا الدعم الإيراني لها، ووقوف إيران بوجه محاولات المقتدى الصدر تشكيل حكومة بمعزل عن حلفائها في “الإطار التنسيقي“.  

من ناحيته، يُعوِّل السوداني على أن يكون للزيارة تأثير مهم في تشكيل علاقات العراق مع إيران، محاولاً تقديم حكومته بشكلٍ مغايرٍ عن حكومة مصطفى الكاظمي التي لم تترجم الاتفاقات السابقة مع إيران على أرض الواقع، كما لمّح المرشد الإيراني علي خامنئي. كذلك فإن تأمين الدعم لحكومته من رأس السلطة في إيران يُخفِّض من مستوى ضغوط داعميه المحليين المقربين من إيران والطامعين بتحكم أكبر بالدولة على حساب توجهات السوداني ورؤيته لإدارة السلطة التنفيذية؛ فهو يواجه رغبة غير متناهية من حلفاء إيران لغرض ابتلاع مؤسسات الدولة وإعادة تشكيلها وفق معايير الولاء الحزبي والطائفي.

 

كما وجد السوداني الفرصة مناسبة للظهور بوصفه رئيسَ وزراء قادراً على الحفاظ على المصالح العراقية العليا، وهو ما انعكس على توقيت الزيارة وملفاتها الضاغطة وقدرته على استدامة رصيد العلاقة المتراكم بين بغداد وطهران لإنجاح ملف السياسة الخارجية لحكومته، أولاً من خلال تأجيل أي نية إيرانية لخرق السيادة العراقية وعبور الحدود، وثانياً عبر مواصلة أداء دور الوسيط بين الرياض وطهران، خصوصاً مع إعلان مكتبه أنّه سيسافر إلى الرياض لحضور القمة العربية – الصينية، وثالثاً عبر إعادة ضبط التوازنات الصعبة بين واشنطن وطهران.

وفي المحصلة، يمكن القول إن الزيارة مزجت بين رغبة السوداني بالحصول على الدعم الإيراني لحكومته، وهو ما عبَّر عنه بشكلٍ واضحٍ لقاؤه بالمرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي كان قد امتنع عن لقاء مصطفى الكاظمي في زيارته الأخيرة إلى طهران، وبين إظهار الجدية بخصوص ايجاد حلول للملفات الإشكالية في العلاقات بين الدولتين.

 

ملفات طهران وإيقاع السوداني

لا يمكن القفز على حقيقة الانخراط الإيراني في شأن تشكيل صيغة سياسية تمكَّنت فيها من رسم معادلة سلطة تستطيع من خلالها تأمين مساحة نفوذها في العراق، لذا كان الحضور الدائم لقائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني، ومحاولاته رأب الصدع داخل البيت السياسي الشيعي بين زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وبين قيادات “الإطار التنسيقي” الشيعي.

وعلى رغم تعثُّر هذه المهمة، فإنها أنتجت إزاحة للكتلة الصدرية (الفائز الشيعي الأكبر)، الأمر الذي مهّد لإعادة صياغة التحالفات السياسية والبرلمانية باتجاه تشكيل حكومة توافقية يقودها “الإطار التنسيقي“.

 

ووجدت إيران أن اختيار شخصية السوداني الذي ينتمي لحاضنة الإسلام السياسي الشيعي يُعزز من تفوقها في الداخل العراقي، ويجعلها أكثر اطمئناناً لمسارات العلاقة بين الطرفين، الذي يضمن تحقيق المصالح الإيرانية بشكل أكثر فعالية. وفي ذات الوقت لا تريد طهران العودة إلى تجربة صنْع رئيس وزراء على الطراز الإيراني خاضع لها، وهذا ما جعلها تقدم دعماً غير مسبوق لحكومة السوداني وصل إلى إشادة خامنئي علناً بشخصيته.

 

لكن في النتيجة، من الواضح أن السوداني سيواجه تحديات صعبة عندما يتعاطى مع الملفات الأساسية في علاقات الطرفين، ومع أنّ حكومته ستكون في كل الأحوال أقرب إلى طهران، وأكثر تطميناً لهواجسها من حكومة سلفه الكاظمي، إلّا أنّ بعض معطيات القوة على الأرض والتوازنات الداخلية والخارجية الدقيقة قد تحد من قدرة السوداني على إحداث تغييرات جذرية في سياسة حكومته تجاه تلك الملفات، وأبرزها:

 

أولاً- ملف المعارضة الكوردية الإيرانية في إقليم كوردستان

كان لتلويح الحرس الثوري الإيراني باجتياح إقليم كوردستان العراق من طريق هجوم عسكري بري أو القيام بعملية إنزال جوي لاعتقال معارضين، أو مواصلة القصف بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة بذريعة وجود نشاط مسلح للمعارضة مُهدد لأمن إيران القومي، أحد أبرز الملفات التي حفّزت زيارة السوداني الأولى إلى طهران. فاستمرار خرق السيادة العراقية من قبل إيران يزيد من حرج السوداني داخلياً، ويؤثر في صورة حكومته خارجياً، لذا عدَّ السوداني زيارته هذه فرصة لتعزيز حضوره وتأثيره في هذا الملف، ومحاولة إظهار قدرته في تقديم الحلول له.

 

يُدرك السوداني أن وجود المعارضات الكوردية، الإيرانية والتركية، في العراق يمثِّل في جزء منه إشكالية داخلية وتُستخدم لحسابات القوة لبعض الأطراف في الداخل العراقي، وهذا ما دفعه للقيام بجولة حوارات مكثفة مع رئيس إقليم كوردستان العراق نيجرفان بارزاني وعدد من الأطراف الكوردية قبل زيارته لإيران في محاولة لتنسيق المواقف الداخلية والذهاب إلى طهران برؤية محددة تجاه هذا الملف.

 

وعلى الرغم من ان السوداني لم يتطرق للقصف أو التلويح بالهجوم البري في حديثه العلني، مُكتفياً بالإشارة إلى ضرورة عدم السماح باستخدام اراضي العراق لتهديد أمن إيران، فإنه اعتمد في هذا الملف لإقناع صاحب القرار في إيران على مقاربة تعتمد مستويين: الأول، داخلي، يتمثل في خطة طارئة لتأمين سيطرة القوات الاتحادية على الخط الصفري للحدود بين العراق وإيران من أجل سد الثغرات التي تسمح بتسلل المعارضين والسلاح، فضلاً عن العمل على تحييد العناصر المسلحة للمعارضة الكردية الإيرانية بتنسيق استخباري بين بغداد وأربيل.

لكن هذا قد لا يكون مقنعاً أو حتى كافياً لإيران التي تُشكك في قدرة العراق على ضبط الحدود أو السيطرة على نشاط هذه الجماعات داخل الجغرافيا العراقية. كما قد يضع السوداني في حساباته التفكير، من خلال حوارات مع الأحزاب الكوردية العراقية، باعتماد خيار الترحيل لهذه الجماعات من الأراضي بصورة تشابه قرار ترحيل عناصر منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، وهذا قد يكون مقبولاً إلى حد ما من قبل طهران.

 

المستوى الثاني، خارجي، ويقوم على مسارين: أولهما عسكري وأمني، يعتمد على زيادة وتيرة التعاون الأمني بين بغداد وطهران وتحييد العناصر المسلحة الكوردية، وأيضاً إشراك أنقرة مع بغداد وطهران في تعاون استخباراتي يُفضي إلى وقف نشاط الجماعات الكوردية المعارضة لحكومتي البلدين في العراق. المسار الثاني، دبلوماسي، يتمثل بتجديد الدعوة لعقد مؤتمر ثلاثي عالي المستوى يضم العراق وتركيا وإيران لمناقشة خارطة طريق أمنية وسياسية لمواجهة نشاط هذه الجماعات المسلحة، مع إمكانية إشراك سوريا في هذا المؤتمر.

أمّا خيار توجه العراق لتقديم شكوى لمجلس الامن الدولي عن الانتهاكات الإيرانية للأراضي في إقليم كوردستان فلن يكون مطروحاً على الأغلب، وسيتم الاكتفاء بمبدأ مذكرات الاحتجاج أو استدعاء السفير الإيراني في بغداد إنْ تطلب الأمر.

 

وعلى رغم أن العراق لا يمتلك القدرة على مواجهة أي هجوم عسكري بري أو ردع الصواريخ البالستية الإيرانية، فإن المقاربة التي يطرحها السوداني قد تُخفِّض من مستوى الغضب الإيراني، وتعطي انطباعاً باهتمام الحكومة الاتحادية بشكل جدي بالموضوع وقدرتها على ممارسة أدوات الضغط على حكومة إقليم كوردستان في هذا الملف.

 

ثانياً- ملف العلاقات الاقتصادية

تعاطى محمد شياع السوداني، وهو السياسي القادم من مؤسسات الدولة التي تشكلت بعد العام 2003، مع القناعة والاستراتيجية الإيرانية بأهمية العراق كرئة اقتصادية لها، ومنفذاً مهماً للالتفاف على العقوبات المفروضة على طهران. وفي ذات الوقت أدرك مدى حاجة بعض القطاعات الخدمية الرسمية والتجارية العراقية لاستمرار التبادل الاقتصادي بين البلدين، كون إيران باتت مصدراً رئيساً للسلع إلى العراق، وبشكل خاص الغاز والكهرباء والمنتجات الزراعية؛ بينما تولي إيران أهمية قصوى لتوسيع صادراتها إلى العراق وزيادة منافذ التصدير.

 

ويركز السوداني على ملف إمدادات الطاقة الكهربائية والإطلاقات الغازية الموردة، خصوصاً في ظل عدم اكتمال الخطة الوقودية الوطنية، وبالتالي كان لهذا الملف مكانة مهمة في جدول أعمال الزيارة، وقد حصل على وعود بتعزيز هذه الاطلاقات والتزويد بالكهرباء، والاتفاق على إجراء مفاوضات من خلال لجنة فنية لضمان هذه الإطلاقات واستدامة عمل المحطات.

ومن شأن تفعيل هذه الاتفاقات أن يصب في صالح الموارد المالية الإيرانية، خصوصاً في ظل العقوبات الاقتصادية، وأيضاً رفع حجم الصادرات الإيرانية إلى العراق التي تراجعت بشكل كبير خلال العام الحالي، والتي من غير المتوقع أن تصل إلى أكثر من 7 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي 2022، ما يعني أقل بنحو30 % من حجم الصادرات الإيرانية إلى العراق خلال العام الماضي 2021  التي بلغت 9.5 مليار دولار، وهذا ما يُفسر إشارة خامنئي إلى ضرورة تطبيق الاتفاقات الموقعة بين البلدين، وقد يدفع ذلك السوداني إلى انتهاج سياسة اقتصادية جديدة تُمازِج بين الحاجة العراقية وبين الرؤية الإيرانية للعراق في المجال الاقتصادي.

 

وتخضع العلاقات الاقتصادية بين البلدين لرؤيتين مختلفتين، ففي الوقت الذي ينظر فيه العراق إلى هذا الملف الاقتصادي على أنه يأتي في السياق الطبيعي للحركة التجارية والحاجة المتبادلة ضمن اقتصاديات السوق بين الدول، فإنّ طهران تعتبر الجغرافيا الاقتصادية العراقية مُكملةً لتثبيت نفوذها السياسي في العراق، وتوظيف الاقتصاد لهذا الغرض؛ ففضلاً عن طبيعة العائدات المالية التي تحصل عليها نتيجة حاجة السوق العراقية، أسست طهران قيوداً تؤثر على مستقبل أي حكومة عراقية في حال فكرت بالابتعاد التدريجي عنها، وهذا سيؤخذ بنظر الاعتبار من قبل السوداني بطبيعة الحال.

 

وقد رافق زيارته إلى طهران الإعلان عن تأسيس مكتب تمثيلي لوزارة النفط الإيرانية في العراق، وفق ما أوردته وكالة مهر للأنباء، ويمثل هذا الإعلان خطوة سياسية بامتياز تتجاوز الرغبة بتطوير التعاون في مجال والنفط والغاز، بل تندفع باتجاه السيطرة على هذا القطاع وتعاقداته في وقت الحاجة المتنامية لإمدادات النفط للدول الغربية، مما يمنح إيران ورقة ضغط جديدة على الولايات المتحدة التي كان النفط محفزاً لاستدارتها تجاه العراق مؤخراً، وورقة ضغط أيضاً على الدول الاوربية المتأثرة بنقص الطاقة نتيجة تداعيات الحرب الروسية-الاوكرانية؛ هذا التوجه الجديد لإيران مع محاولة تمكين حلفائها اقتصادياً في داخل العراق، وفك الارتباط المالي معهم من خلال تأسيس أنموذج يشابه نموذج اقتصاديات الحرس الثوري الإيراني، من المتوقع أن يكون سبباً لتأزُّم علاقة السوداني مع عدد من الفاعلين الداخليين، بل إنّ ذلك سيكون موضع اعتراض أمريكي وغربي وعربي إلى حد كبير.

 

ثالثاً- ملف وجود القوات الأمريكية في العراق

من الصعب الاعتقاد بأن ملف وجود القوات الأمريكية في العراق، لم يكن حاضراً بقوة في زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لإيران ومناقشته مع مسؤوليها، رغم انخفاض مستوى التصعيد على الأرض العراقية بين واشنطن وطهران نتيجة الهدنة غير المعلنة من إيران والمعلنة من حلفائها في الفصائل المسلحة. والأرجح أن تعثُّر الوصول إلى اتفاق بخصوص الملف النووي الإيراني مع المنظومة الغربية، والاستدارة الأمريكية نحو العراق وإعلان السفيرة الأمريكية، إلينا رومانوسكي، عدم وجود نية لسحب قوات بلادها من العراق، والاهتزاز الذي تعرَّض له النظام الإيراني بفعل الاحتجاجات الداخلية، سيجعل من الوجود الأمريكي ملفاً ضاغطاً على السوداني.

وغالب الظن أن طهران لم تكن مقتنعة بالإعلان المبكر للسوداني عن بدء مراجعة بقاء القوات الأمريكية أو الانخراط بحوار جديد حول اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن التي انخرطت بها أغلب الحكومات السابقة دون مغادرة نهائية أو تقليص مُطمئن لإيران، لذا سيعمل الفاعل الإيراني على الضغط من أجل حصول انسحاب كامل للقوات الأمريكية، ووقف استخدام العراق منصة لتهديد الأمن القومي لإيران. أيضاً، ستعمل إيران على تعطيل الحوار الاستراتيجي وإحراج واشنطن لقبولها بتنازلات في العراق، مُستفيدة من حاجة واشنطن لاستقرار الوضع في العراق من أجل الحفاظ على استقرار السوق النفطية.

ونظراً لاعتماد السوداني مبدأ التوازن في العلاقات الخارجية من جانب، وإدراكه أهمية العراق الجيوستراتيجية في العقل الأمريكي من جانب آخر، فإن الحديث عن ضمانات عراقية لإيران بانسحاب سريع كامل لن يكون واقعياً، لذلك قد يلجأ السوداني إلى محاولة اقناع صانع القرار الإيراني بخطوات تقوم على إعادة تعريف الدور الأمريكي في العراق وفق ثابت السيادة، ووقف أي نشاط قد يُهدد إيران، والاقتصار على التعاون اللوجستي والاستخباراتي، مع القضم التدريجي للقوات الأمريكية في العراق عبر جدولة الانسحاب وإن كان ذلك ضمن مدى زمني طويل، وربما تحديد أنواع الأسلحة الأمريكية في حال عجز السوداني عن إخراج القوات من العراق. وتشبه هذه السياسة نهج الكاظمي في التعامل مع الموضوع مع فارق أنّ السوداني يحظى – حتى الآن – بدعم الفصائل المسلحة التي كانت تناوئ الكاظمي وتشكك بخطواته.

ومن الملاحظ أنّ السوداني تجنّب طرح موضوع الفصائل المسلحة (الذي كان يشغل مساحة مهمة في تفكير حكومة الكاظمي) خلال زيارته إلى طهران؛ فالمعادلتين الداخلية والخارجية تغيرتا بشكل كبير، والفصائل بجناحيها السياسي والعسكري أصبحت ركناً اساسياً في السلطة التشريعية، وهي اليوم جزء من الكتلة الأكبر والحكومة العراقية. ولا تنظر الفصائل المسلحة لحكومة السوداني على أنها خطر محتمل على عناصر تفوقها في الداخل العراقي مثلما نظرت لحكومتي حيدر العبادي (2014-2018)، ومصطفى الكاظمي (2020-2022) اللذين اُتُّهما بالاقتراب من الولايات المتحدة ومحاولتهما تقويض نفوذ الفصائل المسلحة.

كما يُدرك السوداني مستويات العلاقة بين هذه الجماعات المسلحة وبين صانع القرار الإيراني ورعايته لها، لذا تجنَّب مناقشة هذا الملف خلال زيارته الأولى لطهران، كما أن تخلي الفصائل المسلحة عن خيار الهجومات الصاروخية تجاه السفارة الأمريكية ومواقع وجود القوات الأمريكية وإقليم كوردستان يسهم بشكل أكبر في تخفيف إلحاحية هذا الملف.

 

وتبقى احتماليات التصعيد بين واشنطن وطهران رهناً بتطور المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وإذا عاد التصعيد فلن يكون محدوداً هذه المرة مثلما حدث في حكومة عادل عبد المهدي التي قتل في عهدها قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، بل سيكون السوداني أمام تصعيد غير مسبوق بين الطرفين، لاسيما في حال اختارا الجغرافيا العراقية لتصفية حساباتهما وخوض حربهما المباشرة أو بالوكالة، وعندها سيكون السوداني الطرف الخاسر في مثل هذه المواجهة.

 

استنتاجات

أكّدت زيارة محمد السوداني إلى إيران، وتوقيتها، ومدتها، ونوعية الملفات التي طرحت فيها أنّ صانع القرار في بغداد لا يزال ينظر إلى طهران بوصفها صاحبة التأثير الأكبر في القرار الداخلي، والأكثر تحكُّماً ببعض الملفات الحساسة ذات الارتدادات السياسية والامنية والاقتصادية. وشكّلت الزيارة محطة اختبار لمستوى النوايا الإيرانية فيما يتعلق بدعم رئيس الوزراء الجديد شخصياً، وهو دعم غالباً ما يترجم في صورة ثقل سياسي على مستوى العلاقة مع بقية الأطراف العراقية، وبشكلٍ خاصٍ الشيعية منها.

وقد حظي السوداني بهذا الدعم عبر الرسائل التي أرسلها المرشد الأعلى خلال لقائه به. ويظل السؤال مفتوحاً عن الكيفية التي سيترجم فيها السوداني هذا الدعم في سلوكه السياسي الداخلي أولاً، وفي علاقته مع الولايات المتحدة والمحيط العربي ثانياً.

 

كما جاءت أهمية الزيارة من نوع الملفات التي ناقشتها، وفي طليعتها ملف التهديد الإيراني باجتياح أراض كوردستان العراق لملاحقة المعارضة الكوردية الإيرانية، ويبدو أنّ السوداني حصل على وعود بعدم لجوء إيران للاجتياح البري أو ربما تأجيله لمنحه فرصة المضي في إنضاج حلول للسيطرة على نشاط الجماعات الكوردية المعارضة، وهو ما يُعد مكسباً له أمام داعميه من حلفاء إيران في العراق، أو حتى على مستوى رصيد إنجازات حكومته في شهرها الأول، وسيعمل على وضع مقاربة لعلاقة العراق مع إيران بناءً على ما يُستجاب له إيرانياً في بعض الملفات الأخرى مستقبلاً.

وقد كشفت الزيارة أن السوداني يُبدي تفهماً أكبر لحاجة إيران في استمرار العراق بوصفه اقتصاداً رديفاً لها، لذا ركَّز على تنمية العلاقات التجارية والتبادل في مجال الطاقة والسلع الغذائية، الأمر الذي قد يؤدي تالياً إلى توقيع السوداني لعدد كبير من الاتفاقيات بهذا المجال، مما قد يُضاعف الهيمنة الاقتصادية الإيرانية على السوق العراقية.

 

ويعكس كلٌّ من طبيعة سياق الزيارة، ومدى التركيز الإيراني على نجاحها، مدى الاهتمام بشخص محمد شياع السوداني، من حيث كونه رئيس وزراء يمكن التواصل بإيجابية معه وبناء الثقة مع حكومته على المستويات كافة، لاسيما أنه خرج من بيئة سياسية حليفة لإيران.

وقد لا يكون من المنطقي افتراض أنّ السوداني استطاع الحصول على تنازلات إيرانية بخصوص بقاء انتشار القوات الأمريكية في العراق، أو حتى على صعيد الوضع في إقليم كوردستان، لحساسية هذا الأمر لدى طهران وخطره على أمنها القومي وفق ما تعتقد، وأقصى ما يمكنه التوصل إليه هو إقناع صُنَّاع القرار الإيرانيين بقدرته على تقييد النشاط العسكري الأمريكي في العراق، مع إمكانية أدائه دور حلقة الوصل بين واشنطن وطهران حول بعض الملفات.

ومع ذلك، فإنّ هذا الملف مرتبط بمستويات الصراع الأمريكي-الإيراني في المنطقة، وهو أمرٌ يتجاوز قدرة العراق على تحقيق تقدُّم فيه.

قد يعجبك ايضا