مازن لطيف علي
يعد ساسون حسقيل أحد اهم أعمدة الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921، وكان مؤمناً بإمكانية صهر جميع الطوائف والاقليات في بوتقة الوطن واعتبارها شعبا عراقياً واحداً، وكما قال الملك فيصل الاول، الدين لله والوطن للجميع.
وينتمي ساسون الى عائلة يهودية بغدادية برزت واشتهرت بالتجارة، كان والده من رجال الدين المتفقهين في الشريعة الموسوية.. ولد ساسون في بغداد عام 1860 ودرس في مدرسة الاليانس، ثم ذهب الى اسطنبول للدراسة عام 1877.. عين ترجماناً لولاية بغداد بعد عودته الى بغداد عام 1885 وانتخب نائباً في مجلس النواب التركي الاول عام 1908، ويعتبر ساسون أحد الاعضاء الثمانية في أول حكومة قام بتعيينها السير برسي كوكس (المندوب السامي البرطاني). عين اول وزير مالية في حكومة السيد عبد الرحمن النقيب وانتخب ساسون لوزارة المالية في وزارة النقيب الثانية “1921” والثالثة ووزارة عبد المحسن السعدون الاولى وكذلك في وزارة ياسين الهاشمي..
اعتبر ساسون من الشخصيات العراقية المهمة في تاريخ العراق المعاصر، وقد حرص على التقاليد البرلمانية الصحيحة وتطبيق النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي، وقد وصفته المس بيل بأنه “أقدر رجل في مجلس الوزراء، هو صلب قليلاً وينظر إلى الأمور من وجهة الحقوقي الدستوري دون أن يعطي اعتباراً كافياً لأحوال العراق المتأخرة، ولكنه حر ونزيه إلى أبعد الحدود”.
شغل ساسون حسقيل منصب وزير المالية 5 مرات في فترة الحكم الملكي. ويعد ساسون أشهر وأنزه وزير عراقي في تأريخ الحكومات العراقية المتعاقبة، فكان أول وزير مالية عراقي أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته على وفق نظام دقيق، وخير دليل على ما نقول هو سجلات مفاوضات النفط مع الانكليز، حينما اشار على المفاوض العراقي اضافة كلمة (ذهب) على جملة (أربعة شلنات) عند احتساب عوائد النفط، لكي يضمن استقرار نسبة العوائد. ومن الطريف ما أوردته الخاتون الانكليزية (جرترود بيل) التي يقال بأنها كانت عشيقة الملك فيصل الأول، في رسائلها، بان تعيين ساسون (اليهودي) وزيرا قد تم بتدخل شخصي منها، ولم يستغرق إقناع عبد الرحمن النقيب إلا نصف ساعة، بينما لم تقنعه ايام طوال من التدخلات والتبريرات من طرف (الخاتون) لتعيين وزير (شيعي) في وزارته!
ويذكر نجدة فتحي صفوة في بحث له نشر في مجلة دراسات فلسطينية انه عثر في أوراق رفائيل بطي على وصف لحادثة رواها له الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي كان عضواً في وزارة ياسين الهاشمي الأولى، وساسون حسقيل وزيراً للمالية فيها. فقد عرض على مجلس الوزراء نظام وزارة المالية، واراد البعض أن يعارض اقتراحات ساسون، فغضب وقال لزملائه الوزراء هذا موضوع اختصاصيّ، وهو من اختصاصي، وكما أني لا أعارض الهاشمي في الشؤون العسكرية، ولا فلان في موضوع الادارة الداخلية، فلا أوافق على معارضتي في موضوع هو من اختصاصي، والنظام من رأيي، فان وافقتم عليه فبها وخيراً، والا فلا أعمل معكم، وغادر المجلس. وقال ياسين: يجب ان نخضع للمنطق وحاجة البلد، ولا معنى للعصبية. وأخيراً ذهب الهاشمي وأرجعه الى مجلس الوزراء في جلسة أخرى، وصودق على نظام وزارة المالية حسب اقتراح ساسون بحذافيره.
ويروي انه في احدى المرات التي ترأس فيها اللجنة المالية، كان ياسين الهاشمي مقرراً لتلك اللجنة. وكان ساسون دقيقاً في شؤون الميزانية العامة، في حين أن ياسين كان يحاول ان يحيد بأعمال اللجنة الى الخلافات السياسية.
فلما ضايقه ساسون في الأمر استقال من مقررية اللجنة، فقال ساسون لدى اطلاعه على استقالة الهاشمي، ان ياسين يريد باستقالته أن أستقيل انا من رئاسة اللجنة، لأنه يريد اقحام السياسة في اعمالها، وانا حريص على الروح البرلماني الصافي، ولذلك أستقيل أنا بدلاً منه. واستقال من رئاسة اللجنة ومن عضويتها أيضاً.
حاول ساسون قبل وفاته ان يختم حياته بمنجز من منجزاته الكثيرة وحاول وضع خطة دقيقة من أجل إصدار عملة عراقية وطنية، وسعى جاهدا من أجل تحقيق ذلك يساعده يهودي آخر هو إبراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية آنذاك، وبالفعل فقد تم ذلك عام 1932م وأصبحت النقود العراقية هي المتداولة بدلا من الروبية الهندية والليرة التركية.
قضى ساسون حياته عازبا دون أن يتزوج، ومات وهو أعزب. وكان له بيت فخم على شاطئ دجلة (في آخر شارع النهر، وقرب غرفة تجارة بغداد الحالية) ومكتبة فخمة تعدَّ من أكبر المكتبات الشخصية في بغداد، وكانت غنية بمختلف الكتب باللغات العربية والتركية والانكليزية والفرنسية والألمانية، وقد استولت الحكومة العراقية عام 1970 على مكتبة ساسون وأودعتها ضمن مكتبة المتحف العراقي، ضمت مكتبته كتباً مختلفة وبلغات عديدة منها الايطالية والانكليزية والالمانية والتركية والاسبانية والعربية.
قالوا عنه:
* قال عنه امين الريحاني: “انه الوزير الثابت في الوزارات العراقية لأنه ليس في العراق من يضاهيه في علم الاقتصاد والتضلع ادراك الشؤون المالية”.
* اما معروف الرصافي فقد رثاه قائلاً:
نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت بغداد أم المجد تبكي وتندب
ولا غرو أن تبكيه اذ فقدت به نواطق اعمال من المجد تعرب
لقد كان ميمون النقيبة، كلها تذوقته في النفس يحلو ويعذب
تشير اليه المكرمات بكفها إذا سئلت اي الرجال المهذب
الا لا تقل قد مات ساسون، بل فقل: تغور من أفق المكارم كوكب
* اما الاستاذ نجدة فتحي صفوة فيصفه: “كان على الدوام جريئاً في اعلان رأيه، قوي الحجة، حريصاً على الروح البرلماني، وكانت خبرته بالشؤون البرلمانية واسعة اكتسبها خلال نيابته في مجلس المبعوثان العثماني”.
* اما ياسين الهاشمي فقال عنه: “اذا ما ذكر ساسون أفندي فيجيء ذكره مقروناً بالكفاح العظيم في تنظيم شؤون دولة العراق في سني الانتداب العجام”