جاسم محمد شامار
مندلي مدينة عريقة موغلة في القدم، ابناءها شقوا انهارها، وزرعوا بساتينها وبنوا المنازل والاسواق. الجدران الطينية، الابواب الخشبية، جذوع النخل لأسقف المنازل، كلها تحكي حكاية تعب وكفاح.
النخيل العالية، اشجار السدر، والتوت، والمشمش، والرمان القديمة، تحكي حكاية ابناء عاشوا معها ومع مواسمها بتعاقب الأجيال.
العالم القديم لمندلي ازقة ضيقة، ومنازل عتيقة ملتصقة بعضها مع بعض. ابواب خشبية مفتوحة طوال النهار. الممرات الخلفية تنتهي الى البساتين.
العالم القديم لمندلي، والمدينة وكل بيوتها واسواقها هي من خيرات تلك البساتين.
كانت الفلاحة والبستنة التراث القديم المقدس، يبدأ الغرس بسم الله، وجني الثمار بشكر الله. الممرات الامامية تقود الى قلب المدينة الى الشارع الرئيسي او (الجادة) كما كان يسميها كبار السن. في الخريف كان يتزامن موسم الصرام في البساتين مع بداية دوام المدارس.
عالم البستان له تقاليده وكلماته (الصرام، التبلية، والچلاب، او الزمبيل والسبال او العمبار والمشتاح ) ورب العائلة هو من كان يوزع الاعمال.
العالم الاخر. افواج من الصبيان والصبايا يحملون حقائبهم المدرسية الى الشارع الرئيسي الى المدارس.
عالم الحداثة، المعلمين ببدلاتهم الانيقة، وربطات العنق، عالم له تقاليده وكلماته (الجرس، الدرس، السبورة والقلم، او المساحة او الدفتر والكتاب). هنا المعلم يحكم، بدخوله الصف ينتهي الكلام، اما المدير إذا دخل الصف تُحبَس الانفاس.
لم يكونا عالمين متناقضين او متصارعين او أحدهما يسابق الاخر بل ان أحدهما كان يكمل الاخر.
كبار السن، الآباء والاجداد مع جو التدين السائد في المدينة، بوجود الجوامع، والحسينيات، والتكايا، ومع طرق الزراعة التقليدية، كانوا يعيشون جنبا الى جنب مع جيل الشباب.
فرق الكرة، الادباء، والفنانين، ورجال السياسة، بكل مشاربها. لكن نمط الحياة السائد كان من العالم القديم لمندلي. الكفاح والتعب مع القناعة والاسترخاء.
في ساعات الظهيرة، كانت المدينة تبدو خالية في الشارع وفي السوق والازقة.
انها القيلولة المتوارثة جيلا بعد جيل، علامة الطمأنينة والأمان!
افران الصمون القليلة في المدينة، لا تستطيع المنافسة مع رغيف الخبز المصنوع في التنانير الطينية في البيوت. مازال الخبز مفضلا حتى في مطعم الكباب.
الگراج الوحيد في المدينة مع بضع سيارات للنقل الى بعقوبة او بغداد، مع مواقف اخرى لسيارتين او ثلاث الى قزانية، او الى قرى طحماية، او الندى، او ترساق، لكن ابناء القرى القريبة مازالوا يتوافدون الى المدينة بقوافل الحمير والبغال كل صباح.
المحل الوحيد لبيع الملابس الجاهزة في المدينة، لا يستطيع منافسة سوق البزازين في المدينة. مازال الاباء يشترون الاقمشة، ويخيطون لأولادهم عند الخياط، وفي كل محلة كانت امرأة تملك ماكينة خياطة تخيط الملابس للنساء والبنات. محل الاحذية الرياضية (باتا) كان طارئا جميلا للشباب، لكن سوق الگيوات مازال مزدرها يعمل بنشاط.
لم يكن الذهاب الى المدرسة طارئا غير مرغوبا، او مغادرة العالم القديم للمدينة بالاكراه، بل كان حدثا ينتظره الجميع بابتهاج.
تسجيل الآباء لا بناءهم وبناتهم في المدارس لم يكن عملا روتينيا، كما في السابق، عند بلوغ الولد او البنت السن السادسة، بل بوجود اجيال سابقة من ابناء المدينة، تفوقوا وأكملوا دراساتهم، ونالوا وظائف حكومية، كان حافزا للآباء لتسجيل ابناءهم في المدراس.
في صباح يوم خريفي جميل مع النسيم البارد القادم من البساتين المحيطة بالمدينة، وبضع قطع من السحب البيضاء في زرقة السماء.
هكذا كانت في مندلي تبدأ الحياة. بين الذاهبين الى البساتين للصرام، نهاية موسم من التعب وجني الثمار، وبين من يذهب الى المدارس، لبداية سنة جديدة من الدراسة، والاجتهاد. هكذا كانت تبدو مندلي في خريف ١٩٧٠.