حاوره :د. توفيق رفيق آلتونچي
الجزء الأول
كركوك مدينة التعايش السلمي ومتحف الشعوب والأقوام والعقائد ، مدينة التسامح والحوار الحضاري السلمي بين البشر. لا اعرف شخصية كركوكية على دراية بجميع جوانب مجتمع كركوك وشخصياته التاريخية بقدر الصديق الأستاذ ياسين الحديدي. التقي به اليوم ليحدثنا عن جملة من الأمور تخص اهل المدينة وتاريخها الثقافي. استاذي الكريم انكم من القلائل ممن تعرفون اهل المدينة وذاكرة حية تمثلون كذلك تاريخا في توثيق تلك الحوادث التي مرت على المدينة وعلى ابنائها الكرام مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرون. في لقائي معكم اليوم اود ان تفرغ لنا شيئا من ذاكرتك لتروي لنا ذكرياتك مع هذه المدينة واهلها الكرام ومن كافة القوميات والعقائد الدينية. نحن بحاجة ماسة اليوم الى التلاحم من اجل مدينتنا ومن اجل ان نتركها بسلام للاجيال القادمة اللذين سوف ياتون بعدنا. الحوار هو الطريق السليم للتوصل الى السلم والوئام في المجتمعات الإنسانية اما تسلط فئة على اخرى بالقوة وبفرض رايها عليهم سيكون دوما مصيره الفشل وينتهي بانتهائه.
س:كركوك مدينة التعايش السلمي ومتحف الشعوب والأقوام والعقائد ، مدينة التسامح والحوار الحضاري السلمي ماذا تعني لكم هذه المدينة؟
-كركوك بالنسبة لي مدينة العشق المدينة التي ولدت فيها وسبقني والدي وجدي وجدي الرابع حيث رفاتهم وشواخصهم في مقبرة الحديديين في ارض المصلي حيث اطلق عليها الاسم من الصلاة التي كانت في العراء علي ارض مسطحة ترابية حيث تقام صلاة العيدين فيها تطبيقا للسنة وفي أيام انحباس المطر(صلاة الاستسقاء) هذه المدينة محطة الطفوله الاولي ومحطة الاختلاط عندما التحقت في مدرسة الفيصلية الابتدائية في احياء القورية قرب (مقبرة سيد علاوي السيد النعيمي) كانت المدرسة انتقالة جديده وصعبة على تلميذ انتقل من محيط يتكلم العربية فقط الي مكان فيه لهجات ولغات لا يعرف كيف يتناغم ويتعايش معها وكذلك الاخر من التركماني والكوردي وهو لايجيد التفاهم معي ومع اخرين من اقربائي وكانت اللغة للتعليم العربية مما سهل الى الاخرين تعلمها وكان معظم المعلمين يقومون بشرح الدرس في الربع الأخير من الحصة باللغات الأخرى للمنطقة كنت مصدوما مشدوها وبمرور االايام والأشهر والانتقال الي مراحل اخرى أصبحت الحالة طبيعية وتوطدت الصداقة البريئة هي الدافع لمواكبة الدراسة ولازالت الذاكرة تخزن أسماء التلاميذ بحنين الي أيام مضت وهي من اجملها في عمر الانسان ومنهم من تواكبنا معهم في متوسطة الحكمة المزدوجة مع الشرقية التي أصبحت حاليا مول كبير وقبلها شغلتها شرطة كركوك قسم الجنسية العراقية وكان مستوى الطلاب متقدما عما اليه الان خاصة بعد تغيير النظام الملكي الي الجمهوري حيث بدأت مرحلة الأحزاب السياسية والانتماءات كل يختار الحزب الذي يتوافق مع الانتماء القومي وكانت هذه الأمور غريبة وجديدة علي مجتمع كركوك حيث بدأت الصراعات علي الوجود في المدينة ووصلت الي احداث مؤسفة حيث كان هناك من يرعى ويغذي الصراع الطائفي بالإضافة الي الحكام الذين يصلون الي الحكم بالانقلابات العسكرية وبدأ التشظي والتناحر الذي رافق اعمارنا الى الان.
تجربة الانتخابات الحرة والنزيهة سيؤديان حتما الى صفاء النفوس آجلا ام عاجلا. التجربة الفيدرالية في العراق اعطى حقوق ديمقراطية لابناء المحافظات لانتخاب ممثليهم في مجالس المحافظات والتحاور والتعاون للعمل معا في سبيل تطوير المحافظة وتقديم الخدمات الى اهلها. نحن نعيش في مدينة، كركوك احدى اغنى مدن العالم ثروة كانت الى فترة قريبة العماد الاساسي للثروة الوطنية للدولة العراقية. لكن المغامرين من العسكر اللذين تسلطوا بالانقلابات المتتالية على رقاب الناس اهدروا تلك الثروة بشراء معدات الحرب من أسلحة ودبابات وعتاد وحرقوا بها ابنائهم وجيرانهم في حروب مستمرة.
“كركوك احدى اغنى مدن العالم ثروة كانت الى فترة قريبة العماد الاساسي للثروة الوطنية للدولة العراقية،لكن المغامرين من العسكر اللذين تسلطوا بالانقلابات المتتالية على رقاب الناس اهدروا تلك الثروة بشراء معدات الحرب من أسلحة ودبابات وعتاد وحرقوا بها ابنائهم وجيرانهم في حروب مستمرة”
حين تذكر مدينة كركوك لابد من الوقوف ولو بشكل وجيز لتاريخ المدينة الموغل في العمـــــق التاريخي لبلاد الرافدين مهد الحضارات ولابد من ذكر ظهور النار الأزلية عام 550 قبل الميلاد حيث ابتداء تاريخ كركوك في بابا كركر الذي لازال شعاع هذه النار عند الغروب وفي الليالــــي المثقلة بالسحب الكثيفة يثير البهجة والحبور في النفس ومصدر من مصادر الهام الشعراء بقصائد جميلة تتغنى وتحيك منها قصص الغزل والحب والجمال والعشق حتى الموت لهذه المدينة،
كركوك الجميلة العينين الساحرة تغفو وتصحو على نهر بسيط يخترقها من الشمال إلى الجنوب يحمل في خريره الحب وينشره على أهله ورسالة تحمل المودة والإخاء من الجبال إلى أهلها وعلى امتداد مجراه إلى القرى والأرياف التي تنتظره بشوق لأنه يعني لها العطاء والخير وموسم زراعي مبارك انه نهر السلام ومن لا يعرفه ومن لم يعشقه ويجتازه خائضا او على جسره الحجري من الصوب الكبير الى الصوب الصغير وبالعكس فلا ارث له ولا ذكريات ، كركوك المدينة الرابط بين الشمال والوسط و الجنوب ، كركوك الذي يحمل مناخها كل مناخات العراق الثلوج والبرد والحر والامطار وأرضها موزعة بين الجبل والوادي والسهل هذه المدينة الخالدة تحتضن بين يديها أطياف المجتمع الكركوكي وترضعهم الحب والتآخي والمودة متباهية بهم لوفائهم وعشقهم لها حتى الجنون ، لها ابناء أوفوا بالعهد عهد الاخوة والسلام والمحبة وهكذا شان المرأة الطاهرة التي أنجبت ونعم الإنجاب ، كركوك رنين حبها وحنانها نقطة انجذاب للمسافر والمغترب والمغادر لها ، كركوك المدينة الهادئة والوديعة يحمل ابنائها صفاء النفس والقلب ومهما ذهب مداد القلم في وصفها فهو قطرة في بحر وهنا لابد من ذكر قلعتها الشامخة التي تحمل العز والفخر والتواضع . القلعة الرمز والتاريخ والشموخ على محيطها انتشرت أحيائها السكنية القديمة وامتدت شمالا وجنوبا وشرقا وغربا سكنها الكورد والتركمان والعرب و الكلدانيون والأشوريون وكل يحمل في يده غصن الزيتون وفي سفوحها المصلى وبريادي واخي حسين وامام قاسم وليس بعيدا عنها المجزرة والشورجة وعبر الجهة الأخرى الصوب الصغير المجيدية وطريق بغداد والخاصة وصاري كهية وشاطرلوا والتبة وقصر القاضي الشامخ ورحيم اوه وعرفة ومشاعل الغاز الذي يحترق ويضيف أجواء حالمة في سماء المدينة في هدوء وسكينة الليل.
“ويرجع تسمية عشيرة الحديديين إلى جدهم الشيخ الورع محمد نور الدين الملقب عجان الحديد الدفيين في حديثة وموطن العشيرة في العراق حاليا مدينة الموصل ويسكنون ما بين دجلة من تلعفر الى حمام العليل وعلى يسار دجلة بين الزاب و(سهل باشايا ) من قرى ناحية الحمدانية”
س:عشائر الحديديين من ابناء المدينة ولهم احيائهم القديمة ومقابرهم في المدينة وانجبوا شخصيات شاركت في الحياة الاجتماعية والسياسية وخدمت المدينة وابناءها الكرام وبقوا خالدين في ذاكرتهم الجمعية لحد يومنا هذا. ذكرتهم في كتابي “كركوك نامة” وحول تواجدهم في حي على اطراف المدينة في الخمسينات من القرن الماضي واصبح الحي اليوم وسط المدينة بعد ان تم بناء بهو البلدية وبناية المحافظة وطبعا محطة قطار المدينة القديمة. يحدثنا الأستاذ ياسين عن تلك العشائر قائلا:
-لا يمكن تجاهل تاريخ عشيرة الحديديين في كركوك ومقبرتهم شاهد على التاريخ وان اتخاذ هذه المقبرة لدفن موتاهم هو عام 1879 م ومن الأوائل المدفونين في المقبرة المحصورة بين 1879ـ1900 م هم كل من جبل بن رسيد ومرعي حسن المدفون في عام /1894 م وشواخص قبورهم موجودة ، ونرجوا من الأساتذة الكرام والمؤرخين الذين يكتبون عن كركوك زيارة المقبرة والتأكد من الشواخص المحفورة فيها الأسماء والتواريخ .تنحدر المدينة جنوبا الي بيوتات متناثرة في المنطقة المحيطة لبناية المحافظة الحالية حيث كانت هناك قريتان يفصلهما جدول يجري منبعه في يارولي(أنظرالى الإشارات) مخترقا كركوك ويصل الي تسعين القرية التركمانية المجاورة للحديديين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وسكنت هذه البيوت هم أبناء عشيرة الحديديين العربية من السادة الحسينين ويعود نسبهم إلى الإمام موسى الكاظم بن السيد الإمام جعفر الصادق بن السيد محمد الباقر بن السيد الإمام زين العابدين بن السيد الإمام الحسين شهيد كربلاء بن الامام علي بن ابي طالب صلوات الله عليهم جميع ورضوانه .
كما ورد في صحاح الأخبار وحضان المراجع في نسب السادة الفاطميين الأخبار لعبد الله المبارك ص 103 وقلادة الجواهر للمؤلف ابو الهدى العبادي ص 267 والروض البسام ص 216 وفي العشائر العراقية للأستاذ (عباس العزاوي) والعشائر العراقية للمؤرخ (عبد عون الروضان) ، ويرجع تسمية الحديديين إلى جدهم الشيخ الورع محمد نور الدين الملقب عجان الحديد الدفيين في حديثة وموطن العشيرة في العراق حاليا مدينة الموصل ويسكنون ما بين دجلة من تلعفر الى حمام العليل وعلى يسار دجلة بين الزاب و(سهل باشايا ) من قرى ناحية الحمدانية وهذه العشيرة تمتهن مهنة الزراعة ورعي الأغنام لها ولتجار الموصل سابقا وتوطن قسم منهم في مركز مدينة الموصل بالإضافة الى تواجدهم في القرى الكثيرة المنتشرة في إرجاء المحافظة ، وبسبب ظروف عدم توفر الاستقرار في بداية القرن التاسع عشر نتيجة لمنازعات بين عشائر شمر والعبيد واللذين كانوا أيضا طرف فيها وخاصة في بداية عام 1233 هـ / 1812 م المذكور في إحدى الوثائق العثمانية في عهد الوالي داود باشا حيث يذكر المعركة التي جرت بين شمر والعبيد والحديديين وقتل فيها أعداد كبيرة من الأطراف المتنازعة وستة من أهالي تلعفر مما اضطر قسم من أفخاذ هذه العشيرة الرحيل إلى مناطق مختلفة من العراق بغداد ـ ديالى ـ الناصرية ـ الحلة ـ كركوك وبعضهم إلى الشام حسب ما ورد ذلك في كتاب عشائر الشام الجزء الثاني .والذين نزحوا إلى كركوك بعد ذلك التاريخ كانوا في حالة تجوال وتنقل من مكان إلى أخر بسبب اعتمادهم على مهنة الرعي تستوجب التنقل للبحث عن المرعى وفي نهاية المطاف اتخذوا موطنهم الحالي موقع ثابت ومستقر وذلك بعد عام 1851 م وكانت هذه المنطقة خالية وأراضي زراعية تعتمد على الأنهار والكهاريز الموجودة في المدينة ومنها نهر ( الدهنة ) الذي يصل الى تسين (تسعين) كما ذكرت ذلك وكان اختيارهم لهذا الموقع له جدوى اقتصادية حيث كانوا على مسافة قريبة من القورية والمحلات السكنية في الجانب الكبير لأجل تصريف وبيع منتجاتهم من الحليب والألبان والصوف و الأغنام. ان الروايات والإحداث التي ذكرها لنا الأجداد عن المدينة وأحوالها ورجالها لازالت تنتقل من جيل ومتعلقة في الأذهان ومنها دخول الانكليز الى كركوك في نيسان عام /1918 م والانسحاب منها والعودة ثانية في تشرين الثاني عام /1918 م والقاء القبض على المناضل الشيخ محمود البرزنجي الذي يكنون له الاحترام الشديد وكذلك احداث الجيش الليفي مع اهالي كركوك في الصوب الكبيروالموقف المشرف للعشائر الكوردية في اطراف كركوك التي هبت الي نجدت الاخوة في كركوك من التركمان بكل قوة وعزيمة في 4/5/1924 م وزيارة الملك فيصل الاول في كانون الأول عام /1924 م ويرافقه في هذه الزيارة الشخصية الكوردية ( إبراهيم الحيدري ) وزيرالأوقاف في عهده ومتصرف كركوك ( فتاح باشا) وقيام إفراد العشيرة باستقبالهم على الطرق مابين محطة القطار وبناية المحافظة حاليا لتحيتهم والترحيب بهم في موقع سكنهم الحالي وقد أمر الملك فيصل رحمه الله بتوزيع أراض لهم وبنائها بالشكل الملائم بدلا من هذه البيوتات المشيدة من الطين والخيام العربية التي تشوه جمال المدينة وذكرت الحادثة في كتاب الدكتور الفاضل ( كمال مظهر) الجزء الأول ص 153 وفعلا تم استدعاء كبار رجال المنطقة وابلغهم بامر الملك مما أدى ذلك إلى هروب قسم منهم إلى مناطق ابعد من مركز المدينة خوفا من سوقهم الى الخدمة العسكرية ، وهنالك حقائق بالتحاق افراد العشيرة في سلك الشرطة (شرطة كركوك ) بعد تأسيس الدولة العراقية عام /1926 م وخدم فيها ثلاثون سنة وتطوع افراد منهم ايضا في صفوف القوات المسلحة والخدمة الإلزامية او دفع البدل النقدي في الفترة المحصورة بين عام 1928ـ 1936 م وحسب البيانات الموجودة لدى عوائلهم المؤشر منها الالتحاق والتسريح او دفع البدل النقدي والصادرة من تجنيد كركوك حصرا.
كما ورد اعلاه من تاريخ متوارث للأحفاد من الأجداد وكذلك المصادر التاريخية الموجودة في بطون الكتب تشير الى تواجدنا في كركوك والسكن فيها بعد المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر وخاصة في موسوعة البدو للمستشرق الألماني ” ماكس فون او بنهايم” الذي صدرت ترجمته إلى العربية من دار الوراق /2004 .