اشراقات كوردية … الفيلية .. عراقيون منذ آلاف الأعوام

الجزء (2)

د. علي ثويني

التكوين الاجتماعي

على العموم فانهم يحملون في سجاياهم لطف وألمعية وكياسة وصدق المعاشرة ورهافة المشاعر والأريحية واللماحية والذكاء الفطري. وهم أصحاب نكته وفكاهة ومجالسهم تعج بها. ولغتهم تحاكي الكوردية في جوانب، وتختلف عنها في جوانب أخرى. وقد أراد المستشرقون “القوميون” يشيعوا بأن لغتهم وكذلك اللغة البختيارية كانت اللغة التي اعتمدتها الحضارات في عيلام وميديا في الألف الأول قبل الميلاد.  الجدير ذكره أن بغدادييهم تقمصوا اللهجة البغدادية بحذق، او امتزجت الكلمات العربية في لغتهم بهجين جميل يتندر عليه البعض منهم، ولاسيما غلاة القوميين الكورد.

والمجتمع الفيلي مجتمع تحكمه العشائرية ويشبه الى حد بعيد باقي المجتمع العراقي. من أكبر عشائرهم قبيلة “ملك شاهي” وتليها (علي شيرواني وشيرواني) و(الباوي) و(الكلهور) و(ممسني) و(القيتول) و(كالاواي) و(الماليمان) و(الكردلية) و(الداراواني) و(السيسية) و(الزورية) و(الكاكا) و(الخزل) و(الزنكنه). ومن الطريف وجود عشيرة أسمها (السوره مري) وهي من أقدم العشائر بما يوحي ربما باحتفاظها باسم سومر. وعشائر الفيلية فيها حمائل وأفخاذ متعددة (لنك) وبيوتات وسع من ألقابهم. ونجد منهم قبائل “عربية” صميمة مثل عشيرة (عرب رودبار) الذين يتكلمون مع الأخرين بالفيلية وفيما بينهم بالعراقية (اللهجة الشرقاوية). ونجد منهم من هو من أصول أفريقية سوداء مثل عشيرة (الكاكا) الذين لا تفرقهم مع الخلاسيين الأفارقة ويتكلم بعض منهم العربية والفيلية. وقد اختلطوا مع عرب بني لام وربيعة وشمر الطوقة والبو محمد من ارض العراق الوسطي والجنوبي وتجمعهم بهم أواصر تصاهر حميمة بالرغم من بعض بقايا أدران المنافسة على المراعي في منطقتهم التي ليس لها حدود معلومة ومحددة مع جيرانهم من (بني لام).

 

 

أما سحنهم واشكالهم فهي هجين متداخل بين الأقوام العراقية القديمة والعرب والعجم حتى لنجد بينهم الأشقر الفاقع وكذلك الأسمر الداكن، ولكنهم عموما صبوحي الوجوه. والمرأة الفيلية جميلة على العموم، ولديها طريقة جذابة في الكلام. ولتلك المرأة منزلة استثنائية في تجمعاتهم، فرضتها على الفئات الأخرى في المجتمع العراقي، حيث تتصف بقوة الشخصية ورجاحة العقل وعفة مفرطة، ناهيك عن حسن الجوار وصدق الحوار. وثمة حاجة لتدوين سيرة الكثير من النسوة الفيلات اللاتي تركن سيرا ثرية ورائهم، يتداولها القوم، كما هي سيرة (قدم خير بنت الأمير قندي القلاوندية)، التي ثارت على شاه إيران الأخير، وكذلك (نازي خانم) الثائرة، وغيرها.

لدى قروي الفيلية عادات غريبة منها البكاء والعويل على المريض أو حث نهر دجلة على الفيضان إذا تأخر موسمه وذلك بإلباس فتيات جميلات يغنين للنهر ويدخلن في مياهه ليحثنه على الفيضان. وهي تشبه فعلة المصريون القدماء مع النيل الى حد بعيد. ومن عاداتهم انهم يبعثون أولادهم الصغار الى الجبل ليتربوا في كنف الحياة الخشنة عدة أعوام ليعودوا بعد أن استوى عودهم. وهم يشبهون في ذلك عرب الجاهلية كما هو معلوم. ومن عاداتهم أنهم يشعلون النار ثلاثة أيام عند القبور بعد الدفن لاستئناس الموتى بضوئها كما يعتقدون. وفي الحقيقة يكمن مغزى ذلك في إبعاد الحيوانات المتوحشة عن القبر.

والفيلية صناع مهرة لا يستعيبون الحرف مثل أهل البادية، فهم يقومون بصنع الدهن الحر في (العكة) وجز الصوف وصبغه وغزله ونقر الرحي من قطع الحجر وتقطيع الجلود وصناعتها وتسويق كل ذلك في منطقة الكوت ودجلة الأوسط. وقد شهدت أراضيهم سنوات الجفاف والقحط مما دفعهم الى هجرات باتجاه سهل دجلة الذي اعتادوا التعامل معه سابقا بسجيتهم وآخر تلك الرحلات الكبرى كان إبان الجفاف والازمة الاقتصادية العالمية التي حدثت في الثلاثينات ثم تلاه جفاف أخر في الأربعينات من القرن العشرين عندما أوصلتهم أقدامهم الى بغداد التي كانت تبشر برخاء وتطل برأسها كالعنقاء من بين أنقاض القرون الخوالي العجاف. ومن الوارد في كتب التأريخ أن (الفيلية) قد اعتادوا سكن بغداد فبل تلك الأزمنة بكثير وذلك ابتداءً من القرون المزدهرة في تاريخها عندما كانت لهم الحظوة والوجاهة أيام مجدها في القرن العاشر الميلادي وما تلاه. وقد اسس بعض الأمراء الفيلية سلطات في مدن العراق كما الأمير ذو الفقار نخودي الفيلي الذي حكم بغداد بين أعوام(1524-1530م).

 

 

لقد اتصف القادمون في الثلاثينات وما تبعها بالجدية وصفاء السريرة، وتوجه قسم منهم للعمل بأسواق بغداد كحمالين يحملون ثقيل الأوزان بما لا يستطيع عليه سكانها من الحضر، من الجدير بالذكر أن العانيين (القادمين من عانه) نافسوهم في هذه الحرفة، لكن الفيلية كانوا مرغوبين من تجار بغداد لأمانتهم واستقرارهم في بغداد ولاسيما تجارها اليهود الذين كنّوا لهم الاحترام على تفانيهم وإخلاصهم وصدق تعاملهم.

وعندما نُكب يهود بغداد وطردوا من ديارهم أو استفزوا في تركها عام 1950 وما تلاها، حل الفيلية محلهم وأنشأوا طبقة من الحدادين والتجار الحاذقين المتسمين بالتواضع.. ومن الشخصيات البغدادية الفيلية التي توسمت بالتواضع هذا المرحوم حافظ القاضي. وبعض من آل قنبر وهم من أكابر التجار في أسواق بغداد.

وثمة الكثير من الشخصيات الفيلية التي ساهمت على أعلى المستويات في النشاطات الثقافية والعلمية والرياضية يملئ قوائم عديدة. ويتناقل الكثيرون بان الشاعران العراقيان الرصافي والزهاوي وكذلك الشخصية الموسوعية التي اشتهرت بكلمة “قل ولا تقل” العالم مصطفى جواد، من الشخصيات العراقية ذات الأصول الـ(فيلية).

وتسنى لطبقة التجار والكسبة “الفيلية” تعليم أبنائهم من الجيل الثاني ونال الكثيرون منهم الحظوة العلمية والمهنية. وأنخرط الجيل الثاني بعمق في الحياة البغدادية كأي من أهلها.

المعاناة والقمع العنصري

ومثلما كان ديدن سلطة البعث بالانتقام من الشعب العراقي، فقد جسدوا الأمر منذ بواكيرهم ضد الفيلية على خلفية الضغينة التي حملوها لهم منذ أحداث انقلاب 8 شباط. وهكذا فقد أولت سلطة البعث بعد عودتها بقوة في انقلاب 17 تموز عام 1968. وطفقوا يوحون خلال خطابهم الغامز بكون هؤلاء الفئة “أعاجم” من ذوي “التبعية الإيرانية”. فشرع بتهجيرهم أفرادا وجماعات ابتداء من العام 1970، وكان غلوائها قد حدث بعد العام 1979 حينما تبوأ صدام هرم السلطة، وما تلاها من أحداث مثل إيقاده الحرب ضد إيران. وحدث إبان تلك الأيام العصيبة، وانشغال الناس بالمحافظة على أرواحهم من محرقة الحرب، والوزر الذي حمله مثقفيهم وهم يقبعون في جبهات القتال مجبرين. حينها وفي ذلك الفراغ وتحت غطاء ومقتضيات الحرب القاهرة، تم سبي (الفيلية)، وانتزاعهم من ديارهم بقسوة، وصودرت كل ممتلكاتهم ولاسيما التجار الكبار الذين كانوا يشكلون عماد التجارة العراقية. وقد عملت السلطة (كماشة إنكشارية) على تجار بغداد وجلهم من (الفيلية)، بعد أن استدعتهم الى اجتماع موسع لـ(غرفة تجارة بغداد)، واقتادتهم من هناك مباشرة لترميهم على الحدود ثم نعتت لهم جهة إيران، وودعتهم بإطلاقات في الهواء لأرهباهم.

 

 

 

 

وقد استثنت السلطة من كل عائلة فرد أو أثنين “كرهينة” رموا في غياهب السجون منذ ذلك الحين ولم يعرف مصيرهم وذلك لضمان عدم إثارة لغط وكشف فضائح أو مطالبة بحق من لدن عوائلهم التي رمتهم السلطات العراقية في المنطقة المحرمة المزروعة بالألغام على حدود البلدين ليسيروا حفاة عراة عشرات الكيلومترات ليصل منهم القوي القادر ويموت منهم الضعيف من الشيوخ والمرضى والنساء إرهاقا وحنقا على ذلك المصاب. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الشباب الذين حبستهم سلطة البعث، شكلوا حصة الأسد في المقابر الجماعية التي كشفت بعد السقوط المروع للبعثيين.

وحينما حلت جموع المهجرين الفيلية في إيران تلقفهم الإيرانيون ليضعوهم في ملاجئ وخيام عانوا خلالها من شظف العيش. وتخلى الجيل الذي نشأ في إيران من حقه في التعليم، وقليل من سنحت له الفرصة بذلك، وهكذا نشأت طبقة من الأمية الثقافية في صفوف جيلهم الجديد. ثم حدث أن أنخرط هذا الجيل وما قبله تباعا في حياة المدن الإيرانية ليجدوا أنفسهم غرباء يعانون من القهر والفرز والفاقة. لقد فرزتهم الثقافة القومية الفارسية العنصرية، واشاعت عنهم تهكما “عربا”. وهكذا ذاقوا الأمرين بين (حانة ومانة) على جانبي الحدود، حيث عانوا من دعاوى التعجيم “التفريس” في العراق، ثم “التعريب” في إيران.

وهكذا حمل الفيلية في إيران والمهاجر مفاتيح بيوتهم العراقية كأوسمة انتماء لبلد ملئته رفات أجدادهم واحتضنت تربته رياض أأمتهم وسادتهم المقدسين. ويحدوهم اليوم الأمل برد الاعتبار لهم وإنصافهم وجبر خواطرهم وتعويضهم عما فقدوه عند ترحيلهم مكرهين. وها هو العراق قد عاد لأهله، وهاهم الفيليون يؤكدون عراقيتهم ويشدون الرحال إليه، فقد نطق حتى مولدي المهاجر بلسان عراقي قويم، على خلاف “حراس القومية” المتشدقين بلغاتهم. كل ذلك يدعونا الى وقفة أخلاقية، يتبناها العراقيون جميعا، ولاسيما مثقفيهم ممن أحب كل ما هو عراقي، وأخلص لفئاته المتحابة على حبه، ونبذ أي تفريق أو تفريط بنحلة أو ملة أو طائفة.

بدأ نظام البعث منذ زمن شاه إيران بتهجير مئات الآلاف من عوائل الكورد الفيلية والشيعة العرب بدافع عنصري طائفي بغيض بعد مصادرة ممتلكاتهم وشهادات جنسياتهم وهوياتهم وبطاقاتهم الشخصية ودفاتر نفوسهم وكل شيء يدل على مواطنتهم العراقية وانتمائهم العرقي والتاريخي بتربة العراق عبر مئات السنين.

والدافع الأساسي كان بهدف تغيير طبيعة السكان البشرية ونسبتهم التي كانت تزيد عن 80% من الشيعة والكورد في العراق. اشتدت عمليات التهجير والقتل الجماعي في السجون وفي الحروب بعد قيام الثورة الإيرانية في إيران وطرد السفارة الإسرائيلية من طهران والقوات الأمريكية من إيران الأمر الذي أدى إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية التي فقدت ماء وجهها بسبب رهائن السفارة الأمريكية الذين اختطفتهم القوات الإيرانية بعد فشل عملية الانقلاب الأمريكي وسقوط 18 مروحية أمريكية في صحراء إيران، دعم صدام ونظامه الدموي بشن حرب عدوانية ضد إيران وورطت الدول العربية والأوروبية بدعم صدام بالمال والسلاح وبصك مفتوح دون مقابل.

الكورد الفيليه يديونون بديانة الاسلام وهم من الشيعة وعلى المذهب الجعفري الاثنا عشري، ولهجتهم الكورديه تختلف عن مثيلاتها في كوردستان العراق وإيران بعض الشيء حيث تسمى اللهجة اللوريّة، سكن الكورد الفيلية في عاصمة العراق بغداد وكان العديد منهم يزاول النشاط التجاري فيها وقد تم إبعاد الكثير منهم قسراً من العراق إبان حكم رئيس العراق أحمد حسن البكر في 1970.

عدد كبير من الكورد الفيلية في العراق لا يتقن اللغة الكوردية ويتكلم اللغة العربية بحكم الاختلاط الطويل بالعرب ومناطق سكنهم المحاذية لمناطق العرب.

 

 

قد يعجبك ايضا