أحمد الحمد المندلاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
** أُستا (أُوسطه) حسين أبو ميكائيل من الشعراء المقلّين ، والمنسيين في تراثنا الأدبي الشعبي.
تناولت أشعاره الحكمة والغربة والحنين ،وكاد يُنسى شعره ومواعظه و باقات حكمه إلى الأبد مع تجاويف الزمن ،لولا أني تذكرت شيئاً من أشعاره وحكمه ؛ بعد 45 سنة من ارتحاله الى الملأ الأعلى،وكنت آنذاك يافعاً في الرابعة عشر من عمري عام 1959.. حيث كنت استمع الى أشعاره ومواعظه عندما يجتمع أقرباؤنا من الرجال عصراً في رأس المحلة “قلعة بالي” بدل المقهى، ويتحدثون عن كل شيء بصورة عفوية، أحاديث مختلفة ، أو في ليالي الشتاء الباردة حيث نجتمع حول موقد النار المغطّى ببطانية أو بـ”جاجم- يايم” الدثار المحلي والمسمى هذا الوضع بـ”الكرسي” و نحن نتناول شيئاً من التمر المعروف بـ”الأشرسي” مع الجوز الآتي من كوردستان .. وهكذا تعلقت في ذهني بعض تلك الأحاديث بما فيها الأشعار و الأمثال و القصص(و أنا كنت من الصغر احب الشعر و الأدب) ..
و ها بعد سنين طويلة شعرت بأهمية هذا التراث،و هذه الأشعار النادرة لكونها تعبر عن مرحلة من حياة شعبنا و أهالينا في مندلي، والتي يجب حفظها للأجيال ؛ مما دفعني إلى التحري والبحث عن أشعاره ونبذة عن حياته ( رحمه الله ) من أفراد عائلته وغيرهم ،و الحمد لله حصلت على الشيء اليسير ، لكنه مهم بالنسبة لي، متأملاً الزيادة لإتمام الفائدة.
نبذة عن حياة الشاعر أبي ميكائيل:
ولد أُوستا”أوسطـه” حسين في مدينة “كويسنجق” في كوردستان العراق حوالي سنة 1880م . . بناء على أحاديثه عن الحروب والانقلابات التي عايشها وجرت في دول المنطقة “ايران،تركيا،العراق” واسمه الكامل/
حسين صفر رحيم عزيز البياري المندلاوي ) والمشهور بـ ( أستا حسين ) لأنه كان صفاراً ماهراً لا يجاريه أحد من أقرانه في هذه الصنعة؛بل كان كبيرهم …
وبحكم عمله كان يتنقل بين العشائر الكوردية للعمل في فصل الربيع، بين البلدين ايران والعراق على الدواب مصطحباً معه اثنين من أبناء اخوته يدعيان “سعيد وعلي” و في رحلته الأخيرة… حطَّ رحاله في مدينة خانقين و مكث فيها فترة طويلة للعمل ، واطلع على العادات والتقاليد الشعبية فيها،كما أتقن لهجتهم أيضاً .. وخلال هذه الفترة ،اكتسح البلاد الوباء المعروف..فانتزع منه صغيريه ( سعيد وعلي) حيث دفنا هناك.
هنا قرر عدم العودة الى أهله و زوجته وطفلته المسماة (فاطمة) بفعل تلك الفاجعة وشدة وقعها و هولها عليه، فوق هموم الغربة عن أهله و ذويه ؛ وظل متنقلاُ من قرية الى قرية(مترنما أبياتا من شعره الحزين) ،ولا أحد يعلم بمصابه الأليم ، إلى أن استقر به النوى في قضاء مندلي ليسكن في محلة قلعة بالي ، ولكنه انبرى كالحكيم الذي لا يستسلم للمحنة و سنابك خيلها الى نهاية المطاف.
فاستقر في هذه المدينة المتواضعة لأسباب كثيرة منها جمالها و أناسها و بيئتها الكوردية .
هذا وكان قد ادّخر شيئاً من المال ،فابتاع به داراً واسعة لسكنه ،مع بستان صغير تابع للدار .
ثمَّ اقترن باحدى بنات المحلة .. وبدأ بتكوين نفسه من جديد مستفيداً من المثل الكوردي الدائر
“سال نو، دال نو”
و يعني “عام جديد، وحظ جديد” أو كما يقال:” لا يردّ الميتَ البكاءُ عليه ” . . ليواصل مسيرته في الحياة بإيمان وجديّة و يطوي صحائف الألم و السأم.
كان رجلاً طويل القامة ، أبيض اللون ،ذا شاربينِ غليظينِ نوعما، طيباً ملتزماً بأمور دينه،يتردّد على الجامع الكبير لأداء الفرائض،والمشاركة في المناسبات الدينية لا سيما المناقب النبوية الشريفة .
كان “رحمه الله” قليل الكلام ،لم يمزح أبداً،و لا يسمح به في حضوره، واذا تحدث قال حكمة بليغة، أو موعظة حسنة، أو حادثة قصيرة ، أو شعراً لطيفاً ،أو مثلاً مفيداً ،و هكذا ،وكان كلامه واضحاً جداً خليطاً من لهجات المدن التي مرَّ بِها خلال حلّـه و ترحاله بين العشائر و القرى الكوردية و العربية و التركمانية من كويسنجق الى سنندج و بانه وقصر شيرين وكلار وكفري وخانقين ثـمَّ مندلي .
وبذا كان كلامه ذا نكهة خاصة يدخل القلب كما يقال بلا جواز ، إضافة الى لغة الأم الكوردية ، أتقن العربية والتركية والفارسية .
نماذج من اشعاره
بعد البحث والتحري من أبنائه و أحفاده وجيرانه حصلت على مجموعة من أشعاره اللطيفة و أمثالـه ،و شيء من حكمه وباللهجة الكوردية- المندلاوية طبعاً ويمكن تصنيف أشعاره الى :
1 ـ أشعار دينية عرفانية
2 ـ أشعار اجتماعية وجدانية
3- أشعار حكمية وعظية
ومن أشعاره الوجدانية التي تعبر عن حالات الغربة والحنين إلى مسقط الرأس و الأهل؛ ومراتع الصبا،قوله :
إلامَ انتظر تحت ظلال الأشجار الباسقة ؟
وإلامَ أتحمّلُ ثقل الغربة ،ودائها ؟..
وإلامَ انتظر تحت ظل النخيل ؟
و أتحمّلُ دلال الآخرين ..
آه من غربة الوطن ..
أشعلتْ في رأسي شيباً
هل يا ترى!! أرى أحبابي.
وأكحّل عيني بتراب قريتنا الكبيرة .
إلامَ انتظرُ . .
لقد طال الانتظار.
أأنتظرً أم أكتفي بالرسائلِ فقط !!
و اللون الأزرق يغوص في قلبي..
مخترقا ناظري
مفتتا خواطري
أواخر حياته
كان يسرد تاريخ الانقلابات والحروب .. ويصف الملوك والأمراء الذين توالوا على الحكم،و ذلك بحكم أسفاره الكثيرة بين الدول الثلاث “ايران،تركيا ،العراق” وكان يتحدث بحماس عن القاضي محمد و جمهورية مهاباد و عن دور الزعيم الملا مصطفى البارزني الخالد .. ثم أدرك ثورة 14 تموز 1958م.. وقال عنها أشياء لم أتذكرها حيث كنت صبياً و أنا استمع الى أحاديثه الجميلة. .ولكنَّ الذي أتذكره إنه كان يحب عبد الكريم قاسم قائد الثورة ،ومعجباً به،و قال عنه شعراً خلال سياق أحاديثه عندما يسمع شيئاً ،أو يرى صورته مرتدياً بزته العسكرية.
توفي ” رحمه الله ” شتاء عام 1959 ودفن في مدينة النجف الاشرف ،حسب وصيته رغم انه كان شافعي المذهب.وله ذرية صالحة بلغ تعدادهم أكثر من 150 فرداً يسكن غالبيتهم في العاصمة بغداد ،و ديالى و السليمانية وكركوك،والرمادي ،والكوفة ،وكربلاء المقدسة و بيجي، ومنهم من استقر في المهجر بريطانيا وإيران،و هولندا بينهم أطباء ومهندسون وأدباء و فنانون بينهم أطباء ومهندسون وأدباء و فنانون و مدرسون يعملون بجد و مثابرة لبناء عراقنا الجديد،ولينعم شعبنا المظلوم في ظلاله بعزّ و سؤددٍ و أمانٍ.
هذه كانت نبذة يسيرة عن أحد شعرائنا الكورد المنسيين في مدينتنا الحبيبة مندلي.