سعيد عدنان
أدركته في كلية الآداب، في منتصف السبعينيات طالب دكتوراه، يكتب أُطروحته، ووراءه ((الشعر في الكوفة)) الرسالة التي نال بها الماجستير في الأدب العربي واستحقت ما لقيتْ من تقدير، وبين يديه ((الصراع بين القديم والجديد))، وعن جنبيه مقالات يكتبها في الأدب العراقي الحديث، وقصائد، وتحرير مجلة ((الرابطة)) التي كانت تصدرها الرابطة الأدبية في النجف. وليس ذلك بالقليل لفتى في العقد الثالث من عمره، فإذا أضفت إليه جرأة، وجهارة رأي، ووضوح فكر، وثباتاً، ارتسمت لك صورة قليل نظيرها، رفيع شأنها.
كان يكتب أُطروحة الدكتوراه، وله في كلية الآداب منزلة لا تشبه غيرها، رفعته في أعينٍ، واستعْدتْ آخرين عليه، حتى بيَّت بعضهم أمراً. وهو قليل الالتفات إلى ذلك لا يألو أن يزيد جرأته، وجهارة رأيه، وله رصيد من نفسه ومن ثقة أستاذه علي جواد الطاهر به، حتى كان يوم مناقشة الأُطروحة فأسفر المبيّت، وأبان، وأريد لأطروحته أن تنال ما نالت أطروحة عبد اللطيف الراوي من ظلم قبل سنة، ولكنّ الأسباب لم تكن كافية لمن أراد، وقد أسف المسفّ الموكل بالتنقّص فدل على الذي عنده، وعند من وراءه ممن زيّن له، ولم يكن الأمر خافياً، وكان هو على ألفه جهيراً قوي الإبانة كما يرى، وكان أستاذه علي جواد الطاهر في أثناء ذلك يدوّن كلماتٍ على ورقة، وكأنها مما سيقوله إذا حان وقت الكلام. ويحين وقت كلامه، وقد دخل الليل، والأعين مرتقبة، فيمضي إلى غايته معرضاً عن السفه مبيناً عن الحق حتى إذا بلغ قوله: ((إنّه نابغة، وإنّ كتابه كتاب)) رأينا الدمع يأتلق في عينيه!
ويحرز الدكتوراه على الرغم مما بُيّت.
كانت كلية الآداب يومئذٍ ميدان صراع، بعضه خفي مستتر، وبعضه ظاهر مستعلن، كانت إدارتها تريد أن تضيّق من مجرى الفكر، وأن تجعل للبحث معالم ينتهي عندها فلا يتعداها، وهي في ذلك إنما تنفذ ما أوكل إليها، وكانت بقية من كبار أساتذتها تريد للفكر أن يكون حراً، وللبحث أن يكون رائده الحقيقية، يطلبها ويتخذ إليها السبل، ويعلنها.
وكان الصراع متفاوت الكفتين، كفة راجحة قوية بالحزب والدولة، وكفة شائلة لا يملك أصحابها الأقلون إلاّ فكرهم، وأقلامهم، وصفاء سرائرهم. وكان مآل الصراع واضحاً، فما أن شارفت السبعينيات على ختامها حتى خلا الميدان أو كاد لما تريده الإدارة. فضاق ما كان فيه شيء من سعة!
أحرز الدكتوراه ورأى الأفق يضيق، والأحابيل تنصب، فغادر إلى الجزائر، وهو على أمل أن يرجع بعد سنتين أو ثلاث فيجد الحال على غير ما فارق عليه، لكنّ الأفق مضى يكفهر، وعاجل أضواءه الخفوت، فامتدت الغربة سنين!
عمل في الجزائر، في جامعتها، وحقّق مكانة مرموقة كانت ترد أنباؤها على أستاذه علي جواد الطاهر فيحدث بها في مجلسه فرحاً، ثم يدركه أسف أنه ليس في بلده، وأن عمل المرء في غير وطنه أقرب إلى الضياع!
زاول التدريس والتأليف، وكان يلتقط لتأليفه الموضوع الجديد الذي لم تزدحم الأقلام على أديمه، ولم تكثر الخواطر في تقليبه فكأنّه أُدخر له، بل إن الموضوع المتداول ليبدو بين يديه جديداً، إذ ينفذ منه إلى ما لم يعالج من قبل، ويعيد سبكه.
ما كاد ينفض يده من ((الصراع بين القديم والجديد)) وينال به الدكتوراه حتى تهيأت له مادة حسنة في ((فن التمثيل عند العرب)) فأصدرها في كتاب. ولك أن تنظر إلى تباعد الميدان بين ((الشعر في الكوفة)) و((الصراع…)) و((فن التمثيل..)) فكلّ منها يفارق الآخر في المصادر والمراجع، وفي المدار، وكلّ منها ينهض في جو هو غير ما ينهض فيه صاحباه، وعليك ألاّ تنسى أن المؤلف ما يزال في فلك العشرين من عمره، وأنه لما يبلغ الثلاثين، فماذا سيكون منه لو جرت الريح رخاءً، وسكن موج البحر شيئاً!!
كان يتوخّى في التأليف الرصانة في الرجوع إلى المصادر وحسن قراءتها، ومعارضة النصوص بعضها على البعض حتى تتضح الحقيقة على قدر ما يتاح، وتهيئه الأسباب، وكان يتوخّى إلى ذلك رشاقة اللغة وطراوة الصياغة فكأنّه ينشئ أدباً وهو يزاول البحث، من دون أن تنزلق الطراوة إلى تميّع يُضيع المعنى، ويُخفي المراد.
وهو على صلته بالجديد، وعلاقته بالأدب الحديث، وعلى نصرته الحداثة من حيث هي منحى في الحياة والفكر والأدب لم يؤخذ بأوهامٍ، ولم يختلبه برق، ولم يسعَ وراء آل، وكان له موقف على الغاية من الاتزان بين القديم والجديد يجعل للعربية في فصاحتها ونصاعتها المنزلة الرفيعة فيه.
واستقرت به الغربة في الجزائر سنين مطلّة عليه أشباحها، مباعدة بينه وبين بلده، ملقية في روعه أن لا عودة! ومضى يملأ وقته بالبحث والكتابة، ومزاولة التحقيق. وإذا ضاقت به نفسه أو ضاق بها، وبدا له العراق بعيداً نائياً مال إلى الشعر يقرضه، ويستودع ألفاظه مرارة التجربة ويستشرف به ما يأمُل من غدٍ، وله معه صحبة قديمة، وأُلفة، ومساقاة على غير إكراه.
وهو على تطاول سنين الغربة لم يهن له عزم، ولم يُسلم لما لا يريد قياداً، وبقي على جهارته لا يخافت في قول؛ يحب من الأمور وضوحها ونصاعتها ونزولها منازلها من دون زيادة أو نقصان. حقق ((مقطعات مراثٍ)) لمحمد بن زياد الأعرابي، وكان قد نشره المستشرق وليم رايت في سنة 1859 فصارت النشرة قديمة نادرة لا تكاد تقع لأحد، وصار حقّاً أن يُنشر الكتاب من جديد وأن يكون بين الأيدي، وقد نشره في سنة 2003 على النسخة نفسها التي نشره عليها رايت إذ لا نسخة سواها، ثم وقف يذكر سلفه الذي قام على الكتاب قبل قرن ونصف، بالخير كله، يقول: ((وتسألني بعد هذا كله عن فضل هذه النشرة على نشرة رايت فأقول: إنه لا فضل لها لولا فضل السنين الطويلة بينهما، فقد نشر رايت الكتاب فكان أميناً عليه أمانة ظاهرة، ولكن لم يكن بين يديه من المصادر يخرج عليها الكتاب ما بين أيدينا اليوم… وقد أفدت من مصادره، أما ما زدته عليه مما لم يخرّجه فلم أشر إليه؛ لأنني لا أريد أن أبار به، فحسبه أنه كان البادئ في نشر الكتاب وتحقيقه وذلك وحده فضل.)) وحسبك بذلك شاهد عدل، وبرهان صدق، وقليل من يقول كمثل قوله في المقام نفسه!
وإذا تشابهت مناحي الكتّاب –في أغلبهم- والتقت على موارد بعينها، يُبدون فيها ويعيدون، فإن له من نفسه مورداً عذباً تصطبغ فيه العناصر وتستحيل إلى غير ما كانت عليه، ولك في كتابه ((الجواهري دراسة ووثائق)) شاهد من شواهد على ذلك، فلقد كُتبت كتب، وأُنشئت دراسات عن الجواهري وشعره، وما أكثر ما وقع اللاحق على أثر السابق، وما أكثر ما تجاوبت الأصداء، أما كتابه فقد جاء نسيج وحده يجمع عناصر الدرس المنهجي القائم على المصادر والمراجع، إلى عناصر تجربة ذاتية وصلت عُراه بعرى الشاعر مدة سنين، في العراق، وفي بلدان أخرى جمعتهما، بعد أن ضاق البلد بأهله، ولم يتحيف عنصر عنصراً، ولم يجر منحى على آخر، بل تألّف من كليهما ما ارتقى بالدراسة وجعلها تنفذ إلى صميم الشاعر وشعره.
وربما اتجه نحو حقل آخر من الدرس، ليس من الأدب، لكنّه يتصل به من بعيد، إذ يكون بعض مصادره. بل إنّه حقل تحاماه أهل التاريخ لخفاء مسالكه وتوعرها، وإلاّ فمن كتبَ عن جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية، وبيّن أنظمته، وما كان يقوم به؟ بل من تساءل أكان للدولة العربية في قيامها حين قامت شيء كالذي للدول الحديثة يتسقط الأخبار ويقصّ آثار المناوئين؟!
ولكن التجربة وما هو منها أدت به إلى أن يكتب ((جهاز المخابرات في الحضارة الإسلامية)) وينشره في سنة 1998. كتب في إهداء نسخة منه إليّ يقول: ((إلى أخي… هذا الخير الأوحد الذي استللته من أكوام شرّ النظام السابق الساقط، فاقبله ذكرى من أخيك)).
كان يكتب في التاريخ ويرى مصداقه في الزمن الراهن، فلا غرو أن نضجت الكتابة على نار التجربة وأخذت معناها الواسع منها.
وكان إلى ذلك كله محققاً ثبتاً نشر النادر الفريد في بابه من كتب التراث وقام عليه بالدرس والتعليق حتى يكون بين الأيدي سليماً صحيحاً سائغة قراءته. وكان من ذلك ((الأمثال المولدة)) لأبي بكر الخوارزمي، و((ديوان علي بن محمد الحماني)) و((ديوان بكر بن عبد العزيز العجلي)) و((مقطعات مراتٍ)) لابن الأعرابي، وغيرها. وكتب في نقد التحقيق ((أوهام المحققين)) ينتقد ما يراه زللاً في كتب محققة، وأن من قام عليها لم يولها من العناية ما يجب أن يكون. ورائده في ما قام به كله رعاية التراث، وازاحة ما علق به من غبار خلال مسيرته المتطاولة.
وإذا ألحت عليه الذِكَرُ أصغى إليها، ومضى معها يستعيد زمناً كان، في النجف يوم كانَ في النجف، وفي كلية الآداب يوم كان يدرس فيها، وفي التذكر سلوى من أشباح الغربة إذا أسفرت، ومدار الذِكرَ: الأدب وما إليه، فإذا نأت النجف، وبدت دونها الأهوال فليأت بها إلى الورق، وليبنِ المكان بما له وليُجر الزمن القديم، وليكن بين أهله يسمعهم، وليكتبَ مقالة: ((النجف مدينةَ العلم والسخرية والتناقض)) راسماً الذي كان كأنه بإزائك قائم، وإذا أدرك ((كليةَ الآداب)) الشحوبُ فليبعث مجدها بأساتيذها: إبراهيم الوائلي وإبراهيم السامرائي وصلاح خالص وأمثالهم من ذوي الأقدار الرفيعة.
أصغى إلى الذِكَر القديمة واستعادها فكان له من ذلك مقالة أدبية أنيقة اللفظ مشرقة المعنى! وكان له بها ((في الأدب وما إليه)) الذي صدر في سنة 2003، وإذ أهدى إليّ نسخة منه كتب عليها: ((إلى أخي… هذا ما كنتُ أنفق به أيامي عهد النظام الساقط)).
تقلبت به الغربة، وتنقلت من بلد إلى آخر، وهو يرتقب في مغتربه النائي أن ينبثق فجر، وأن تندحر ظلمة، وأن يعتدل الميزان، ومضت به الأيام بين يأس ورجاء حتى أشفق ألاّ تضم رفاتَه إذا حان الأجل أرضُ بلده! ثم تقع الادالة ممن ظلم، وينجاب الغيهب، فيكون في طلائع العائدين، شوقاً، ورجاة أن يتصل ما انقطع، وتُسعد به الثقافة في العراق، ويُسعد الأدب سعادة لا يُقدر لها أن تتم، وأن تمتد، إذ عاجلها اضطراب، ونغص منها ما تبقى من ظلمات إذا انقشع منها جانب أطل آخر، حتى استقلت به نوى لا أوبة منها؛ فأيّ أديب عالم حازتْ، وأيّ سفر جليل طوتْ!!