الجزء (1)
د. علي ثويني
ثمة لغط يثار حول عراقية فئة (الفيلية)، وهم إحدى ألوان الطيف العراقي الجميل. وثمة دس ورياء وتعميه بشأنهم مكث ردحا ومازال حيا لدى السذج، بعد غروب حقبة البعث التي يتفق الجميع على أنها وزعت الظلم بالقسطاس على العراقيين، لكن فئة الفيلة هم أكثر من عانى من جرمهم، لأنهم يحملون في تكوينهم (خطيئتين) لا تغتفران: خطيئة تمايزهم القومي، وخطيئة تمايزهم المذهبي!! لقد مورست ضدهم عمليات إلغاء الهوية العراقية أو طمس للخصوصية الثقافية أو تهميش للأفراد والتجمعات أو تشويه لأصولهم أو استقطاب لضعاف النفوس منهم أو استغلال لسوادهم أو ابتزاز واغتنام لأموالهم. لقد خضب هذا اللون الوردي العراقي بحمرة الدم بعد عمليات القتل الجماعي لخيرة شبابهم وأتشح بالسواد لما قاسوه من ضيم التسفير القسري، ثم جاءت ثالثة الأثافي لتثقل كاهلهم بضيم الغربة عن الوطن والأحباب والذكريات.
اصولهم التاريخية
تجمعات الفيلية منشطرة على شقي الحدود بين العراق وإيران، وتصنيفهم يرد مختلفا فيها. فهم (كورد) أو (فيلية) في العراق، بينما نجدهم (لور) أو (لك) في إيران التي لا يتداول فيها اصطلاح “فيلي”. ووجودهم في العراق يمتد ابتداء من أراضيهم التي تقع في إقليم “عيلام” و”لورستان” المتاخم للحدود الجنوبية العراقية الإيرانية حتى تخوم كرمنشاه، في منتصف الشوط بين السليمانية والبصرة. ويطلق على إقليمهم عادة تسمية (بشت كو) وتعنى “ظهر الجبل” والمعني بذلك ظهر جزء من سلسلة جبال زاكروس (القسم المسمى كور كوه)، وهكذا قسمت المنطقة إلى ظهر الجبل باتجاه العراق وأمام الجبل (بيشكوه) باتجاه قلعة كريت ثم امتدادات إقليم أصفهان.
ويمتد تواجدهم عادة باتجاه الجنوب على الضفاف الغربية لوادي (السيمره) (الذي يمكن أن يكون حدود سومر القديمة) حتى الاحواز في الجنوب عندما يصب هذا النهر في نهر (الكرخة) الذي يصب بدوره في (شط العرب). ويمتد نشاط التجمعات “الفيلية” غرباً ليصل تخوم مياه دجلة ولاسيما بعد انحرافه الأخير في القرن السابع عشر الميلادي عندما اقترب كثيرا من سفوح تلك الجبال. ونجد فروق بسيطة بين لهجات القاطنين عادة على الضفة الشرقية للوادي الذي يتدفق جنوبا حتى مراعي قبائل (البختيارية) الجبلية البدوية المعروفة بصعوبة المراس وتنقلهم وراء الكلأ والمراعي في هذا الإقليم.
وثمة الكثير من الآراء بشأن أصل تسمية “فيلي” فمنهم مثل (هنري فيلد) يفسرها بمعنى العاصي والمتمرد، ووردت بحسب البعض بمعنى الشجاع والفدائي. وثمة مستشرقين مثل (جورج كامرون)، يرجع التسمية الى أسم الملك العيلامي (بيلي) الذي حكم وسلالته بين أعوام 2670- 2220 ق. م. ومنهم من يرجع التسمية الى أسماء حديثة كونهم أتباع لأمراء ملكوا قبل قرون قليلة، وحرف أسمهم ليكون (فيلي).
وبعيدا عن أهواء المستشرقين الألمان مثل (هوكو كروته)، ممن أراد أن يسبغ صفاء “آريا” على تلك الأصقاع، وكونهم ورثة عيلام الآرية. وثمة من بحث عنهم بموضوعية نسبية مثل الروسي جريكوف والدنماركي فيلبرك والأنكليزي لايارد، الذين اختلفوا في إرجاع أصلهم، كونهم هجين من السحن، بغض النظر عن اللغة التي يمكن اكتسابها وتقمصها تراكميا، ولدينا الكثير من الأمثلة اليوم على تغيير لغات الشعوب، كما هي لغة (الأردو) في الهند.
وبالرغم من جزمنا على عدم وجود أجناس ناشزة الصفاء وغير متهاجنة في هذا الموضع الوسطي من الدنيا، فأننا نؤكد استنادا إلى فيصل الدلائل الحفرية، والتي تشير بأن تلك الأصقاع كانت تاريخيا من ضمن النطاق الثقافي والتأثير الحضاري العراقي. فـ (سوسه وسربيل ذهاب وقصر شيرين وكرمنشاه وعربستان أو الاحواز) وما خلفها، مواضع صريحه لرسوخ الأعراف الحضارية والاجتماعية واللغوية والفنية والبنائية العراقية. وثمة الكثير من الدلائل الدامغة التي أظهرتها وقلبت الكثير من مسلمات المفاهيم التي وردت حتى القرن التاسع عشر بكون هذه الاصقاع فارسية محضة، ومن المعلوم أن الفرس ولجوا التاريخ بعد السومريين بحوالي ثلاثة آلاف عام، وتقمصوا روحا عراقية في كل شؤون حياتهم، وما العمارة والفنون إلا خير أدلتها.
ونذهب هذه الدلائل التاريخية والآثارية إلى أن الفيلية هم من الفئات العراقية التي مكثت على أطراف (بلاد النهرين) تاريخيا وجغرافيا. وكما بدل العراقيون لغاتهم مرارا، فقد بدل القوم هنا لغتهم بحسب مناخات الدول والثقافات المشتملة. ونجد في ملحمة كلكامش، ما يؤكد بأن (أنكيدو) قد ورد من الجبال المتاخمة لسومر، ولا توجد غير جبال (بشتكو) الفيلية. ولم تشير الملحمة الى فرق لغوي بين الرفيقين، بقدر ما تبين الملحمة تناغما روحيا وثقافيا، وتكاملا في السجايا. ومازال يكتشف بين الحين والآخر مفردة سومرية هنا أو هناك بالصدفة بين طيات اللغة الفيلية، ويعزوها بعض القوميين الى كونها فارسية، وهو محض مبالغات قومية، فثمة فروق جوهرية في بنيوية وصيغة اللغات الآرية الفارسية (ومنها الكوردية) وبين السومرية. نعتقد أن الفيلية أقدم من الفارسية نشوءا وتكونا. وعلى العموم فالسومرية لغة مقطعية، بينما اللغات الآرية الفارسية هجائية. ولو تسنى لنفر من الباحثين التعمق في الدراسات اللغوية المقارنة، لوطئوا فتوحات في تلك الروابط المشيمية بين الفيلية والسومرية، بعد أن تجشم الأبعدون وحثوا البحث، وتفذلكوا وأقروا أن ثمة صلات بين اللغة الهنكارية والسومرية، وهما يقعان على شقي تناء جغرافي. وتناسينا او استبعدنا أن تكون الفيلية المتاخمة لسومر الشرقي إحدى بقاياها.
وهكذا مكثت سجية الفيلية الموروثة منذ سومر وتواصلت تجمعاتهم وتداخلت بالغريزة الجماعية مع سكان مدن الكوت وتوابعه وقراه مثل (الحي وواسط وعلى الشرقي والغربي والعزيزية وبدرة وجصان ومندلي وبلدروز وزرباطية)، وكذلك مع العمارة وجنوبها، بعد أن سكنتها عوائل (دو زاده) الفيلية، ولم نعد نفرق اليوم بين سكانها باللسان والجوهر والمظهر. وربما تأثر الفيلية ردحا باللغة الآرامية العراقية، التي أثرت في فارس ومصر وجنوب الجزيرة العربية وآسيا الصغرى، وكانت بؤرتها المشعة على الشرق، مدينة (بيت العابات) أو (جنديسابور) التي تقع في الاحواز المتداخلة مع مناطق الفيلية. ونجد اليوم أن أقدم مدن المنطقة هذه هي (بدرة) التي وردت باسم “بدرايا” في كتب الرحالة والمؤرخين، وهو أسم ذات أصل آرامي شرقي “عراقي” والذي انحدر من مركب (بيث ذرايا) وتعني محل الذين يذرون الحبوب.
وقد يجد المرء دلائل قاطعة على أن تلك الأصقاع قد وطأتها عدة أقوام منذ السومريين وكان سر امتزاجهم يتبع تكامل المنفعة الاقتصادية بين تجمعاتها البشرية من رعي وزراعة وبعض الصناعات الحرفية ثم التجارة. وقد امتد الحال على ذلك المنوال حتى لمسنا أواخره خلال أواسط القرن العشرين عندما كان الناس يتبادلون المنفعة من خلال مقايضة سلعهم وبيعها، ومازال نسوة الكوت يفخرن بأنهن اقتنين أو اسلافهن (رحه) من صناعة أنامل فيلية، وداولناها منذ كذا عقد من السنين. فقد أختص الفيلية (بتنقير) الرحا المصنوعة من حجر(بشتكوه). زيادة على هذا التكامل الاقتصادي الذي يطبع فئات الناس هنا، فأن ثمة آلفه فريدة تجمعهم، ولا تفرق بينهم في اللسان أو الرّس(العرق) او الدين. وقد يكون للعامل المذهبي(الشيعي) اللاحق أهميته ودوره الفعال في ذلك التجانس والتداخل والتزاوج، حيث أن كل سكان هذه المناطق من المسلمين على المذهب الجعفري. ومن الجدير بالذكر هنا أن الفيلية من أكثر فئات الشيعة اعتدادا بمذهبهم الاثنا عشري، ومطبقين لفقهه وأحكامه. وهكذا فأن ولائهم المذهبي يفوق أي ولاء آخر، وقد أراد البعض أن يشيعوا ولاء قوميا بينهم، لكن الأمر لم يقنع إلا اقلية منهم، وخصوصا بعد سياسة القمع والتهجير العنصرية البعثية ضدهم
ومشكلة الفيلية تعود بالأساس إلى تداول الدول والحكام في ذلك الصقع، حيث أن جذور مشكلتهم تعود بالأساس إلى تخطيط الحدود السياسية بين الدولتين الفارسيتين “الصفوية” ثم “القجرية” من جهة والتركية العثمانية من جهة أخرى. حيث إنها لم تضع فاصل منطقي معقول للتضاريس الطبيعية والبشرية ولم تتمكن من الوصول الى الحد الأدنى من امتداد الأجناس والسحن والملل والنحل على جانبي الحدود. ولنأخذ نماذج على ذلك فها هي السليمانية لا تختلف عما يقابلها من تجمعات كوردية في إيران، ثم نهبط الى خانقين التي تحاكي قصر شيرين بنفس اللهجة والأعراق ثم “بدرة” و”جصان” مع ما يحاكيها مع “بشت كو” وانحداراً الى الجنوب تبدأ “العمارة” و”هور الحويزة” مع ما يقابلها في “البسيتين” بنفس السحن والثقافة واللسان، الى الحد الذي تنقسم فيه العائلات على جانبي الحدود. ثم تليه البصرة والاحواز(خوزستان) اللذان لا ريب في وحدتهما ويستمر الحال جنوبا حتى دبي وبستك وبندر عباس على ضفتي الخليج.
وهكذا نستنتج أن تلك الحدود الموروثة من الدولة العثمانية لم تضع فاصلا لامتداد البشر بين الصوبين وينطبق ذلك على (الفيلية) الذين كانوا قد أنصفتهم التقسيمات الأولى لاتفاقيات “ارضروم ” المتعددة المراحل، عندما جعلتهم من حصة العراق ولكن ذلك الحال لم يستمر طويلا، فقد رضخت الدولة العثمانية لابتزاز (الروس) من الشمال إبان ضغوطهم في حروب “القرم” المتتالية، والإنكليز من الجنوب، ليصب بالنهاية في صالح “فارس” الذين كان للروس طمع في وراثة أرضهم كما آسيا الوسطى، بما يطلق علية الحلم الروسي السرمدي “للوصول الى المياه الدافئة”. وهكذا امتدت الحدود في اتفاقية “ارضروم” الأخيرة التي تجسدت عام 1905 لتترك لهؤلاء سوء العاقبة بعد أن فصلتهم عنوة عن محيطهم ومنحدرهم الطبيعي الى سهل دجلة المتداخل مع فطرتهم التاريخية.
لقد جرى وضع الحدود بحيث أعطيت منطقة (سومار) الفيلية الى إيران مقابل (هورين شيخان) و(قورتو) التي ردتا للعراق. ووضع (بشت كو) يدخل في تلك الفوضى الحدودية والتي أضحت إحدى ضحاياها، حيث قسموا الى أشلاء. فمثلا مدينة (مندلي) التي تقع اليوم على الحدود كانت حدودها تقع حتى (دير اله) داخل الحدود الإيرانية اليوم وما يدلل على ذلك هو وجود مخفر داخل عمق الأراضي الإيرانية يسمى (مخفر العثمانيين) وكان لها عدة قرى تحمل أسماء عراقية مثل (طيب) و(بيّات). ويتذكر المسنين من أهل المنطقة أو الناقلين عنهم بانه عندما كانت تتقوى العشائر الواقعة داخل الحدود الإيرانية على حكومتها المركزية من أمثال عشيرة (كلهور) أو (لورستان) التابعة الى (بشت كوه) ونزوحهم عند الضرورة الى مندلي عند ذلك يحدث تفاوض بين الاهالي وبين اميرها أو حاكمها مستغلين مجيئه للصيد داخل الحدود العراقية وبعد شيء من الرشوة يغض الطرف عن رجوعهم أو حتى عن تقنين قدوم المياه الوارد إليها أو المراعي التي يستغلها العرب والكورد والتركمان من سكنة المنطقة.