ج 4
المتتبع لحياة هذا الانسان سيرى مدى التضحيات التي قدمها في مجتمع منغلق محافظ لا يرى في الفن الا مضيعة وقت لا بل شارك حتى في التمثيل الصامت على مسارح مدينة السليمانية ثم تحول الى السياسة وناضل في صفوف الحركة التحررية الكوردية وكان بين القلة الذين حملوا افكار تقدمية اصلاحية ونقدية لجوانب السلبية في المجتمع الكوردي تاركا ارثا ثقافيا كبيرا ارجو ان ينتبه اليه المسؤولين عن التراث والثقافة الكوردية لجمعه في متحف خاض بهذا الفنان الخالد الذي لا يزال يؤثر بصوته على اداء العديد من الفنانين الشباب اليوم حتى بعد مرور اكثر من ثلاث عقود على وفاته.
الحقيقة ان الكتابة عن الغناء الشعبي الكوردي والحديث عن المطربين ليس احدى مقاصد بحثي هذا لذا اود ان اعتذر عن اسماء المئات من الفنانين والفنانات الذين لم اذكرهم وقد التقيت بمجموعة كبيرة منهم وودت ان اكتب واوثق مشاهدتي وقد ناقشتهم خلال سفري الطويل في المنفي فلهم اعتذاري. لكني وددت الوصول خلال البحث الى اهمية التواصل الفكري بين المستمع والمطرب والشاعر وكيف ان الشاعر الغنائي كان في الاساس يطرح فكرة وطنية وله مهمة اجتماعية مهمة في المجتمع الكوردي. تلك الفكرة كان لا يتجرء العديدين حتى من الحديث به دون ان يعاقبوا ويساقوا الى السجون والمعتقلات. ولكن ترديد الاغنية الشائعة لا يعاقب السلطة مرددوها. وقد كان للعديد من المطربين ذو الخلفيات الثقافية العالية الاثر الكبير في نشر الوعي الموسيقي كذلك فهذا الاستاذ “عمرر دزيي” كنا نجتمع به قبل عقود ، جمع الجالية الكوردية في ” فينا” عاصمة النمسا و اوربا في المطعم الكوردي حوله ليغني لهم بكل لغات الكون احلى ما كتبه الشاعر الكوردي المتسامح من شعر ولا يزال يواصل مهمته الحضارية تلك. اليه تحياتي الحارة
المطربة “عائشه شان” صوت مناضلة غنت بالكوردية وبالتركية في اكحل الايام حيث كان الرفض التام للوجود الكوردي في وطنها سائدا انذاك واعني في الدولة التركية رافعة بذلك الراية الفنية كسلاح ثقافي ينفذ الى الصميم فتحية الى ذكراها وسلام.
لا يمكن التطرق الى الغناء الكوردي الشعبي دون التوقف كذلك عند احد عمالقتها واكثر المطربين في العالم غزارة في انتاج الاغاني وهو مطرب الشعبي الكبير “حسن زيرك” فهو مدرسة غنائية شعبية متكاملة حمل الهم الوطني الكوردي ” خوايا وولات ازاد كه ي ….” اينما حل وترحل من ايران الى كركوك.
ان الغناء الملحمي الكوردي ذو تاريخ طويل. وقد بداء ربما والناس جالسون حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة في جبال وربى كوردستان فبدا احدهم يردد الشعر الملحمي غناء خاصة اشعار الخالد احمدي خاني ورائعته الشعرية “مم و زين” او يحاول احدهم ان يرطب الجو ويعيد البسمة للوجوه والامل نفوس المجتمعين المتعبين بعد يوم عمل شاق فيقرئ الشعرغناء. وهناك بالطبع مناسبات كالأعراس والأفراح والمناسبات الوطنية وكذلك الاتراح لذا نجد الحزن في النشيج الصادر من حناجر المطربين والمطربات وكانهم يندبون حظهم العثر في هذا العالم او يتباكون على هجر الحبيبة او يشتكون من ظلم الحاكم الظالم والجائر فالموال الكوردي “لاوك وحيران” يحمل طابع الحزن الابدي وربما يروي من المظالم الذي تعرض اليها الناس من قبل الجلاوزة والطغاة والجلادين. فطابع الحزن السائد على الموال الكوردي بصورة عامة نتيجة للهموم والاحباط والانكسارات الاجتماعية وفقدان العزيز وهجر المحبوبه خاصة “الحيران” وغالبا ما يبدا المطرب الكوردي بتلك الوصلة قبل بداه بالغناء المفرح و”البستة” ملازمة للغناء القديم وربما بقى بعض الاثر بين بعض المطربين وقد اعتاد عليها مطرب الشعب الخالد “علي مردان” حيث يعتبر احد اعمدة قراء المقامات في العراق .
وكذلك المطرب “احمد عارف جزراوي” و”نسرين شيرون ” وتحسين طه واخرون واستمروا على هذا النمط ولحد يومنا هذا فالمطربون عند ايدائهم لبعض الوصلات خاصة المطربين الشعبيين يبداونها دوما ب مقام. كما كان المطرب علي مردان يردد دائما “شلة بي بلاو نابي” اي المرقة لا تؤكل بدون تمن.
ان الغناء في كوردستان الكبرى مختلف من مكان الى اخر وقد قام مشكورا الفنان المبدع “مظهر خالقي” بتوثيق وتدوين العديد من الأغاني الشعبية جالا بين قرى ومدن كوردستان. حيث ان في كوردستان ايران يكون الغناء حالة مستمرة ملازمة لكل بيت وعائلة فنرى فيه من يجيد الغناء وحتى بين السياسيين والبيشمركة المقاتلين نرى ان الغناء يلعب دورا ترفيهيا مهما ويزيد من عزم المقاتلين ويرفع معنوياتهم. ولا يزال فرقة “كامكار” الموسيقية على نهج الاولين تقدم ابداعاتها كاستمرار لتلك الروح السمحة والطيبة القادمة من قرى ومدن كوردستان ايران.
المطرب الشعبي حسين علي كورجي
كان والدي رحمة الله عليه ورضوانه يحدثني عن احد المطربين الشعبيين وهو المطرب “حسين علي كورجي” حيث كان يعملان معا في السكك الحديدية في افتخار وكان والدي رئيسا للعمال اثناء الحرب وقبل الحرب العالمية الثانية حيث تم مد خطوط السكك الحديدية التي ربطت العاصمة بغداد بمدينة اربيل مارا بمدينة كركوك وكان رحمه الله يطلب منه الغناء بدل من العمل في حين غنائه كان يزيد من همة العاملين الاخرين ويزيدهم سرورا ويسهل عملهم الشاق وهم بعيدين عن اهلهم واطفالهم.
مطرب الشعب حسن زيرك
هذا واتذكر هاهنا المطرب الشعبي الكوردي الشهير المكنى ب”شوان برور” ، الذي اعطى بعدا عالميا للموسيقى الشعبية الكوردية ، وزيارته الى بيتنا حيث كنت اشارك اخي الكبير المرحوم علي، الشقة وكلانا كنا مستمرين في دراستنا العالية في جامعات “انقرة” تركيا اوائل السبعينيات فتفاجئ عند سماعه الغناء الكوردي التي كانت فرقة السليمانية تؤديها حيث كانت كاسيتات الفرقة رائجة في العراق بعد سواد اجواء السلم النسبي بعد اعلان بيان 11 من اذار عام 1970 كذلك كنا نستمع اغاني المطرب الكبير “كريم كابان”، حمه جزا والمطرب “حسن كرمياني “، “شمال صائب عمر دزيي و” وفؤاد احمد واخرون.
كنت قد ذكرته بتلك الايام عندما قابلته في احدى الحفلات التي يحيها في مملكة السويد قبل اكثر من ثلاثون عاما وتذكرنا معا تلك الايام التي جاء هو كذلك الى ذكرها في مذكراته المنشورة عن تلك الأيام قبل ان يلجئ الى الغرب. وقد كانت للحفلات الموسيقية التي احياها فنانون كورد الاثر الأكبر لترسيخ وعي وطني عند الكورد وتوحدهم رغم انهم يحملون جنسيات عديدة من دول مختلفة في المهجر وبذلك تكونت هوية وطنية كوردية واضحة المعالم حيث يفتخرون بملابسهم واكسواراتهم من زينة وذهب وفضة وعاداتهم وتقاليدهم الأصيلة وكنت قد اشرت الى اهمية الازياء الكوردية في تكوين الهوية الوطنية الكوردية وكنت قد اشرت الى اهميتها في مقال سابق لي في جريدة التاخي. والجدير بالذكر بهذا الصدد ان المطربين الاوائل انتبهوا الى اهمية الملبس الشعبي في الحين ان معظم المطربين الشباب اليوم تركوا هذا التقليد وبقى عند بعض المطربات حيث لازلن تؤدين الوصلات الغنائية بالملابس الكوردية الشعبية.
من التراث الشعبي الغنائي الكوردي
هذه الحفلات الغنائية التي كانت المنظمات الكوردية او الجمعيات الثقافية في المنفى تنظمها وقد لعبت دورا مهما في نشر الثقافة والفنون الكوردية. وقد حملت هذه الحفلات طابعا موحدا رغم اختلاف اللهجات الكوردية وبات المطرب والمطربة تغني لجمهورها بكافة تلك اللهجات “صوراني ، كرمانجي، كوراني ، زازا وبلهجة كركوك او اربيل او بلهجة مدينة سليمانية او كرمنشاه وسنندج وغيرها من لهجات المدن البديعة” وقد كان للمطرب الكبير “ناصر رزازاي” و” مظهر خالقي” “نجم الدين غلامي” و “حه مه جه زا ” و عومر دزيي، “مه رزيا ره زازي ” الريادة و اهمية كبيرة في احياء تلك الحفلات. وقد ظهر قافلة مثقفة من المطربين الشباب زكريا وليلى فريقي و عدنان كريم و جوبي كركوكي واخرون ولا مجال لذكرهم في هذا المقال وسآتي ربما في كتابة قادمة اليهم ودورهم المهم في المجتمع الكوردستاني في الاقليم.
كما شارك العديد من الموسيقيين الكورد كذلك في احياء تلك الحفلات اذكر كنموذج الاستاذ الموسقار الاكاديمي ” رزكار خوشناو المقيم في النمسا” واخرون كثيرون لا يمكن حصرهم امثال موسيقيي فرقة السليمانية وكركوك ودهوك واربيل جميعا و الموسيقار دلير مانوو الاخوين قرداغي ودلشاد سعيد كا نوا من الرواد الاوائل.
بينما بقت الدبكات تاخذ طابعا واحدا يلتقي فيها الجميع ولا نرى ان هناك عزلا بين السيدات والرجال اي دبكات خاصة بالنسوة واخرى بالذكور بل ترقص السيدة الكوردية يدا بيد مع رفيق دربها الرجل.
لا ريب ان الحفلات كانت ولا تزال مكانا طبيعيا للقاء الودي والسلمي وساحة لتبادل التجارب والاخبار وهموم الوطن وزيادة الوعي الحضاري وقد التفت المثقف الكوردي الى ذلك منذ امد طويل مستغلا المناسبات الوطنية خاصة اعياد يوم نوروز لاجرا تلك الحفلات وحمل الحلم الكوردي وتجديدها وتعريف الشعوب المضيفة لهم بثراث الشعب الكوردي. وكما اسلفت فان تلك الحفلات حملت طابعا سياسيا واضحا في تركيا في السبعينيات حيث كانت لكل مدينة كوردستانية ليلة خاصة بها تجمع ابنائها في تلك اليلة والتي تسمى باسم تلك المدينة يسمع فيها الهتافات والنداءات و الشعارات الحماسية السياسية والوطنية والموسيقى الكوردية والرقص الشعبي التي كانت عادة لا تبث عن طريق وسائل الاعلام الرسمية. بينما نحن في العراق وفي ايران كانت ولا تزال الموسيقى الكوردية والغناء شيئا طبيعيا نستمع اليها يوميا من وسائل الاتصال المرئي والمسموع وعلى صفحات الانترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي من يو توب و تيك تاك والفيس بوك.
ان تلك الحفلات الموسيقية كانت سببا مباشرا لتوجه العديد من الشباب الكورد في المهجر واختيارهم طريق الفن حيث درسوا في المعاهد الموسيقي وتكون بذلك جيل من الفنانين الواعين والمثقفين والدارسين لأساليب الحقيقية العلمية للموسيقى نراهم اليوم من على شاشات القنوات التلفزيونية الكوردية العديدة .