الفيدرالية في العراق بين شعارات التقسيم والنزعة المركزية

د. نايف كوردستاني

واحدة من إشكاليات الموجودة في المجتمع العراقي، والعقلية العراقية الحاكمة هي عدم الإلمام بمفهوم الفيدرالية، ونظامه، والدولة الفيدرالية، والاطّلاع على التجارب الفيدرالية الناجحة في كثير من دول العالم التي طبقتها بصورة صحيحة، وعدم الانجرار وراء العقلية المركزية.
وهذه الإشكاليات الموجودة لدى العقليات الحاكمة نابعة عن الخلفية المتراكمة، والعقل الجمعي المسيِّطر على نمط تفكيره لعلمه بأن العراق الحديث تأسّس على يد البريطانيين في سنة (1921م) في ظل غياب الهوية الوطنية الجامعة بين المكونات، والشعوب العراقية لاسيما بعد اكتمال الخريطة السياسية للعراق بضم ولاية الموصل إلى العراق، ولم تكن هناك دولة باسم العراق قبل تشكيلها حديثًا، وكانت كثير من المدن، والبلدات، والمناطق محتلة من قبل الأنظمة، والدول، وقد كان تشكيل العراق من مصلحة المحتل اقتصاديًا لكنه تناسى الهوية الجامعة بين مكوناته القومية، والدينية، والمذهبية، وبعد سقوط نظام البعث البائد المركزي في عام (2003م) برزت التجربة الفيدرالية في العراق لخصوصية البلد المتعدد قوميًا، ودينيًا، ومذهبيًا، وسياسيًا، وثقافيًا.

لابد لنا أن نقف عند مفهوم الفيدرالية، وهو مصطلح غربي معناه في اللغة العربية (الاتحاد)، وهي شكل من أشكال الحكم تكون السلطات فيها مقسّمة دستوريًا بين الحكومة الاتحادية، ووحدات حكومية أصغر (الأقاليم، والمحافظات) ويكون كلا المستويين من الحكومة معتمدًا أحدهما على الآخر، وتتقاسمان السيادة في الدولة.
والنظام الفيدرالي- الاتحادي- مبني على التوافق وفقًا لمسألتين أساسيتين، وهما:
الأول: رغبة الدول، أو الأقاليم بالاتحاد في تكوين دولة واحدة.
الثاني: رغبة كل إقليم في المحافظة على استقلاله الذاتي بقدر الإمكان.
وما يهمنا هنا أن النظام الفيدرالي – الاتحادي – هو شكل من أشكال الدولة الناجحة التي تسمح للتنوّع الاجتماعي في الدول بالتعبير عن الخصوصيات الذاتية لمكوناته مع الإبقاء على رابط الوحدة في النظام الاتحادي الفيدرالي لاسيما في عصر العولمة، وإفرازاته الثقافية، وهي واحدة من الوسائل الديمقراطية، والحلول العادلة للمجتمعات المتعددة، والمتنوعة ثقافيًا، وهناك (24) دولة في العالم تتبع النظام الفيدرالي أي ما يعادل (40%) من سُكَّان العالم.

إن ما تعانيه المجتمعات في أغلب دول العالم الثالث التي تبنت هيكلية الدولة الواحدة المركزية التي يسعى نظامها السياسي إلى فرض الهوية الواحدة عبر تخطي، أو حتى قمع الثقافات الفرعية أحيانًا لم تؤدِ إلا إلى مزيد من المشكلات، وتبديد الموارد باتجاهات لا تخدم التنمية المستقلة.

والفيدرالية هي إعادة تكوين نظام سياسي يسمح لممثلي مكونات المجتمع العرقية، والدينية، والطائفية بالمشاركة، والحوار، والتباحث بشأن مصالحهم، ومطامحهم، والاقتسام الدستوري للصلاحيات، وتوزيع الثروات الوطنية على أسس عادلة.
ولنجاح النظام الفيدرالي أمور لا بد منها، وهي:
وجود مجموعة عرقية مسيطرة مما يجعلها تشعر بالأمان عند تقديمها تنازلات للمجموعات الأخرى.
تمثيل المجموعات الإثنية كلها في الحكومة الفيدرالية.
وجود أحزاب سياسية تشمل مناطق البلد كافة، ولديها أعضاء من كافة مكونات الشعب العرقية، والدينية، والمذهبية.
وجود نظام ديمقراطي، واحترام حقوق الأقليات.
اتفاق طوعي بين السُّكّان، ونظام اقتصادي مزدهر، ومتطوّر.

إن نجاح أية فيدرالية مرتبط بأن تقوم على أسس ديمقراطية، وهذا الأمر يتطلّب موافقة مزدوجة، أي موافقة الأفراد من المواطنين في المجتمع، وموافقة المجتمعات الإثنية، والعرقية، والدينية المتعددة التي يتكون منها المجتمع ذو المكونات المتعددة، ولابد من التركيز على النقاط الآتية:
– بناء الهياكل الملائمة لإنشاء المؤسسات الفيدرالية، وليس الاهتمام بمن يشغلها.
– دعم الممثلين الذين يسعون إلى التغيير الحقيقي التعددي سلميًا.
– القبول بشراكة حقيقية.
– العمل على نشر الفيدرالية من خلال المؤسسات الإعلامية، والحكومية لاسيما الجامعات، والمدارس، فضلًا عن دعم منظمات المجتمع المدني للفيدرالية من خلال المحاضرات، والندوات، والحلقات النقاشية من قبل المختصين، وتثقيف المجتمع لذلك.
– وضع مفردات دراسية مناسبة لكل مرحلة دراسية في المدارس، والجامعات بالتعاون مع وزراتي التعليم العالي والبحث العلمي، وزارة التربية بالتعاون مع الوزارتين نفسيهما في حكومة إقليم كوردستان.
– العمل بجدية على نشر مفاهيم الفيدرالية لكي يترسخ في أذهان المجتمع، وأن الفيدرالية تعني الاتحاد، وليس التقسيم من أجل إنضاج هذا الموضوع خدمة للعراق الاتحادي.
وفي ديباجة الدستور العراقي الصادر في عام (2005م) الذي صوّت عليه العراقيون: “نحنُ شعبُ العراقِ الناهض توًّا من كبوته، والمتطلع بثقة إلى مستقبله من خلال نظامٍ جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي…”.
وتنصُّ المادة (١) من الدستور العراقي:” جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق”، وفي المادة (٣)”العراق بلد متعدد القوميات، والأديان، والمذاهب…”.
هناك مطالبات كثيرة من قبل أبناء الوسط، والجنوب بإقليم خاص بهم لاسيما أنهم يرون أنفسهم مهمشون على مستوى الحكومات العراقية الحديثة، والمعاصرة، ومن بعد عام (2003م) من حيث تقديم الخدمات، وانعدام البنى التحتية، وإقصائهم من المشاركة في الإدارة وصنع القرار، وعدم استثمار النفط بصورة صحيحة، وإهمال ملف الزراعة، والآثار، والسياحة الدينية، وعدم الإفادة منهم، علمًا أن السلطة بيدهم بمختلف توجهاتهم السياسية من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي.

إن مشروع الفيدرالية من المسائل التي تثير المخاوف لدى المجتمع العراقي بصورة عامة؛ لأنهم ينظرون إليه على أنه مقدمة للانفصال، ومعنى الانفصال لدى هؤلاء معناه حرمانهم من خيرات الوسط، والجنوب، والمسألة ليست متعلقة بحرصهم على الوحدة الوطنية كما يدّعون، والفيدرالية ليست تقسيمًا كما يتصوّرون بل صيغة إدارية، ومشروعًا تنمويًا، وحضاريًا.

ومن أجل وضع النقاط على الحروف حول تركيبة المجتمع العراقي يجب أن يعرف المتلقي أن العراق قديمًا لم يكن اسم دولة معروفة بحدودها الجغرافية السياسية الحالية، ففي السابق كان اسم العراق يُطلق على (البصرة، والكوفة) فقط، وكان يُطلق عليهما العراقيان، أما إبان الاحتلال العثماني، فكانت هناك ثلاث ولايات، وهي: (بغداد، والموصل، والبصرة)، فمنذ تشكيل العراق الحديث كان هناك تهميش الكورد من حيث حقوقه الثقافية، والمناصب الإدارية حتى قيام ثورة أيلول التحررية الكوردستانية في عام (1961م) التي انتهت بتوقيع اتفاقية (11 آذار 1970م) مع الحكومة العراقية ثم تنصّلت الحكومة العراقية من الاتفاقية باتفاقية الجزائر في سنة (1975م) حتى قيام انتفاضة في عام (1991م) وكذلك تعرّض الشيعة إلى التهميش، وقاموا بالانتفاضة الشعبانية إلا أنها لم تتخلل بالنجاح، وتم ملاحقة العديد منهم، وتصفيتهم، وإعدامهم.
تجربة الفيدرالية – الاتحادية- جديدة في العراق منذ تأسيسه حتى عام (2003م) لاختلاف أنظمة الحكم، وأنواع الحكومات ابتداءً من الحكم الملكي، وانتهاءً بالحكومة الجمهورية البعثية الاستبدادية (الديكتاتورية) أغلب الحكومات كانت قائمة على سياسة تهميش المكونات، والقوميات، والديانات، والمذاهب حتى انتفاضة سرهلدان بكوردستان- العراق في عام (1991م) نتيجة لجرائم البعث تجاه الشعوب العراقية، ومنها شعب كوردستان الذي لاقى شتّى أنواع الجرائم ضد الإنسانية من حملات الأنفال الذي راح ضحيته (182000) ألف مواطن كوردي مدني، ودفن (8000) بارزاني مدني، و(5500) مواطن مدني راحوا ضحية القصف بالأسلحة الكيمياوية في حلبچـة، و(12000) كوردي فيلي، ومصادرة أموالهم المنقولة، وغير المنقولة، ومسح (4500) قرية كوردية من الوجود، فضلًا عن عمليات التهجير القسري، وعمليات التعريب في المناطق الكوردستانية، وبعد الانتفاضة الكوردستانية ضد النظام القمعي حدث النزوح الجماعي (الهجرة المليونية)، وعلى إثرها بدأ المجتمع الدولي بالتحرك لوقف القمع الذي تعرّض له السُّكّان المدنيون، فقد أصدر مجلس الأمن الدولي قراره المُرقّم (688) في (5 نيسان 1991م) لإرغام النظام العراقي بوقف القمع، والسماح بإيصال الأغذية، والمساعدات الإنسانية إلى السُّكّان المدنيين، وما تلا ذلك من إنشاء ملاذ آمن للنازحين في مناطقهم بموجب قرار مجلس الأمن .

ومِنْ ثَمَّ جرت الانتخابات في إقليم كوردستان، وتشكلت الحكومة الكوردستانية الأولى في عام (1992م)، وأصبحت كوردستان إقليمًا ضمن العراق بطلب من مجلس النواب الكوردستاني.

وهنا يجب أن نبيِّن للمتلقي العراقي، والعربي أن هناك فكرة مغلوطة مترسخة في أذهان المجتمع العراقي، وهي أن حكومة البعث قامت بمنح كوردستان الحكم الذاتي المستقل إبان اتفاقية (11 آذار 1970م)، وقد جاءت هذه الاتفاقية على خلفية الصراع المسلّح بين الحكومة المركزية في بغداد، وقوات الپـيشمرگـة بقيادة الزعيم الراحل ملا مصطفى بارزاني منذ عام (1961م) حتى توقيع الاتفاقية.
لاسيما بعد قلق الحكومة العراقية من هبوط معنويات مقاتليه أمام قوات الپـيشمرگـة التي كانت تمتلك أسلحة تقليدية، فاضطرت الحكومة العراقية بتوقيع اتفاقية (11 آذار) مع الزعيم الراحل ملا مصطفى بارزاني من أجل إعادة تأهيل الجيش، وكسب الوقت بتدريبه، وتسليحه حتى عُقدت اتفاقية الجزائر المشؤومة بين حكومة البعث، وشاه إيران في سنة (1975م)، ولم يتم تنفيذ أي بند من بنود اتفاقية (11 آذار) على أرض الواقع، وهي مجرد حبر على الورق، وليس كما يعتقد المجتمع العراقي، والطبقة السياسية، وحصلنا على حقوقنا بالانتفاضة، والكفاح المسلّح، وليست منحة من حكومة البعث كما يُروّج لذلك!
لا يزال كثير من مثقّفي العرب، ومُنظِّري الإسلام السياسي بشقيه- السُّنّي، والشِّيعي- يختلفون حول مفاهيم القومية، والوطنية، والمركزية واللامركزية والفيدرالية بشكل واسع، ويدمجون بين الأفكار الدينية المتطرِّفة، والمفاهيم القومية كما أنهم لايستطيعون فصل العُمق القومي عن النزعة الدينية، ومِنْ ثَمَّ يدخلون في تيه المفاهيم، والاستنتاجات المغلوطة التي تُبقي ضبابية في أذهانهم كنظرتهم إلى النظام الفيدرالي على أنها نزعة سياسية قومية، أو طائفية لتقسيم الوطن!

فهناك طبقة من القوى السياسية السُّنّية تميل إلى النظام المركزي الشمولي لاسيما أن السلطة كانت بيدهم منذ تأسيس الدول العراقية بمختلف مسمّياتها حتى سقوط نظام البعث البائد في عام (2003م)، وترى أن التجربة الفيدرالية تعني التقسيم مع دغدغة الشارع حول الهوية الوطنية للبلاد، في حين ترى القوى الشيعية السياسية بتطبيق الفيدرالية في المحافظات الجنوبية أسوة بتجربة إقليم كوردستان، وتجربتها الرائدة في مجال البناء، والإعمار، وبناء بُنى تحتية قوية، ومشاريع إستراتيجية عملاقة من أجل المواطن الكوردستاني، وتعدّد مصادر الدخل، وعدم الاعتماد على مورد النفط لكونه متقلِّب الأسعار حسب الأسواق العالمية، وهذه الإنجازات، والنجاحات التي حققتها حكومة إقليم كوردستان جعلت الطبقة السياسية في بغداد بحرج كبير أمام جماهيرها !
والكورد مؤيدون للتجربة الفيدرالية، وداعمون لها بقوّة في العراق، والمنطقة؛ لأن النظام الفيدرالي يحفظ لهم حقوقهم قوميًا، وثقافيًا، واقتصاديًا، وجغرافيًا، وسياسيًا.
أما الإسلام السياسي بشقيه السُّنّي، والشِّيعي فهم معارضون للنظام الفيدرالية، ولهذا السبب يسعون بشتّى الوسائل، والطُّرق بعرقلة هذا النظام، في حين تسعى بعض الأطراف الإسلام السياسي الشِّيعي إلى إلغاء الفيدرالية، وإحلال تجربة ولاية الفقيه في العراق على الرغم أنهم صوّتوا للدستور، والتجربة الفيدرالية إلا أن هناك ضغوطات إقليمية على تلك الأحزاب لكي لا تنتشر فكرة الفيدرالية في الدول الإقليمية المجاورة للعراق بسبب وجود الكورد وغيرهم في تلك الدول الإقليمية!
في حين ترى قوى سُنّية وطنية بأن أفضل حل للعراق هو النظام الفيدرالي ، وتشكيل إقليم السُّنة للتخلص من عمليات التهجير القسري في مدنهم من قبل الميليشيات، وعمليات الإخفاء، والتصفية، والقتل على الهوية، وإفراغ المناطق من سكانها، وإدارة المنطقة من قبل شخصيات سُنّية بعيدة عن الأجندات الإقليمية، والإفادة من تجربة إقليم كوردستان لاسيما أنهم كانوا نازحين، ولم يشعروا بالتهميش، وعوملوا معاملة حسنة من قبل حكومة كوردستان، وشعبها، علمًا أن السُّنّة كانوا رافضين للفيدرالية جملة، وتفصيلًا لكنهم عندما تعرضوا للتهميش رأوا أن رؤيتهم غير صائبة، أما الشخصيات السنية الولائية فهم ضد الفيدرالية.

يمر العراق المعاصر بمرحلة صعبة في تأريخه الدستوري؛ لأن الدستور العراقي شبه معطل، ويتم التعامل معه بانتقائية، وعقليات مزاجية، وكثير من التشريعات النافذة لا قيمة لها على أرض الواقع، وأحكام الدستور أصبحت حبر على ورق نتيجة عدم التزام الحُكَّام بنصوصها.

وتجربة إقليم كوردستان الفيدرالية الأمنية، والاقتصادية، والزراعية من أفضل التجارب على نجاح النظام الفيدرالي.
وبعد نجاح تجربة إقليم كوردستان تحاول أطراف داخلية مدفوعة من قبل أجندات خارجية إقليمية بتفكيك إقليم كوردستان إمّا ربطها ببغداد لاسيما بعد مشكلة رواتب موظفي كوردستان، أو العمل على تشكيل إقليم السليمانية، وحلبچـة مدفوعة من قبل جهات لا ترغب بتطبيق الفيدرالية في المحافظات الجنوبية، والوسط، ومعارضين لها، فهذه ازدواجية في التعامل مع النصوص الدستورية علمًا أن تلك الجهات كانت تطالب بإقليم سومر، وإقليم البصرة!

إن النظام الفيدرالي يمنع التفرّد بالسلطة، ويضمن الحقوق، والحريات للأفراد، والطوائف، والقوميات، والمكوّنات الاجتماعية العراقية، والتوزيع العادل لثروات البلد، وتطوير الكفاءات، والإدارات الحكومية، وتعزيز وحدة البلد، وترسيخ روح المواطنة، والانتماء، ويجعل الدستور النواة الأساسية لبناء نظام سياسي متزن، ومستقر إلا أن هناك أطرافًا سياسية تحاول الانقلاب على الدستور، وتفريغه من محتواه، والذهاب باتجاه المركزية بحُجّة حماية مصلحة البلد، وهذا من يهدد العملية الديمقراطية برمتها!

قد يعجبك ايضا