مؤيد عبد الستار
عانت الثقافة الكوردية في جنوب كوردستان ، وعلى الاخص ، بلاد الكورد المقسمة بين العراق وايران ، من اهمال لواقعها الثقافي وآدابها ولغتها ، فلم يكن التدوين والتاليف متاحا للمعنيين في الثقافة على جانبي خط الحدود الفاصل بين ايران والعراق من وسط البلاد ( خانقين / كرمانشاه ) الى جنوب البلاد ( جنوب العمارة / لورستان ).
في تلك البلاد الكوردية الممتدة على جانبي حدود العراق وايران التي تقدر بالاف الكليومترات ، والتي تضم محافظات عيلام ولورستان وكوردستان في ايران ، ومدن خانقين وبدرة وجلولاء والسعدية وبعض قرى وبلدات ديالى والكوت والعمارة في العراق ، وامتدادها الذي يتجاوز العاصمة بغداد وقد يصل الى الحلة وجنوب الفرات الذي تتوزع فيه قبائل كوردية مثل الجوران والسورميري والملك شاهي وغيرها من عشائر وتجمعات توزعت في الاراضي الزراعية منذ فجر التاريخ ، والتي عمرت ارض سومر وبابل بعمرانها وخبرتها الزراعية وتصنيعها لمنتجات الالبان وبراعتها في الحرف اليدوية وصناعة العربات ، و الفنون الموسيقية والغنائية والرياضة مثل المصارعة ولعبة الخيول – الصولجان / بولي – وغير ذلك .
عانت الثقافة الكوردية الجنوبية في العراق من النظرة الاحادية للثقافة ومحاولة فرض الثقافة العربية على جميع البلاد والشعوب القاطنة في العراق دون اعتبار لتاريخها وثقافتها ولغاتها ، فلم تساهم المدارس في تعليم اللغة الكوردية للمواطنين الكورد الذين يشكلون الغالبية في العديد من المدن الحدودية العراقية ، اضافة الى وجودهم باعداد كبيرة في بغداد وغيرها من المدن ، فعانى ابناء الكورد من صعوبة القراءة والكتابة باللغة الكوردية ، لغتهم الام ، وانحسرت شيئا فشيئا اللغة الكوردية من المدن التي يعيش فيها الكورد بكثافة لتصبح في زاوية الاهمال والنسيان.
وزاد المد الشوفيني القومي لدى الطغم الحاكمة في العراق وايران من اضطهاد الكورد وسحق ثقافتهم وافقارهم ماديا ومعنويا ، واستخدمت السلطات في العراق الاساليب الشريرة في القضاء عليهم وابادتهم من خلال حملات التهجير القسري والمقابر الجماعية وجعلتهم وقودا لحروبها العدوانية مع البلدان المجاورة وضحايا للالغام والتجارب الكيمياوية والبايولوجية ، فقضت على الاف الاسر والعوائل ، وحجزت الشباب وقضت على الكثير من ابناء الكورد في بلاد الرافدين.
حاول العديد من مثقفي الكورد الذين ينتمون لتلك المناطق الذين عاشوا في الحواضر العراقية او الايرانية ، اداء قسط من واجبهم تجاه شعبهم وثقافتهم بما اتيحت لهم من امكانات ، فقدموا عصارة فكرهم باللغة الفارسية او العربية بسبب عدم توفر وسائل طباعة ونشر كوردية ، وصعوبة ايصال افكارهم الى ابناء شعبهم ممن تعلموا ودرسوا باحدى اللغتين الفارسية او العربية في تلك المناطق .
يمثل كتاب الباحث الكوردي العراقي الدكتور اسماعيل قمندار،دراسة اللهجات الكوردية الجنوبية ، الذي نشر ببغداد مؤخرا ضمن هذا الجهد الكبير ليضع لبنة اساسية في الدراسات اللغوية الاجتماعية والثقافية للكورد الذين توزعوا على طرفي خط الحدود العراقي الايراني ويسجل لهجاتهم وتراثهم الغني، وقد اشار الباحث قمندار الى نقطة هامة حين ذكر في كتابه ما يلي : ( يستخلص المرء ببساطة ، بأن وضعية انقسام كوردستان بين عدة بلدان ، لا تجيز في الوقت الراهن تصورا عمليا للتوحد اللغوي الكوردي ، وكل ما يمكن بالتالي عمله ، هو المحافظة على كل واحدة من اللهجات على انفراد ، والدفاع عنها ) ص 114
تصدق هذه الملاحظة على تعدد اللهجات الكوردية ، والفوارق التي خلقتها الظروف الطبيعية والاجتماعية ، اضافة الى انعدام الادارة السياسية الموحدة للمناطق المختلفة التي خضعت لثقافة رسمية مغايرة لثقافة ولغة القبائل الكوردية التي تتحدث بلهجات مختلفة في تلك المناطق .
فان وسائل الاتصال التي تخضع للادارة السياسية مثل البث الاذاعي والتلفزيوني وصناعة السينما والصحافة ودور نشر الكتب والمدارس هي الوسائل الاساسية لتوحيد لهجات القبائل والشعوب المنضوية تحت ادارة سياسية تقود المجتمع عبر عقود من السنين فتخلق من خلالها مشتركات لغوية وبنية ثقافية لها ملامح وسمات عامة موحدة ، وابسط مثال على ذلك ما لمسناه من تاثير السينما المصرية على الثقافة العربية ، اذ جعلت من اللهجة المصرية العربية لهجة شائعة ومعروفة ، بينما ظلت اللهجة الجزائرية صعبة وقليلة التداول في العالم العربي .
وفي ذات السياق تاتي ملاحظته الناقدة ( وبشكل عام ادى الجهل العميق بوضع الكورد الجنوبيين ومجموعتهم اللهجية الكبيرة الى نسيانهم الغريب من قبل الممثلين الكرمانج والسوران في النقاشات المذكورة اعلاه حول توحيد الكوردية ) ص 116
فقد تعرضت اللغة الكوردية للكورد الجنوبيين – في العراق يطلق عليهم تسمية الفيلية – الى الحيف الكبير من قبل الشعب الكوردي في اقليم كوردستان تحت ادعاء باطل بانهم وحدهم الكورد ، مما خلق حاجزا في التواصل بين الكورد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وتعرضت مجموعات بشرية كبيرة كوردية الى التهميش الثقافي والسياسي . وفي ذلك ضرر كبير على عموم ثقافة الشعب الكوردي ومصيره التاريخي في المستقبل .
هناك الكثير مما يكتب عن هذا الكتاب الموسوعة والذي فتح بابا كبيرا في عالم لهجات الكورد الجنوبيين وثقافتهم وتراثهم نامل ان تتاح فرصة تقديم الدراسات المكملة له من قبل الكتاب والباحثين الكورد لرفد الحركة الثقافية الكوردية بالبحوث اللغوية والثقافية الضرورية لتطور الكورد في مختلف اجزاء كوردستان .
* دراسة اللهجات الكوردية الجنوبية ، د. اسماعيل قمندار ، دار ومكتبة عدنان، بغداد 2014 .