الشعب هو الأصل والمعيار

همام شريف

على كلّ مسؤول يريد الاطّلاع على هويّته الوطنية والذاتية الحقيقية، ومعرفة مدى التزامه بمسؤوليّاته الرسمية وواجباته الوطنية، أن يُجري مقارنة بين أدائه أو أداء حكومته، وبين منعكساتها على مرٱة الشعب، وليس على مرٱة مصلحته أو مصلحة رؤسائه.. وثمّة صفتان اثنتان سوف تسفر عنهما المقارنة؛ إمّا كونه أمينا ملتزما، أو منتفعا انتهازيا …. فالوزير الذي يتقاضى راتبا عاليا من جيوب الشعب، ويركب سيّارة فخمة من أموال الشعب.. يجب عليه بالمقابل تقديم خدمات لهذا الشعب، وليس لحكّامه، وإن لم يفعل فهو انتهازيّ عميل.. الشعب هو مصدر السلطات، وهو العامل المنتج، وليس رجال الحكم كذلك، والشعب هو المالك لأرض الوطن وثرواته، وليس رجال الحكم كذلك.. والشعب هو الأصيل، وليست الحكومة سوى وكيل، أوكل إليها الشعب إدارة هذه الممتلكات، لتعود عليه، وليس على الحكومة، بالرفاه والازدهار والسعادة.

بقيام الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، شهدت عروش الحكم الملكيّ القائمة على الحقّ الديني الإلهي تداعياتها، وبدأ نظام عالمي جديد بقيام حكومات دستورية على أنقاض العروش الملكية المتساقطة.. وفي حين استمدّت تلك العروش شرعيّتها المزعومة من الإله، بقيت أقدام الحكومات الدستورية الجديدة، تلوح في الهواء، دون أسس شرعية تقف عليها.. وبما أنّ بناء الأسس النظرية هي من صلب مهامّ الفلاسفة الاجتماعيين، فسرعان ما هبّ معارضو الحكومات الملكية الدينية، إلى بناء قاعدة نظرية، تسؤغ وتشرعن وجود هذه الحكومات.. وما لبث أن استقرّ الأمر عند نظريّة “العقد الاجتماعي”, للفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” (١٧٦٢م). 
لا تحسبوا أنّ الممالك ذات الحكم المطلق عدمت من يسوّغها.. بل حتّى هذه الممالك المستبدّة القائمة على باطل، عمل بعض الفلاسفة الاجتماعيين على تسويغها ونصرتها، ومنهم “توماس هوبز” (من فلاسفة القرن السابع عشر.. هو عالم رياضيات وفيلسوف انجليزي)، ٱمن بأنّ الإنسان أنانيّ همجيّ  (Selfish-Savage) بفطرته، يجب إخضاعه للسلطة المطلقة، كي تخلّصه من همجيته وأنانيته.. تحدّث “هويز” قبل “روسو” الفرنسي عن العقد الاجتماعي (Social Contracr). وقد لا يختلف بعض الفلاسفة عن بعض رجال الدين، من حيث تزلّفهم للحكّام طلبا للجاه والمال.

استرشد “روسو” بمبادئ الديمقراطية التمثيلية الإغريقية، وبما أورده “أفلاطون” في كتابه؛ الجمهورية.. لكنّ عقده بقي مجرّد تسويغ نظري لوجود الحكومات البديلة عن الملكيّات، بوصفها أقلّ منها ظلما للشعب، الذي تمّ تجميده على شكل صنم مقدّس، عاجز عن الكلام والحركة، غافل عن كلّ ما يجري حوله، ويُبنى عليه.. افترض “روسو” أنّ السلطة الحاكمة؛ أيّة سلطة على الإطلاق، تستمدّ شرعيّتها من تعاقد افتراضيّ أقرّه ووقّعه الشعب الصنم، أبدى فيه قبوله بوضع رقبته تحت أقدام السلطة، وأوكل إليها إدارة جميع ثرواته والتصرّف بها وبمصيره تصرّف المالك بملكه.. ثمّ أباح  لها حكمه واستعباده ولعن أفطاسه.. كلّ هذه الحقوق المصيرية الحقيقية، جاءت من عقد مّفترض موقّع من قبل شعب صنم، لا علم له ولاخبر، بكلّ ما يجري حوله! وهكذا وبهذا العقد المزعوم، ديست في باريس حرّية الشعوب بأقدام الحكومات.. نعم؛ في باريس التي كانت مسقط رأس “لائحة حقوق الإنسان”، ومنبر الحرّية الجديد..
لكلّ عقد أطرافه، وأقلّها طرفان اثنان، قد يكون أطراف التعاقد أشخاصا طبيعية أو اعتبارية، وفي حالة العقد الاجتماعي هنا تمّ افتراض وجود طرفين اثنين هما: السلطة الحاكمة، والشعب المحكوم، وكلّ منهما يتألّف من أشخاص غير محدودة العدد، ينوب عنها من يمثّلها شرعا وقانونا.. فالسلطة الحاكمة المرتقبة قد يمثّلها رئيسها، أمّا الشعب فقد فقد من يمثّله قبل نفاذ العقد الاجتماعي؟ ربّما يصحّ الأخذ أصولا برأي الشعب، فيما لو أجري استفتاء شعبي حول قبول أو عدم قبول الأفراد بالإنضواء تحت سلطة الحكومة حسب شروط العقد.. لكن.. لم يجر في الواقع مثل هذا الاستفتاء، وتمّ إغفال رأي أحد طرفي العقد، بالتالي فالعقد باطل غير مستوف لشروط صحّته، ولا يجوز الأخذ
به.. أمّا من حيث الواقع العملي، فالحكومات لم تصل جميعها  إلى سدّة الحكم بإرادة شعبية، لاسيّما في دول العالم الثالث، حيث تكون الانقلابات العسكرية طريقا شبه وحيد للوصول إلى السلطة..
وفي مثل هذه الأحوال يتحوّل أفراد الشعب إلى خراف معدّة للذبح على مذابح النظام الحاكم.

ثمّ إنّ معظم الحكومات ترمق مواطنيها بنظرة دونية، على أنٌهم مخلوقين من طين، والحكٌّام من ذهب.. وعوضا عن كونها خادمة للشعب ووكيلة على أرزاقه، لكنّها تتصرٌف وكأنٌها مالكة وسيٌدة، جيٌرت جميع قوانين ودساتير البلاد لمصلحتها، ولم تبق للشعب الموكِّل المالك سوى الإذعان والخضوع لأوامرها..
شعب أملاكه شاسعة، وثرواته طائلة ممتدّة على مساحة وطن، أوكل أمر إدارتها إلى حكومة، المفترض أنّها مؤسّسة مختصّة، لقاء أجر محدّد وبموجب عقد معيّن، يخوّلها جميع صلاحيات الإدارة.. فقامت بتجنيد من يحميها، وسنّت قوانينها، وعيّنت من يقاضي المتجاوزين المجرمين، وفرضت ضرائبها، التي تعود إلى خزانة الشعب المالك كنوع من الواردات الشعبية.. ثمّ مالبثت أن استقوت واستنسرت، فاستولت على الأرض، واسعبدت الشعب المالك، وتصرّفت بأمواله كيفما تشاء، وجعلت أرض الوطن  وما عليها، بما في ذلك الشعب، ملكية إقطاعية لها، ضاربة عرض الحائط بكلّ ما جاء  في العقد، فأنكرت على الشعب حتّى حقّ ملكيّته..  على ضوء هذا الوضع الظالم، الذي يمثّل إعادة النظام الإقطاعي الغابر المهترئ، بفارق واحد فقط هو استبدال الشخص الإقطاعي الفرد بشخص اعتباري على شكل حكومة.. فماذا يفعل الشعب في هذه الحالة؟ إن اشتكى للقضاء.. فالقضاء صنيعة الحكومة! وإن طلب العون من أبنائه حماة الأرض.. فالحماة قد وظّفتهم وجنّدتهم لحمايتها قبل الوطن! وإن لجأ الشعب إلى منظّمات دولية، فلن يستمع إليه أحد، لأنها الممثّلة الوحيدة للدولة، والناطقة الوحيدة باسمها! الأبواب جميعها مقفلة في وجهه.. لا يبقى أمام الشعب في سبيل استعادة حقوقه المنهوبة سوى الانتفاضة العزلاء في وجه الوكيل الغاصب المدجّج بالسلاح، أو انتظار الموت البطيء على خازوق هذا العقد الاجتماعي المفتعل!!
 لهذا كلّه أصبحت أنظمة الحكم إلّا ما ندر، خوازيق استبداد وتحكّم بشعوبها، لا فرق بين خازوق ملكيّ فولاذي، أو ٱخر جمهوريّ خشبي، أو ثالث ديمقراطيّ ذهبي! لقد أصبحت الشعوب في واقع الأمر ذبائح وقرابين في حضائر الحكّام على اختلاف أشكالهم وأنواعهم.. وبالتالي أصبحت جميع أنظمة الحكم القائمة على فرضية؛ العقد الاجتماعي، مؤسّسات للنهب والتضليل، وإقطاع حكومي، يجب تجاوزها واستبدالها.. ربّما يتغلغل في ذهن البعض السؤال: ألا تضمن الدول الديمقراطية الحرّية والعدالة لشعوبها؟! وأجيب.. حتّى هذه الدول المتّشحة بوشاح العدالة والنزاهة، قد تشكّل استثناء، في نظامنا الحالي، والاستثاء لا يلغي القاعدة.. أما تتربّع الولايات المتّحدة الأمريكية على عرش الدول الديمقراطية؟

انظروا كيف تجري العمليات الانتخابية فيها! هل نجح فيها فقير عالم واحد؟ إنّ الحملة الانتخابية لأيّ مرشّح تحتاج إلى ملايين ومليارات الدولارات، يعجز عنها إلّا قلّة من المليارديرات، وتقوم بتمويلها لوبيات، تنتقي مرشّحيها بعناية، ممّن تضمن منهم ردّ الجميل أضعافا مضاعفة، بعد اعتلائهم صهوة السلطة.. وردّ الجميل لا يتمّ من أموال الفائزين، بل من أموال الشعب بمراعاة وتجاوزات وتواطؤات على القوانين لصالح شركات ومصانع وتجارات المموّلين..
أيّها الشعب المسكين! إمسح عرقك، وضمِّد جراحك بكفّيك الخشنتين، فقد غدروا بك واستعبدوك.. وجعلوا منك بوّابا على عتبات قصورهم.. تنام على البلاط، وتلتحف السماء، وهم متنعّمون هانئون، أرائكهم من ريش النعام، ويتّهمونك بأنّك أنت وهبتهم جميع أملاكك الشاسعة، وثرواتك الطائلة بموجب عقد اجتماعي وهمي، لا علم لك به ولا  خبر.

قد يعجبك ايضا