المطر في شتاء مندلي

 

جاسم محمد شامار

الغيوم الرمادية اسدلت الستار مبكرا عن نهار مدينتي مندلي قبل حلول الظلام.

النسيم البارد بدأ يراقص اغصان اشجار الكالبتوس على ارصفة شوارع المدينة.

رائحة الدارسين والدهن الحار من مطعم الهريسة قرب الشارع طاغية في الانحاء.

بدأت اولى حبات المطر كلمسة ناعمة، لكنها رويدا رويدا بدأت بالانهمار. سينهي الجميع جولات التجول في شوارع المدينة باكرا ويعودون مسرعين الى البيت.

رائحة الارض الندية، ارض مندلي، ورائحة الطين الممزوج بالقش المبلل لجدران البيوت كانت دائما تشعرنا بالانتماء للمكان.

شرع المطر يراقص سعف النخيل واغصان اشجار السدر المتدلية على الجدران. ومع صوت قطراته على الاسطح الطينية وصوت المزاريب وتدفق الماء في الطرقات، تبدأ مندلي موسم الامطار.

في مدينة نائية بأطراف الجبل تحيط بها البساتين يأكل ابناءها من خيراتها لا شيء يعكر مزاج ابناءها او جمال الطبيعة. الهدوء هنا والسكينة والاستبشار.

 

 

 

طرقات المدينة فارغة وان المدينة تبدو مدينة اشباح لكن في بيوتها عالم اخر يضج بالحياة خلال طقوس لياليه الشتوية.

اكوام الحطب المعدة من اغصان اشجار التوت والنارنج والرمان ستجد طريقها الى المواقد. سيجد الاطفال متعتهم بجلب الحصى المغسولة بماء المطر لكسر حبات الجوز او شوي حبات البلوط في النار.

النخيل الان في البساتين تحت المطر، لكن عطاءها موجود في بيوت مندلي، تمور الخستاوي المخزونة في الازيرة ستُصنَع منها الحلوى. تمور الاشرسي تُدَق مع السمسم او الجوز في الجاون لصنع المدگوگة المندلاوية حلاوة الشتاء.

السوق يكون مقفلا وعلى ضوء مصباح النيون الخافت يجلس الحارسان بالمعاطف الصوفية، لا شيء يكسر الصمت سوى صوت قطرات المطر على سطح صفائح سقف السوق. ورائحة التفاح تفوح من دكان بائع التفاح وتعطر المكان.

مقاهي السوق مقفلة الان لكن مقاهي محلتي السوق الصغير وقلعة بالي والمقهى الاشهر في محلة السوق الكبير او مقهى محلة قلم حاج او مقهى محلة النقيب خلف البريد لا زالت مفتوحة.

عالم اخر من المتعة في ليالي الشتاء، حينما يدخل أحدهم مبتلا من المطر يبتسم كإنماء وجد ضالته او كالذي وجد واحة في الصحراء. الدفء والسمر والشاي والناركيلة وصوت رمي قطع الدومنيو على الطاولة او (واصل او ويير) او (الله بالخير) …

لا شيء يضاهي متعة السمر في مقاهي مندلي العتيقة في ليالي الشتاء للشباب.

كبار السن في البيوت يراقبون السقوف ونزول الماء من المزاريب للاطمئنان قد يتسرب الماء من بعض سقوف البيوت القديمة في أطراف المدينة لكنها بيوت مندلي بجدرانها السميكة، ستصمد كما صمدت بقية الاعوام.

مندلي تحتضن وتطعم ابناءها في ليلة شتاء باردة بحنان، وعلى صوت المطر يخلد الجميع في نوم عميق. وفي الصباح تشرق شمس مندلي في نهار بهيج.

 

 

 

 

اسراب من الطيور البيضاء تحلق في زرقة السماء. كأنها تحتفل بشروق الشمس بعد طول انتظار.

قطرات الماء، بقايا مطر الليل على أطراف سعف النخيل، تعكس خيوط الشمس الذهبية، اوراق الاشجار المغسولة بماء المطر في البيوت وعلى الشارع يانعة الخضار.

صوت الديكة وزقزقة العصافير في كل مكان. ومع الدخان المتصاعد من التنانير الطينية تشم رائحة الخبز الحار. يكون الإفطار هدية من الجيران (الدلوة) المصنوعة من باكورة حليب النعاج او الابقار. كانت ولاداتها غالبا ليلا مع موسم الامطار ..

 

قد يعجبك ايضا