يوتوبيا كركوك كما رآها وكما عاشها عبد الله إبراهيم

 

 

حاوره د. توفيق التونجي

 

بطاقة تعريفية:

الدكتور عبد الله إبراهيم:

ناقد وأستاذ جامعي، ولد في كركوك بالعراق في عام 1957، وتخصّص في الدراسات الثقافية والسردية وكتب فيها عددا وافرا من الكتب. نال درجة الدكتوراه من كلية الآداب في جامعة بغداد في عام 1991. وغادر العراق في عام 1993 حيث عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية، وأقام في غير بلد خلال ثلاثين عاما من حياته الثقافية والأكاديمية، وهو يقيم حاليا في إسطنبول بتركيا. والدكتور عبدالله إبراهيم باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature)، وزميل معهد ( ٍSangalli) للدراسات الثقافية والدينية في فلورنسا بإيطاليا، وعضو الهيئة العلمية لمعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، هو حاصل على جائزة “الملك فيصل العالمية في الآداب واللغة” لعام 2014، وجائزة “الشيخ زايد” في الدراسات النقدية لعام 2013، وجائزة “شومان” للعلماء العرب لعام 1997. أصدر أكثر من 20 كتابا، منها: “موسوعة السرد العربي” في 9 أجزاء، و”المطابقة والاختلاف” في 3 أجزاء، و”أعراف الكتابة السردية”، و”الأرشيف السردي”، و”أمواج” سيرة ذاتية التي صدرت باللغتين العربية والانجليزية، وقد عرف عن عبدالله إبراهيم صرامته المنهجية، ودقته في التحليل النقدي والفكري، ولأنه شديد الارتباط بمسقط رأسه كركوك، وخصها بكثير من الاهتمام فيما كتب، فقد أفردنا هذا الحوار معه عن كركوك دون سواها من المدن بهدف توثيق حال تلك المدينة في حقبتها التاريخية الزاهية.

 

 

 

بمرور السنوات تداخلت الأقوام في كركوك، وارتبطت بالنَّسَب واللغة والمصالح. أما سكان المدينة، فمزيج من الأعراق الثلاثة الكورد،التركمان والعرب، فضلًا عن الآشوريين الكلدان، بتفاوت في النِّسَب حسب ظروف الهجرة والنزوح والإقامة والعمل، ولم تكن نِسبة الأعراق المتعددة من عرب وكرد وتركمان مهمة في بداية الأمر

 

 

 

* أريد أن أبدأ مع الأستاذ عبد الله إبراهيم من البداية، أي منذ لحظة الطفولة الأولى في كركوك، وكيف شققت طريق حياتك في مجتمع كركوك المتنوّع؟.

 

– ليس من الإدعاء القول بأن حياتي كانت، منذ الطفولة، مزيجاً من أحداث، وأفكار، وأهواء. لم يجهِّز لي أحد مسارها: لا أسرة، ولا مدرسة، ولا قبيلة، ولا مجتمع، ولا دولة؛ فوجدتني أصنع مسارًا لها يقوم على التواطؤ بين رغباتي الشخصية، وتطلُّعاتي الثقافية، وأنماط الحياة العامة، وأتوغّل فيه، فبدوتُ لنفسي وللآخرين ناجحاً.

 

لكن تنازعاً عميقاً ظل يشطرني جرَّاء سَعْيي للتكيُّف مع العالم، فلم أنتمِ بصورة قاطعة لا إلى ذاتي برغباتها المفعمة بالطموح والفوضى، ولا إلى عالم الجماعة الممتثلة لمنظومة من القِيَم، والعقائد، والعادات؛ فكنت أمزج بين هذا وذاك، مُعْرضا عمَّا لا أراه يناسبني، وملتذًّا بخرق إجماع الآخرين، حينما أراه نابعاً عن جهل، فأنا غُفْلٌ في منطقة التودُّد، والمداهنة، ولا يُرجى منِّي خيرٌ فيها. ولازمني إحساس بالخطأ مؤدَّاه أنني أمضي في درب ضيق بين طريقين معبَّدَين، ولي الحق في أن أسلك أيًّا منهما وقتما أشاء، دون أن أتخلَّى عن مساري الخاص، وذلك جعلني أتوهَّم، أحياناً، تميُّزاً استثنائياً. وهو الطريق الذي سلكته في مجمل حياتي.

 

* ما سبب ذلك؟

– يعود ذلك، في تقديري، إلى غياب التنميط الأُسري، فلم أعهد بناءً عائليّاً متواصلًا بسبب اختفاء الأب ثم الأم في وقت مبكر من حياتي، فدُفعت إلى ممارسة دور أكبر من أن يقوم به طفل، وأصغر من أن يلبِّي خيالاته، فتنامت فيَّ درجة عالية من الصرامة الذاتية، حتى إن أُبوَّتي أمستْ ثقيلة، إذ شرعتُ أرسم لأبنائي قِيَماً لدور الأبوَّة المفقود في حياتي، ودفعهم للأخذ به، وضمرتْ في أعماقي عاطفة الأبوَّة الليّنة، والحنان الشفَّاف، وأرجِّح أنهم خاضوا صعابًا في الاقتناع بدوري كأبٍ كرَّس لهم حياته، وأظنهم مثلي، وإنْ بطريقة مضادة، صاروا ضحية الأمر الذي طالما افتقدته أنا.

 

ففيما لم يمهِّد لي أحد مسار الحياة، كبروا هم بين أسوار حياةٍ ارتأيتها أنا لهم. وخلق هذا انطباعاً بأنني حرٌّ فيما أريد، متشدِّد فيما يريدونه، وكنت منقسماً إلى شخصيتين: أولاهما، أنا الفرد المتخفِّي في أفكاري، ورغباتي التي ما انفكَّت عطشى دون ارتواء، وثانيتهما، أنا الجماعي الذي منح كل شيء في حياته لأسرته، وفيما بعد لطُلَّابه، وقرَّائه.

 

 

 

* كيف تأتّى لك اكتشاف العالم المحيط بك في كركوك؟

 

– بدأت أكتشف أطراف العالم المحيط بي، وأرمِّم قِطَعه المتناثرة، من ذلك صدى مجازر كركوك في عام 1959 إذ سُحلتْ في شوارع المدينة جثةُ صاحب الأراضي التي كنا نزرعها، وهو تركماني، واسمه «قاسم بيك النفطجي»، ومُثِّل بجثمانه من طرف الشيوعيين باعتباره إقطاعيّاً. كنا نمرحُ في مزارعه التي ورثها أولاده، ونختلسُ من النسوة العاملات رؤوساً صغيرة من البنجر نخفيها تحت ملابسنا، وليلًا نشويها في التنور، ونتقافز حول الثمار التي اسودَّت بفعل الرماد والجمر.

 

* أنت ولدت في قرية عربية تقع في أطراف كركوك، كيف كانت أحوال كركوك في ستينيات القرن العشرين؟

 

– أجل، تقع القرية التي ولدت فيها إلى الغرب من كركوك، وقد آل مكانها بعد إزالتها إلى ضاحية من ضواحي المدينة، وتعود سجلات الأحوال الشخصية لأسرتي فيها إلى الحقبة العثمانية، فنحن من عرب المدينة، وتعدُّ «الحويجة» و«الرياض» وما يتبعهما من قرى مركز ثقل العرب في كركوك، بل ومجمل المناطق الواقعة إلى غرب المدينة ، فيما يقطن التركمان في «طوز» و«تازة» وما جاورهما من المدن إلى الجهة الجنوبية، وإلى الشرق والشمال باتجاه السليمانية وأربيل، حيث المناطق الجبلية، في «جمجمال» و«شوان» وما حولهما يستقر الكرد، ولكن بمرور السنوات تداخلت الأقوام في كركوك، وارتبطت بالنَّسَب واللغة والمصالح. أما سكان المدينة، فمزيج من الأعراق الثلاثة، فضلًا عن الآشوريين الكلدان، بتفاوت في النِّسَب حسب ظروف الهجرة والنزوح والإقامة والعمل، ولم تكن نِسبة الأعراق المتعددة من عرب وكرد وتركمان مهمة في بداية الأمر، ولكن لما اختُلقت أهميتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين وما بعدها، بهدف تحديد الهوية الاثنوغرافية للمدينة، بقيت النسبة سرًّا غامضا، بل أصبحت موضوعًا للادِّعاء، والمبالغة، بسبب التنازع السياسي حول أحقية كل جماعة في الاستئثار بمدينة متنوِّعة تعود في أصولها إلى العصور الأولى للحضارات العراقية القديمة.

 

* إذاً كانت كركوك أشبه ما تكون بيوتوبيا بالنسبة إليك؟

 

– الصحيح هو أن كركوك كانت مثالًا لعالم متعدِّد الأعراق، ومتناغم الثقافات، ولم يكن سؤال الهوية الصافية مطروحًا، وكنت أجهل الخلفيات العِرْقية والدينية لكثير ممن رافقتهم في مقتبل عمري. أن تعريف الشخص بقوميته، أو دينه، أو مذهبه، يعدُّ انتقاصاً وسُبَّة في الوقت الذي كنت فيه في كركوك، ولكن كركوك تعرضت للتزوير الذي تعرض له العراق، فثمة حقيقة أكبر ينبغي التصريح بها، فقد تنامى في نفسي، عقدًا بعد عقد، ذلك التناقض الذي شطر هوية بلادي أشطراً، ومنها كركوك، وهي صدوع أخفق العراقيون في رَدمِها، فوجدتُ العراق يضيق بأحلامي، ويطبق على أنفاسي، إذ يتعاقب على حكمه الطغاة، ويسوسه الرعاع، فلا يكفُّون أذاهم عنه، فيما كانت صورته الخيالية ترتسم في خاطري وطناً ضارباً في القِدَم باعتباره وارثاً لسومر وبابل وآشور، وحاضناً للحضارات الكبرى: بلاد الرافدين.

 

 

أُسِّستْ أوّلُ دار للسينما في كركوك، وهي سينما «غازي»، في عام 1940 تيمُّناً باسم ثاني ملوك العراق الذي كان قد قُتل لتوّه، وهُدمتْ في عام 1957 قبل هدم المَلكيّة بعام واحد، وكانت تلك السينما قِبلة الجيل الأكبر منِّي، وموقعها قرب الجسر الحجري الذي يربط طرفَي المدينة، وقد أزيل هو الآخر في ربيع 1954 وبُني جواره جسر إسمنتي جديد.

 

 

* كيف تفتّح عالمك الأدبي في كركوك، هل لك إيراد ذكرياتك عن المدينة حينما كنت صبيا في مطلع سبيعينات القرن العشرين؟

 

– كانت بدايتي المدهشة في كركوك مع القراءة، ومع السينما، فقد دمغ صباي بدمغة لا سبيل إلى محوها أبدا الكتاب والسينما، تلك كانت مرحلة المراهقة التي تشفع فيها كل الأخطاء والآثام، سأتكلم عن تأثير السينما على فتى قروي، فبسببها رغبت في أن أعيش لأتخيل، كان الخيال هو طعامي وشرابي، وجيلي يفهم، حق الفهم، ما سوف أتطرق إليه من تجارب المراهقة والشباب، وكان للسينما دور في ذلك، فقد أُسِّستْ أوّلُ دار للسينما في كركوك، وهي سينما «غازي»، في عام 1940 تيمُّناً باسم ثاني ملوك العراق الذي كان قد قُتل لتوّه، وهُدمتْ في عام 1957 قبل هدم المَلكيّة بعام واحد، وكانت تلك السينما قِبلة الجيل الأكبر منِّي، وموقعها قرب الجسر الحجري الذي يربط طرفَي المدينة، وقد أزيل هو الآخر في ربيع 1954 وبُني جواره جسر إسمنتي جديد. ولم يكن تاريخ السينما في كركوك ذهبيًّا، فخلال مجزرة كركوك حُطِّمت مداخل سينما «أطلس» وسينما «الحمراء»، وكُسِّرت الألواح الزجاجية، وانتُزعت الصورُ ومزِّقتْ. لكن الضرر الأكبر لحق بسينما «العلمين»، إذ خُرِّبتِ القاعة، والمدخل، وقتل بعض أصحابها من عائلة «آوجي»، وجرى تدمير نحو عشرين مكتبة، ومقهى، ومحلّ تجاري. حدث ذلك في صيف عام 1959.

* كيف أصبحت جزءا من جماعة كركوك، وما الذكريات التي تحرص على إيرداها في هذا اللقاء، فذكرياتك تشكل وثيقة مهمة عن الجماعات الثقافية في كركوك؟

 

– لئن انغمستُ في فوضى بداية سنّ الرشد من خلال السينما الرخيصة، فقد لاحت طلائع تحوُّل في قراءاتي مع إقبال عام 1974 حينما تعرَّفت إلى جماعة من الأدباء، وهم: جان دمّو، وحمزة حمامچي، وإسماعيل إبراهيم. وفي منأى عن هذه الجماعة الصاخبة انتبذ فاروق مصطفى له مكانا يحميه، فلم تتناهبه المخالطة في المقاهي، ولكنه ينقضّ على العُصبة بين حين وحين، ثم يتوارى لأسبوعين أو أكثر تاركا الجَلَبة لنا وحدنا دون أن يكدّر صفوه بالاستياء والتبرّم. وهو أنيق، وفصيح، وأكثرنا معرفة بالعربية لأنه اختصّ بها في جامعة بغداد قبل نحو من عشر سنين، ودرَّسَها في الجزائر بعد ذلك ضمن حملة التعريب التي أعقبت الاستقلال، وهو، إلى ذلك، صاحب السيارة البرتقالية الصغيرة التي تجوب الشوارع بلونها الفريد الذي لا تشاركه فيه أخرى. وفيما كنا نثوي متضوِّرين خلال عُطل الصيف في المقاهي العتيقة مثل كدس مهمل من بقايا الجنس البشري، وقد تعذّر علينا الترحال، كان هو يطوف بلاد الأناضول، والسُلاف، والإغريق، والأسبان غير عابئ بما نحن فيه.

 

كتب فاروق قصائد أنيقة في عدد من الدواوين الصغيرة، وأصدر أكثر من كتاب عن جماعة كركوك الأولى التي عاصرها قبل أن تطويها يد الأيام.

 

لم تنتزع جماعة كركوك الثانية شهرة كالأولى، التي تكوَّنت من: جليل القيسي، سركون بولص، فاضل العزاوي، جان دمو، أنور الغساني، مؤيد الراوي، صلاح فائق، زهدي الداوودي، يوسف الحيدري، ويوسف سعيد- وهو قيِّم إحدى الكنائس – وكان يُضاف إليهم آخرون بعد أن جعل تاريخ الأدب الانتماءَ إلى الجماعة الأولى فخرًا. وجميعهم غادروا العراق، باستثناء القيسي والحيدري اللذَيْن انتصرا على كل شيء بالموت داخل أسوار الوطن. وجان دمّو من مخلفات الجماعة الأولى، وهو زعيم الثانية، أديب بلا أدب يُذكر له إلا شذرات متناثرة، ومترجم ينقِّب عن معاني الكلمات في قاموس صغير يحمله معه، ولكنه مذواق، وساخط، وكثير التثاؤب، وشبه منطفئ، وقد تشبَّع بالتخيُّلات الأدبية مثل «الدون كيخوته» الذي غرق قبله بأربعة قرون في روايات الفرسان، وكان مثاله الأعلى «أماديس الغالي».

 

* استقطبت كركوك كثيرا من ذكرياتك عنها في هذا الحوار الذي حرصنا على أن يكون عنها، واضح أنك شديد التعلّق بها.

 

– زرت كثيرا من المدن في العالم، وعشت في عدد منها، ولكن تبقى لكركوك الأرجحية بين كل المدن التي عرفتها، ففيها تشكّلت هويتي الثقافية، وفيها تكوّن وعي بالعالم، ومنها بدأت، وفيها، على الأرجح، تكون نهايتي.

 

ختاما أود أن أشكر الدكتور عبد الله على سعة صدره في الإجابة على الأسئلة المطروحة راجيا له الموفقية ودوام الإبداع.

قد يعجبك ايضا