أعواد الكبريت والرحلة من فسفور “بابا كركر” الى أورشليم السويد

 

 

 

 

 

 

 

 

بحثت من حان الى حان ومن منفى الى منفى

عن الوجه الذي يحمله سارق نار الشعر

من معابد الآلهة – الإنسان

عن أميرة المنفى التي كنا وراء شعرها الأحمر

في مدينة الطفولة – المعابد – الأسواق نجري

لاهثين ، فنشرب الأنخاب

 

 

الشاعرعبد الوهاب البياتي

 

 

 

د. توفيق رفيق التونجي

 

 

 

ينعت السويديين “مقاطعة يونشوبنك ب أورشليم السويد ” التسمية العبرية للقدس الشريف” ربما لكثرة الكنائس فيها وكون قاطنيها من المتدينيين. اما الأسطورة الإغريقية التي ألهمت الشاعر العراقي الخالد عبد الوهاب البياتي ديوانه “سيرة ذاتية لسارق النار”  التي تروي كيف ان( بروميثوس) سرق النار وأخفاها في سيقان “الشمار” حيث كان قد استمد النار باستعمال تلك السيقان بالقرب من الشمس. حين التقيت بالشاعر قبل ما يقارب خمسة عقود في مكتبه وزارة الثقافة والاعلام في بغداد جالبا له بعض الكتب كنت لا ازال اواصل دراستي الجامعية في انقرة قلت له باني سوف لن اعود وصنت العهد لحد يومنا هذا.

 

 

 

المتحف الوحيد للشخاط في العالم لـ “اعواد الكبريت” توجد في مدينة يونشوبنك مركز المقاطعة المسماة باسمه والتي اسكنها منذ اكثر من ثلاثون عاما.  لعل الكثيرين حين يرون تلك العلامة المسجلة للنجمات الثلاث على علبة الكبريت سيعودن بذكرياتهم الى اكثرمن نصف قرن خلت.

يعود الفضل الى اكتشاف وإنتاج الشخاط الامين بشكله الحالي الى الاخوين (لوندستروم) ومن المعلوم ان اعواد الكبريت لم تكن امينة في البدايات اي كانت تلتهب فور احتكاكها باي شئ حتى بالملابس وقد نتج عن ذلك العديد من الحوادث الماساوية قبل ان يكتشف طريقه لعمل عجينة الكبريت الأمين..

 

 

جانب من قاعات المتحف يروي تاريخ المعمل

 

قبل ان ادخل الى التفاصيل التاريخية لهذا المتحف لصنع اعواد الثقاب , الشخاط او الكبريت كما تسمى في دول عربية عديدة هنا اود ان اروي لكم حادثة وقعت لي قبل اكثر من ستة عقود خلت حينما كنت لا أزال في الصف الاولى من الدراسة الابتدائية وانا العب مع رفيق صباي “محمود كوزله” عام 1959 حيث تم اختيارنا لغرفة كان والدي رحمة الله عليه ورضوانه يستعملها ك (عنبار) اي مخزن وكان فيها عدة العمال والحطب وفي تلك الأيام الشتاء الباردة. في دور عمال محطة القطار في مدينة التون كوبري  والواقعة على نهر الزاب الأسفل حيث انها جزيرة تربطها بالبر جسرين حديدين بنيت مكان الجسر الحجري العثماني. الجدير بالذكر بان الاثار المكتشفة في هذه المدينة التي تقع في منتصف الطريق بين عاصمة إقليم كوردستان ومدينتي موطني الصغير مدينة كركوك. اقو لبانها كانت عاصمة اشورية تسمى كرت هرات. اليوم التسمية الكوردية (بر دي) والعربية (القنطرة الذهبية) . اقول هرعت الى البيت لأجلب علبة الكبريت ذو النجمات الثلاث الموجودة بالقرب من مدفئة “علاء الدين” كي نوقد نارا في المخزن كي نطرد لسعة البرد القارص وفي دفئ النار اخذتنا غفوة ونمنا كي نستيقظ بعد حين ملفوفين بالبطانية القهوائية المبللة والدخان لا يزال يتصاعد من سقف المخزن وكان القدر الإلهي الذي نجانا من موت محقق حيث تمرض احد العمال وشاهد أعمدة الدخان تصعد الى السماء من المخزن وهو في طريق عودته  الى داره للنقاهة مارا ومروره امام المخزن فما كان منه الا وان فتح الباب ليجد صبيين نائمين والنيران حولهم من كل مكان…. لم يوبخني والدي وربما كان فرحا وسعيدا بنجاتي بعد ان كان قد فقد اخي واختي قبلي ورحلا الى البارئ عز وجل وبقيت انا من جهتي اخاف النار وابتعد عنها وعن تلك الحورية الساكنة بين  لهيبها..
كانت تلك اخبار الماضي وعلى اعتاب مدينة بابا كركر في ضواحي مدينة العذابات كركوك حيث ترتفع تلال الكبريت “الفسفور” الاصفر لتصدر الى كافة انحاء المعمورة.

.

كلما حل ضيف اصطحبته لزيارة متحف الشخاط في المدينة وقد تحول المجمع الذي بني قربه فندقا كبيرا الى مركز ثقافي كبير في المدينة فيها المسارح ودار السينما وكالريات (معارض) الفن الحديث ومشاغل الفنانين ودور الثقافة الجماهيرية ومدرسة الموسيقى ومتحف للراديو يعتبر من اندر المتاحف التي يستطيع فيها الزائر متابعة تطور عالم المذياع والتلفزيون منذ اكتشافهما ولحد اليوم ومؤسسات ثقافية كثيرة اخرى.

 

لا تزال المكائن التي استخدمت في إنتاج الشخاط ومنذ عام 1844 على حالها في المتحف حيث يتمكن المرء من مشاهدة حياة العاملين وصور لابنائهم حيث كان عمل الأطفال مسموح بة آنذاك وقد يجلس المرء الى طاولة مع ابنائه او احفاده كي يحظر علبة كبريت على الطريقة اليدوية القديمة او يشاهد عروض افلام حول الموضوع والجدير بالذكر ان تنوع اتيكيتات الشخاط اي صور علبة الشخاط وتطورها الزمني يعيد بذاكرة المرء الى سنوات قد خلت وبالإمكان مشاهدة كل ذلك التطور عبر تلك الصور الصغيرة التي كانت تلصق بعلب الكبريت..

اما في هذه المدينة التي اعيش فيها مع عائلتي ومنذ اكثر من ثلاث عقود فان حكاية اعواد الكبريت تبدا مع اكتشاف الكيماوي ( كوستاف ايريك باش) عام 1844 لوصفة خاصة بعجينة تلك الأعواد الصغيرة وما نسميه اعواد الثقاب وذلك باستبدال الفسفور الأصفر المستخدم لإشعال العود بالأحمر في العجينة المكتشفة وبذلك يؤمن عدم اشتعال اعواد الكبريت بعد ان كانت غير أمينة ولا يمكن الاحتفاظ بها في علب حيث ان الاحتكاك بينهم كانت تؤدي الى اشتعال الحريق .

انشئ المهندس الشاب ” اسكندر لاكرمان” ( 28سنة ) اول معمل اوتماتيكي (آلي) لصنع الشخاط عام 1864 في مدينة يونشوبنك السويدية

 

 

 

اسكندر لاكرمان

 

يشتري خبير كيمياء اخر حقوق الاختراع من “باش” ليقوم بتطويرها لاحقا كي يتحول الى شخاط امين وذلك باستبدال العجينة الصفراء للفسفور باخرى وليبدأ مع اخيه ببناء مصنع لإنتاج الشخاط وتبدأ المبيعات عام 1901 الى حوالي عام 1920.

تبدا منذ ذلك اليوم بنشر النور وطرد دجى الظلام ولتنتشر في كافة انحاء الدنيا “الشخاط الأمين ” الذي لا يزال ينتج في معامل السويد في مدينة “تيداهولم” في إحدى احدث المعامل المتطورة و لحد يومنا هذا.

سلاما ارض السماء القرمزية، وتراب النار المقدسة سلاما كركوك واهلها الكرام.

المصدر: الصور من صفحة المتحف.

https://matchmuseum.jonkoping.se/om-museet.html

 

اجزاء من هذه المادة نشرت قبل حوالي عشرون عاما .

 

السويد

2023

 

 

قد يعجبك ايضا