عبد المجيد لطفي وكلماته و محمد صابر محمود وترجماته

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 31- 10- 2023

في العام 1971 طبعت الطبعة الاولى من كتاب بعنوان ( تصابي الكلمات) للاستاذ عبد المجيد لطفي في مطبعة النعمان- النجف، كانت الكلمات قد رقمَّها الكاتب ومنها:

– ” 134

رمح ملتهب، أشقر

بصمت يحرق الأفق الرمادي!

وحفيف الأجنحة يعطي المسافات حركة

أنا الآن في هذا الافق

الأشقر، الملتهب أواجه النهار

سيأتي ما لم يأت… ما هو آتٍ، آت

وأنظر بفزع الى الآخر، الى العروق المتيبسة

مثل قشرة رمان وأنا الأقوى لأن الضعف

لم يخترقني بعد

وهو ذا ينحني، والبلاط يتندى، يلمع

يمسح، يتمسح: هو مثلي

الحزن ليس المرارة حتى في لحظات التحول

فالنهار جديد ولا أستطيع تعريف الحزن

آه أيها النهار أنت لا تعلم المدن الوسخة

جديداً، لا تعلمنا أيضاً ما نتحرق إليه

فقط تعطينا ما تحمل

ما تكرّر من شبق وبغضاء

وتكرر ما تأمرنا به… كلانا تفاهة قدرة

عمياء

135

سمرقند رابية منابر

والمساجد قبابٌ من رؤوس

وحين يطل القمر على سمرقند

تتكون أضرحة مجهولة!

وأشعر بقدسية الوهم أزلي ومملوء

صحيح أننا نحن الذين صنعنا الوهم أيضاً

ولكنه صار كبيراً ومقدساً ومعطياً

والآن بعد كل ذلك الايمان الأدهم تَمُرُ في

قلبي غاشية الشك!

يجب أن ادفع العقل الى الوراء، لأنه

يطارد الوهم. بالشك يصرعه

وهو ذا، مع ذلك يعود مثل الأخطبوط

يعود، يحوّم مكفهراً وأنانياً

ولا يحمل سوى الشك!

كلا، لن أطيع، إستدر عني، اغرب

أيها العقل لا تتحكـم في ما نحب

الرضى النشوة… والذوبان قوة العمل

وأنا أكره الأشياء البالية، العقل في المقدمة!”.

 

 

وعن دار الثقافة والنشر الكوردية التابعة لوزراة الثقافة في جمهورية العراق صدرت مجموعة قصصية كوردية مترجمة بطبعتها الاولى عام 1989، التي ترجمها وقدّم لها الاستاذ محمد صابر محمد. وهي مجموعة قصصية كوردية لثلة من الكتَاب الكورد ترجمت الى العربية، ومنهم قصة القاصة فوزية عز الدین رشید ([1]) التي كانت بعنوان ( الموقد)، والتي ورد في جزء منها:

– ” كأنك كنت ذائباً فوق الكرسي. جسدك كان خائراً، متكسراً. غارزاً مرفقك في عظام ركبتك. رأسك كان مثقلاً الى درجة تكاد تنوء بحمله رقبتك، وهو يتدلى من بين قصبات أصابعك الطويلة المعقوفة كأسنة المذرى. ثمة نحلة، هي الاخرى كانت تصدم بجسدها واجهة زجاج النافذة دون انقطاع تدق بها رأسها من جهة، ولتضيع عليك رأس شلة ([2]) همومك من جهة أخرى قلت في نفسك: ( لا مناص من ذلك. إنه ليس مما يحصل بالاكراه. ان الله لم يمن علينا بأكثر من هذا، وليس بوسعنا أكثر من ذلك. أجل.. وهل هو عیب؟ ان مما يعيب، هو أن نورط انفسنا في معضلة، نظل نئن تحت وطأة وخاصة عارها، ما دمنا أحياء. فضلا عن أنه سوف نصبح أضحوكة. يتلهى بنا الناس كنا ننعم بالطمأنينة وراحة البال. لم يكن ينقصنا شيء. نرزق بالاطفال أو لا نرزق الى حيث).

عاودت النحلة ضرب زجاج النافذة بجسمها، فأستلبت من بين يديك زمام المسألة من جديد. رفعت رأسك بأناة. ألقيت عليها نظرة ولم تنبس:

– سيدي.. هذه هي المرة الثالثة التي أعاود فيها الشروع بالمعاملة من أولها ولكن دون جدوى، انها تتراوح في مكانها، دون أن تتم كي أخلص أنا وتتفرغوا أنتم بدوركم لمشاغلكم.. لا أكاد أصل بها الى مراحلها النهائية حتى تبادرونني بقولكم: ( لا يمكن.. لا زالت ناقصة).

الرجل الواقف أمام منضدتك، تحيَّن الفرصة التي رفعت فيها رأسك، فنشر- في غمضة عين- كل ذلك الكلام الذي كان في جعبته. واضعاًـ في الوقت نفسه- رزمة الاوراق التي يحملها بين يديك. تصفحت- بمؤخرة عينيك- الورقة الفوقانية من رزمة الاوراق، فتذكرت القضية.. ثم بعدها لم تمد اليها يدك. بهزة من رقبتك قلت:

– عجيب أمرك، والله يا أخي!!.. ألا تعرف معنى لكلمة ( لا يمكن؟). عندما يقال في أمر ما: لا يمكن، فمعنى ذلك أنه غير ممكن.. لماذا إذن هذا الاصرار؟!. غير ممكن يا أخي مستحيل. فليقتنع به عقلك و.. كفى!!.

– ولماذا مستحيل يا أخي.. ما الذي ينقصها؟! أخبرني حتى أحاول تكملته؟.. إذن لماذا لا يمكن؟ كَرَة اخرى رن جرس الهاتف، فانتشلك من تحت تأثير ثقل كابوس ذلك السؤال للرجل. غرقت في دوامة من التردد. احترت الى أن استعدت وضعك الطبيعي. عندئذ، و ببرود مددت إليه يدك:

– نعم.. نعم.. حسناً أختى حسنا.. انا هو.. طيب. وبالبرود ذاته، أعدت السماعة الى مكانها، ثم أشعلت سيجارة أخرى بنار سيجارتك السابقة. أخذت منها نفسا أو نفسين عميقين. ثم سرعان ما نهضت مندفعا كي تبارح مكانك. إلا انك ألغيت الرجل، وهو لا يزال واقفاً، شفتاه كانتا تتحركان، ولكن إما أنك لم تكن تسمع شيئا، وأما أنه لم يكن ليقول شيئاً:

– أيها السيد.. يا أخانا.. انها باختصار لا تحمل موافقة المدير العام. لا يمكن انجازها!.

 

 

 

قلت ذلك للرجل وأنت سائر. بعدها لم تنتظر شيئاً آخر. أوصلت بنفسك- دفعة واحدة- أمام باب المدير العام وإذ مددت يدك للباب. ثمة برودة أثلجت أصابعك. وأنت الآخر انتابك نوع من الفتور أيضا. وكمّن يفتقد شيئا بحثت قليلا في جيوبك، ثم رويدا رويدا أدرت معها وجهتك- على مهل- صوب غرفتك ثانية. كنت تُمني نفسك لو أن أحداً لم يلاحظ عليك ذلك ولولا استحياؤك من صاحبك لكنت ترغب في أن تصيح بأعلى صوتك: كلا.. لن أذهب.. حينما كنت أقول لها قبل ذهابنا الى الفراش: تناولي الحبة، كانت تتحايل علَّي.. أما الآن، فكيفما فعلت هي بنفسها، هكذا فلتتحمل نتائج فعلتها.. انني لم أر في حياتي امرأة بهذا القدر من العناد والاصرار!!. ثم أنه ها قد مضى سبعة أشهر منذ أن طردتها من البيت دون أن أتفقد أحوالها.. وسوف لن أذهب الى المستشفى لعيادتها أيضا.. والآن لو ذهبت، فماذا اقول؟. تداعيت فوق كرسيك ثانية. أنشبت حنكك في ظاهر صدرك، ركزت نظراتك في فجوة ما بين قدميك كلتيهما. وقد كنت مثبتا ابهامك على صدغك. تُمرر خنصر كفك وبنصرها على جبينك وكأنك تلاعب أوتار آلة موسيقية. في حين كان دخان سيجارتك يتصاعد هو الآخر من بين اصبعيك الأخريين الى السماء مثيراً هياج النحلة اكثر فأكثر. كنت تقول في نفسك: ( في المرة الاولى بقي ساعتين أو ثلاثا على قيد الحياة، ثم مات.. في المرة الثانية كادت أن تلفظ هي الاخرى أنفاسها الاخيرة على أثره.. وفي المرة الثالثة كان مخدجاً ([3]) ناقص الخلق فخنقته القابلة. تُرى ما الذي يمكن ان تلد في هذه المرة!؟ .. من يضمن بأنها لا تلد علامة أخرى من علامات آخر الزمان.. من يدري؟!.. إنه لامر في غاية الغرابة!!.. أن تُرزق بمولود، فهو بحد ذاته بلاء ، وإن لا فالبلية أدهى وأمَرْ . وإن كان الانجاب بهذه الوضعية أليس عدمه أولى وأحسن؟.

لطمت النحلة مرة أخرى بجسدها واجهة زجاج الشباك، رفعت رأسك مضطراً. ألقيت عليها نظرة، ابتسامة مليئة بالسخرية، فرجت ما بين شفتيك ومن دون أن تشعر نهضت وفتحت الشباك، ومن ثم أخذت نفسا آخر من سيجارتك. بعدها رميت بالعقب الى الخارج، ووضعت يدك على خاصرتك، ثم شرعت تُمعن النظر في أولئك الناس الذين كانوا يتحركون جيئة وذهابا على الشارع مثل زخارف ([4]) الماء، سرّح بك فكرك: ( يا لها من إمرأة مستبدة برأيها كأنّ في أذنيها وقرا).. أنا أقول لها: ان تلك المسألة ليست حرية بأن تفعلي من أجلها كل هذا. غير أنها ترد علي، فتقول: ان المرأة العاقر ما هي إلا خادمة لقاء اشباع بطنها ليس غير.. ألا قولي: ألست تلدين لي أنا وحدي؟. أليس همك من وراء الحمل، والانجاب هو أن لا ينطفيء موقدي؟!.. أنا لست براغب فيه.. والى الآن أقولها بملء فمي لا أرغب فيه، ولا أريده.. لم تكن قد انتهيت تماما من نطق آخر كلمة حتى رفعت رأسك. وكمن يضرب على كاهله بقوة صوبت نظراتك الى مكانٍ ناء وبعيد، ثم أغلقت فاك: ها.. هل صحيح بأنني لا أريده؟.. ولكن ماذا بصددها هي؟.. مَن قال انها لا ترغب شخصيا في مثل هذه الدربكة. ([5]) ها إن كان كذلك، فهو من حقها. كنت على وشك أن توبخ نفسك في أنه كيف؟ والى تلك اللحظة بالذات لم يدر بخلدك أن تفكر في ذلك الحق الذي يخصها؟ . غير أنك بدلا عن ذلك زممت شفتيك فالتفتت على عجل ثم شرعت تمسح ما تصبب على جبينك من عرق قائلا لنفسك ما فحواه: لا.. لا ليس كذلك. انها تتمتع بذلك الحق فيما لو تحملت لوحدها تبعات همومه، وأن لا يتسمى بأسمي أنا. لا.. ان ولدته، فلتأخذه معها الى بيت أبيها. مرة أخرى رنّ جرس الهاتف خِفتُ مِن أن تَمِد إليه يَدك وإنما نظرت إليه.. تفرست في وجه صاحبك. هو بدَوره تأمل فيك أيضا. أنتما الاثنان كنتما تتفرسان في وجه بعضكما البعض بينما كان الهاتف يرِّن باستمرار. هو رفع السماعة، لم يمر وقتا طويلا حتى انزلها من حافة أذنه، ثم وضع راحته فوقها:

– يطلبونك أنتَ.

– ألم يقل مَن هو؟.

– لا أعلم.. إنها إمرأة.. لا يكاد صوتها يُسمع.. تقول أخبره بأنها أم زينو”.

[1] – تولد ١٩٥٣ في كركوك، خريجة كلية الآداب / فرع اللغة الكوردية عام ١٩٧٦ / ١٩٧٧ وقد نشرت قصصها في مجلة كاروان والمسيرة، وكانت قد جمعت مجموعة من القصص الفولكلورية من التراث الشعبي لمنطقة السليمانية.

[2] – الشلّة: خصلة من خيوط الغزل.

[3] – مخدج: خديج: المولود الناقص الخلق.

[4] – زخارف الماء: دويبات صغيرة تطير على الماء.

[5] – الدربكة: الزحام والاختلاط.

قد يعجبك ايضا