د. نادية غازي العزّاوي
ظهرت في الوسط الثقافي والأكاديمي العراقيّ أسماء بارزة قدّمت إنجازات رصينة، ولكنّها لسبب أو آخر انزوت بعيداً أو أبعدت وعزلت قسراً، فنسيت جهودهم وأدوارهم الطليعية وحجبت مؤلفاتهم عن الأجيال الجديدة التي لا تعلم شيئاً ذا بال عن إنجازاتهم التي وضعوها في ظروف بالغة الصعوبة والقسوة، منهم: (صلاح خالص، وديعة طه النجم، ناجية المراني، أكرم فاضل، عبد الحق فاضل، وآخرون)، ما أحرانا بفتح ملفاتهم اليوم لتصحيح مسارات الذاكرة حيث يتراكم النسيان والتعتيم والمحو. من هذا المنطلق تأتي هذه الكلمة عن الراحل خالد الذكر د. صلاح خالص:
بالإمكان الحديث عنه من جوانب كثيرة: إنساناً ومفكراً وسياسياّ ورائداً.. إلخ، وربما غيري أقدر مني على بيانها والكشف عن ملابساتها وإشكالاتها بحكم الزمالة أو المجايلة، أمّا أنا فقد اخترت جانباً من شخصيته، خبرته جيداً وعرفته عن قرب، أعني صلاح خالص الأستاذ الذي تشرّفت سنة كاملة بالتلمذة عليه فضلاً عن لقائنا المتكرّر به – نحن طلّابه- في قسم اللغة العربية في كلية آداب بغداد.
وحديثي عنه سيكون من زاويتين: أثره فينا ثقافيّاً وتربوياً حيث تتعمّق الأبعاد الإنسانية.
في الأولى: يتراءى الأفق الثقافي المترامي الأطراف الذي قادنا إليه، وهي نقطة جديرة بالانتباه وبخاصة من أستاذ متخصّص في الدراسات التراثية التي يمكن أن تسحب الباحث المجرّد من العدة الكافية إلى التقوقع والجمود وضيق المنظور، كان الراحل ممن نجوا من هذا المنزلق، فقد نجح في تحديث نظرنا الى النصّ التراثيّ والارتقاء بزمنه من الحدود الضيّقة إلى مراقي زمن مفتوح تتلاقح فيه التجارب وتتثاقف الرؤى، إذ تتواشج النصوص والأسماء والتجارب بطريقة مدهشة في محاضرته : من إعجاز القرآن إلى السرياليّة إلى رقص الباليه إلى جدل الفن للفن ..إلخ ، كيف؟ ما العلاقة؟ ما المنهج؟ ما المسوّغ؟ وحده أستاذنا قادر على الإجابة عن هذه الأسئلة وهو يدير في المحاضرة دفة حوارات ثقافية خصبة وعميقة ومتصلة تبدأ من نقطة ما من القرن الثاني أو الرابع أو السابع الهجريّ عند الأصمعيّ أو ابن قتيبة أو المعريّ أو أبي نواس لتمتدّ إلى نقطة مغايرة في أقصى القرن الثامن عشر أو التاسع عشر الميلادي عند كانت أو بلزاك أو إليوت، حيث تتساقط حواجز الزمان والمكان والأجناس والأديان المصطنعة لينطلق الإبداع في فضاء حرّ ممتدّ يتأبّى على التقسيم والتبويب.
لقد نجح في غرس قضية أساسية في وعينا: إنّ الموروث ليس هو المبتدأ الساكن المعزول المتحجّر بل هو المبتدأ المتحرّك المتنامي المتصاعد الذي يتغذّى على مستجدات الحياة المتوالدة في كل لحظة من حولنا.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثة عقود على محاضراته تتجلّى لي قيمة أستاذي في هذه النقطة الجوهرية حين أزاح الجدار العازل أمام أعيننا – وإلى الأبد- بين المتنبي ولوركا أو بين الجاحظ وغوته أو بين رابعة العدوية وفرجينيا وولف أو بين عروة بن الورد ودون كيخوته، بين عبقريات الشرق والغرب، فالجميع يغترفون من المنبع المقدّس نفسه، وإن اختلفت الصور والأشكال والتسميات الخارجية.
أمّا الزاوية الثانية: فتخصّ جهده النوعيّ المتميّز في رعاية مشروعه المبدئي الثقافي الوطني أعني مجلة (الثقافة)، وهي حالة نادرة في تاريخ الأكاديمية العراقية أن يكون الأستاذ صاحب مجلة، وهي ليست مجلة اعتيادية عابرة، بل تتبنّى على نحو واضح خطاباً فكرياً وسياسياً معارضاً للسلطة. كنّا نحسّ بمعاناته الصعبة في مواجهة العنت والتعسّف والمراقبة الأمنية التي تحصي عليه حركاته وسكناته لاستكمال متطلّبات طبعها ونشرها وتوزيعها، وما يتخلّل ذلك من قرارات الإغلاق والتجميد، ولكن ذلك كلّه كان يتبخّر أمام دأبه العجيب والمتحدّي في مدّ جسور الصلة بين مجلّته والوسط الطلابي، كان يريد للمجلة أن تتطور، ولن تتطور إلا برفدها بالأصوات الجديدة الواعدة، فحرص على نشر نتاجات الطلبة المتميزين فيها، وتخصيص مكافآت مادية مجزية لهم. ولا تسل عن مشاعر الغبطة والفرح التي يحسّها طالب في المرحلة الأولية وهو يرى قصيدته تتصدّر الصفحة في مجلة محترمة، وقد يشيد أستاذنا بالمادة المنشورة خلال الدرس ويثني على المتميّز ويطالبه بالمزيد. أيّ خلق كان يحتجنه أستاذنا وأيّ التزام أخلاقي وتربويّ يجعله يتحمّل المزيد من الخسارة المادية على أن لا يحرم طالباً من مكافأته، وكان بإمكانه أن يفعل فالطالب ممتنّ لمجرد النشر. كلّما تعمّقت خبرتي بالناس وشؤونهم وشجونهم في الوسط الجامعي وفي غيره ازدادت صورة أستاذي حضوراً وألقاً، مؤطّرة بالهيبة والعلمية والنبل، وكما ينبغي أن تكون شخصية الأستاذ: المعلم والمربي والمفكر المتسامي حتى على جراحاته.
قال عنه قاسم عبد الأمير عجام وقد ربطته به صداقة راقية وبما يوضّح نوازعه الفكرية الإنسانية : ((على أنه في ذلك كله: تواضعه العلميّ، أمانته للتاريخ، إيمانه وممارسته لحرية الفكر وتمسّكه بدوره الاجتماعي ليس إلاّ انتماء حياً للعصر الذي نعيشه فيحتفي بإنجازاته الفكرية والفنية والصناعية لا من خلال مطالعاته بأكثر من لغة عالمية فحسب وإنما من خلال حرصه على إغناء الحياة اليومية بأفضل إنجازات العصر ومخترعاته، فكان حريصاً على كنوز الفن السينمائي وغرر الإنجازات الفيلمية حرصه على مكتبته العامرة، يستوي في ذلك حماسه الدائم على أن يجد الشباب كامل حقّهم في أن يعيشوا عصرهم، وحماس وحرص أكبر على أن يتمثّلوا خير ما فيه وأن ينحازوا إلى أفضل ما فيه فكرا، فكانت تيارات الفكر البرجوازي التي تستهدف تفريغ الشباب وتدميره روحياُ خطراً يحذّر منه ويدعو لكشفه حيثما استتر وكيفما استتر)).
أكاد أجزم لو أن صلاح خالص في بلد آخر غير العراق، بلد يكرم مبدعيه ويعنى بتراثهم ويؤرشف مؤلفاتهم لتتداولها الأجيال اللاحقة وتتناولها بالدرس والتحليل جزءاً من التواصل العلمي والحضاري، لكان لصلاح خالص وأمثاله شأن آخر ووضع آخر غير النسيان والإهمال، فيا لضيعة العراق هذا البلد الولود للعقول، العقوق لما يقدّمون ويبذلون.