الكاتب والباحث : سردار علي سنجاري
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثانية والستون على ثورة أيلول المجيدة التي قادها الزعيم الكوردي الخالد الملا مصطفى البارزاني في بداية الستينيات من القرن الماضي حيث صنعت قادة ورجال سطرت اسمائهم في تاريخ وذاكرة الأمة الكوردية للأبد .. لم تكون ثورة أيلول مجرد ثورة للدفاع عن حقوق الشعب الكوردي بل كانت ثورة شاملة شملت حقوق الشعوب المستضعفة وطالبت بإقامة العدل وتحقيق المساواة بين كافة المكونات العرقية والاثنية في العراق وطالبت منذ انطلاقتها بتحقيق الديمقراطية الحقيقية للعراق والحكم الذاتي للشعب الكوردي . واليوم وبعد مرور اكثر من نصف قرن على هذه الثورة المجيدة علينا الوقوف على اهم انجازاتها السياسية والإنسانية والاجتماعية ..
لقد توالت الأحداث المؤسفة في العراق بعد انقلاب عبد الكريم قاسم على العهد الملكي وما جرى للعائلة المالكة العراقية التي رغم الأخطاء التي تسبب فيها الوصي عبد اله وانفراده في القرار السياسي والعسكري وزج العراق في متاهات عديدة اجبرت القادة العسكرين في العراق في التفكير الجاد بالتخلص من النظام الملكي وإقامة نظام بديل يحقق طموح الشعب العراقي . ولكن ما جرى بعد مجزرة الرحاب المؤسفة كان عكس كل توقعات الشعب العراقي حيث بدا العسكر في فرض سيطرتهم على العراق وعدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه وبالخصوص مع الشعب الكوردي حيث كان من المفروض ان يتم التعامل مع المكون الكوردي على أساس الشراكة الحقيقية في الوطن الواحد وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولكن كل تلك التعهدات كانت مجرد حجج واهية لكسب المزيد من الوقت من اجل تعزيز مواقعهم العسكرية والدولية ومن ثم استخدام أسلوب التنكيل والقوة المفرطة بحق الكورد لإخضاعهم تحت الأمر الواقع وانهاء طموحاتهم السياسية في تحقيق الحكم الذاتي وإرادتهم في ان يكونوا كباقي شعوب العالم يتمتعون بالكرامة وتقرير المصير .
حققت ثورة أيلول من الناحية السياسية توقيع اتفاقية 11 آذار مع الحكومة العراقية التي تعد اهم اتفاقية بين قيادة الثورة الكوردية والحكومة العراقية في تأريخ العراق السياسي المعاصر
ورغم كل السلبيات التي واجهها الشعب الكوردي كانت أبواب التفاوض مع القوى السياسية العراقية مفتوحة لإيجاد الحلول الممكنة لتجنب العراق وشعبه الصراعات الداخلية وإيقاف او تأخير تقدمه الحضاري والدولي . ولكن للاسف كانت العقلية السياسية العراقية وبعض الحاضنات الاجتماعية لها مازالت ترفض اي فكرة للتفاوض مع الكورد في تحقيق مطالبهم المشروعة مما جعل العراق في العصر الجديد دولة صراعات وانقسامات توجت بالحروب الطائفية واعادت العراق الى نقطة البداية . في الستينيات من القرن الماضي وصلت حالة التفاوض بين القوى السياسية الكوردية والعراقية الى نقطة الإغلاق النهائي ما اضطر قائد الأمة الكوردية الخالد الملا مصطفى البارزاني الى اعلان ثورته العظيمة والتي سميت بثورة أيلول المجيدة ضد السلطة العراقية آنذاك والمطالبة من خلال تلك الثورة تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف للشعب الكوردي في العراق ، .انطلقت ثورة أيلول المباركة بإيمان كبير بالله تعالى في نصرة المظلوم وايمان بارادة الشعب الكوردي في التخلص من الظلم والعبودية والتفت الجماهير الكوردية بكافة فئاتها حول راية قائد الثورة الخالد الملا مصطفى البارزاني باخلاص و قدمت الغالي والنفيس من اجل تحقيق أهدافها النبيلة،اليوم وبعد مرور حوالي اكثر من ستون عاما على الثورة ايلول المباركةً علينا ان نقف على اهم انجازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وان نسجل للتاريخ والأجيال القادمة ما يمكنهم ان يفتخروا به كونهم ينتمون الى أمة كبيرة أمة تكالبت عليها الأمم والعالم ولكنها ابت الا ان تحيا بكرامة او تموت بشرف.
لقد حققت ثورة أيلول من الناحية السياسية اهم معاهدة في تاريخ الشعب الكوردي وهي اتفاقية ١١ آذار مع النظام العراقي البعثي السابق الذي كان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ونائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين مهندس إتفاقية الحكم الذاتي لعام 1970 (أو اتفاقية الحكم الذاتي للكورد أو بيان 11 آذار 1970 أو محادثات السلام العراقية – الكردية أو اتفاق السلام لعام 1970) كما يطلق عليها ، هي اتفاقية تم توقيعها في 11 آذار بين الحكومة العراقية والزعيم الخالد الملا مصطفى البارزاني الذي كان قائد الثورة ورئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني أعقاب ثورة أيلول من أجل إنشاء منطقة حكم ذاتي، تتألف من المحافظات الكوردية الثلاث والمناطق المتاخمة الأخرى التي تم تحديدها حسب التعداد بأن لها أغلبية كوردية و تنص الاتفاقية أيضا على تمثيل الكورد في الهيئات الحكومية، على أن تنفذ هذه الاتفاقية خلال أربع سنوات وكان ذلك في وقته أهم محاولة لحسم الصراع الكوردي مع الحكومات العراقية الذي طال أمده.
وفيها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للكورد مع تقديم ضمانات للكورد بالمشاركة في الحكومة العراقية واستعمال اللغة الكوردية في المؤسسات التعليمية، ولكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك التي بقيت عالقة بانتظار نتائج الأحصاء لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في المدينة وهنا لابد ان نذكر للتاريخ ان تلك الفقرة كانت سهواً من القيادة الكوردية حيث كان يجب ان تحسم مسالة كركوك من بدايات المفاوضات وتوضع لها الحلول والحكومة العراقية انذاك كانت مستعدة لقبول الشروط الكوردية لتمكين نفسها في المحيط العربي والدولي، لكن لم يكتب لتلك الاتفاقية النجاح وكان الاختلاف على أحقية الكورد في كركوك مما دفع الحكومة العراقية الى استخدام العديد من الضغوطات على القيادة الكوردية ومحاولات إنهاء حياة البارزاني الخالد والعديد من قادة البارتي، فقيادة البعث وقّعت بيان ١١ اذار وفي ذهنها تقوية نفسها وتثبيت مؤسساتها الحزبية والعسكرية في الحكم مع محاولة إضعاف (البارتي) وقياداته، فيما عدّ البارتي البيان فرصة ذهبية لتثبيت حق قومي كوردي وانهاء الصراع الكوردي – العراقي ، والانتقال بالعراق من دولة شمولية الى دولة ديمقراطية تكون نموذجا للأخاء والترابط الاجتماعي بين الكورد والعرب .
ولعبت دول الجوار العراقي وبالأخص ايران الشاه وتركيا آنذاك دورًا سلبيًا في انهيار الاتفاقية وذلك تحسبًا من مطالبة الكورد في بلدانهم بحقوقهم أسوة بكورد العراق . ناهيك عن التجاذبات السياسية بين العراق والعديد من الدول التي لم تريد للعراق استقرارا سياسيا او اقتصاديا، ومن الإنجازات السياسية على الصعيد الدولي لثورة أيلول المجيدة انها استطاعت ان تحول قضية الأمة الكوردية من قضية ذات طابع محلي وإقليمي الى طابع دولي حيث بدأت الدول الاوروبية و الغربية وأمريكا تبدي اهتماما بالقضية الكوردية ولكن حسب وجهات نظرها ومصالحها التي كانت مرتبطة بالعراق الغني بالنفط والثروات الأخرى وتركيا التي تعتبر من الدول القوية في حلف الناتو وايران الشاه الذي كان يعتبر شرطي امريكا في المنطقة مما جعل القضية الكوردية رغم أحقيتها مجرد ورقة ضغط بيد الدول العظمى تحركها كما تتطلب مصالحها الخاصة والأمن القومي لكل بلد .
ثورة أيلول المجيدة بقيادة البارزاني الخالد لم تعبر عن ارادة وصوت شعب كوردستان وحده فحسب، بل عبرت عن ارادة جميع المكونات العراقية الأخرى كالعرب والتركمان والآشوريين والكلدان والصابئة وذلك من خلال مطالبتها ببناء نظام ديمقراطي حر في العراق
استطاعت ثورة أيلول المجيدة ان تجد الوسائل الممكنة لبناء العلاقات الخارجية حيث نشط الشباب الكوردي في المهجر خلال تلك الحقبة الزمنية نشاطًا ملحوظًا واستطاع الطلبة الكورد في الدول الاوروبية والغربية تاسيس تنظيمات طلابية مرتبطة بالثورة وقيادتها وكان للعديد من الناشطين الكورد دورا كبيرا في نقل معاناة الشعب الكوردي الى الرأي العام العالمي وكسب تعاطف الكثير من الشعوب الاوروبية والغربية وتضامنهم مع القضية الكوردية العادلة ، مما ساعد في ايجاد لوبي كوردي يتصدى لأي فكرة معادية لتشويه مسيرة الثورة والشعب الكوردي، واليوم وبنضال قادة ثورة أيلول المجيدة وعلى رأسهم الخالد الملا مصطفى البارزاني والسياسة الحكيمة للسيد الرئيس مسعود البارزاني وكذلك الفكر السياسي المعتدل الذي ينتهجه كل من السيد نيجيرفان البارزاني رئيس الاقليم والسيد مسرور البارزاني رئيس حكومة الاقليم استطاع الكورد ان يحققوا حلمهم ضمن العراق الفيدرالي وان يشكلوا نواة الدولة الكوردية المؤسساتية من خلال البرلمان والحكومة الكورديين ضمن إقليم كوردستان العراق.
تعد ثورة أيلول المجيدة العصر الذهبي للطبقة الشعبية حيث عملت منذ انطلاقتها على محاربة الطبقية والتعامل مع كافة الشرائح الكوردية كجزء واحد من الثورة الكوردية دون تمييز على أسس العشيرة او المنطقة . وكذلك وقفت في وجه مطامع الإقطاع والأغوات ، الذين كان بعضهم يقف في الصف المعادي للثورة وقائدها . وأعلنت الثورة عن توجهها الاجتماعي مبكراً حيث فرضت العديد من البيانات التي تطالب الشعب بالوئام والوحدة ونبذ اي نوع من الطبقية وتحقيق العدالة بين ابناء الشعب الكوردي وكذلك كانت الثورة منذ انطلاقتها تتطلع الى تكوين علاقات طيبة وصادقة مع الشعب العربي في العراق وبقية الشعوب العربية واستطاعت من خلال ادائها الإنساني ان تفرض احترامها بين الشعوب العربية ما دفع العديد من المثقفين والأدباء ورجال الدين العرب في العراق وكذلك الطبقات العاملة وحتى الفئات العسكرية الى تاييد الثورة الكوردية ومطالبة الحكومة العراقية الى إيقاف النشاطات العسكرية ضد الكورد والبحث عن الحلول السلمية مع قادة الثورة الكوردية . وكذلك رفض المرجعية الدينية الشيعية السيد محسن الحكيم إصدار فتوى تسمح بمقاتلة الكورد مما عزز العلاقات التاريخية بين الجانبين .
وثقافيا دعم وتعاطف الأدباء العراقيين مع القضية والثورة الكوردية وقائدها البارزاني الخالد فنظم الشاعر العراقي العربي الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدته المعروفة ( كوردستان موطن الأبطال) التي صورت الشعب الكوردي كشعب مناضل وثوري ووصفت قائد الثورة البارزاني الخالد بأجمل العبارات وتمكنت ثورة أيلول من ايجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشية رغم افتقارها للدعم الدولي آنذاك ومن خلال التلاحم الشعبي مع الثورة فقد استطاعت ان تفتح مجالات معينة لإيجاد الوسائل الممكنة لدعم الثورة .
بعد اعلان بيان ١١ آذار وما ترتب عليه من بنود الاتفاقية في ايجاد السبل الاقتصادية وتعزيز المنطقة تجاريًا واقتصاديًا وإنعاشها بعد سنوات من الدمار المتعمد التي اتبعته السياسة العراقية لإخضاع الثورة الكوردية أمام امر الواقع وكانت اتفاقية آذار تعد المدخل الحقيقي لتسوية القضية الكوردية في كوردستان العراق لولا السلوكيات الغير مسؤولة من قبل بعض الشخصيات الحكومية في العهد البعثي الصدامي الذين كانت لديهم تصورات خاطئة في اخضاع الكورد أمام الأمر الواقع من خلال استخدام القوى المفرطة لأرغام الكورد على المضي معهم في برنامج كان معدًا سلفًا في جعل العراق ساحة للأقتتال وكسب المزيد من الوقت لترسيخ أسس النظام الذي نفذ كافة مشاريعه لديمومته لفترة زمنية اطول.
وفي الوقت الذي رحبت القيادة الكورية بآلية الاتفاقية وتعاملت بأخلاقيات الثورة الشريفة لإنهاء الصراع القائم بين الكورد والمركز وقدمت ما يمكنها تقديمه من تنازلات لإثبات حسن النوايا وتحويل العراق الى بلد ديمقراطي قادر على اخذ دوره الحقيقي في بناء الحضارة والتقدم في كافة المجالات من خلال ما يملكه من قدرات ثقافية وعلمية وطاقات شبابية وثروات باطنية .
ثورة أيلول المجيدة رسخت العوامل الاجتماعية بين الكورد وكافة المكونات التي تعيش ضمن حدود الإقليم او خارجه . فبالإضافة الى التقارب الكوردي العربي وما تبعه من إنجازات على الصعيدين السياسي والاجتماعي فان ثورة أيلول استطاعت ان تكون الصوت الحقيقي للمطالبة بحقوق المكونات العراقية الأخرى كالتركمان والآشوريين والكلدان والصابئة وكان من ضمن تلك المكونات شخصيات قيادية في الصفوف الأمامية للثورة المجيدة وكذلك كانت ثورة أيلول تقف على مسافة واحدة من الأديان والطوائف من خلال سلوكها وتعاملها مع ابناء القوميات والطوائف المتعايشة معها هذا ما جعل العديد من الصحفين والإعلاميين الغربيين يتحدثون عن التلاحم القوي بين المكونات الدينية تحت مظلة ثورة أيلول المجيدة .
وعندما حاولت الحكومة العراقية في تلك الحقبة شق الصف الكوردي وإيجاد فئات معينة من الشخصيات الكوردية التي ارادت ان يكون لها كلمة فوق كلمة البارزاني الخالد فشلت في تحقيق هدفها مما دفعها الى استخدام أساليب أخرى للقضاء على حياة البارزاني الخالد من اجل تشتيت الصف الكوردي وإيجاد البديل الذي يتناسب مع مشروع الحكومة العراقية آنذاك ولكن إرادة الله والتفاف الشعب الكوردي حول راية البارزاني الخالد كانت أقوى وابقى، هذا وحققت ثورة أيلول إنجازات على أصعدة متعددة منها الفكرية حيث رسخت مباديء الثورة لأجيال مستقبلية وجنت ثمارها في أيامنا هذه حيث ينعم شعبنا الكوردي في كوردستان العراق باستقلالية محددة قوامها القرار السياسي المستقل الذي يعتبر نواة للقرارات التالية التي تتوافق مع طموح الشعب الكوردي .
لقد كانت ثورة أيلول التي تعتبر من اهم وأعظم وأطول الثورات الكوردية على مر التاريخ المعاصر ثورة تحدت كل أساليب الاستبداد والظلم وطالبت بإقامة العدل والمساواة ولولا العقلية الضيقة للحكام العراقيين آنذاك والغرور الجنوني المفرط الذي اصاب العسكر وطريقة تفكيرهم في ادارة الدولة لكان العراق بمكوناته الفسيفسائية الجميلة يعتبر من اكثر الدول الشرقية تقدما وجمالًا واليوم مازلنا نعاني من ضيق التفكير لدى الساسة العراقيين باتجاه القضية الكوردية وما حدث في مدينة كركوك موخرا وما تقوم به الحكومة الحالية في عدم الالتزام بالاتفاقية الثنائية بين الاقليم والحكومة الأتحادية وبالاخص قانون الموازنة يقودنا الى ان اختلاف مسميات الانظمة وأيديولوجية التفكير لا علاقة له بالتعاطي مع القضية الكوردية فالجميع متفقون على نهج ثابت للاسف لا يهدم العراق كدولة ولا المكونات العراقية.
اليوم وبعد مرور اثنين وستين عاما على ثورة أيلول المباركة نقف إجلالا لكل الذين ضحوا بحياتهم وناضلوا من اجل حقوق الشعب الكوردي وقضيته العادلة وعلى رأسهم قائد الثورة الخالد الملا مصطفى البارزاني ورفاقه الأبطال والشعب الكوردي الذي وقف وقفة رجولية وبطولية خلف قيادة قائد الثورة .