د. توفيق رفيق التونجي
الجزء الأول
الحوار الحضاري سيد العلاقات الإنسانية في المجتمعات البشرية. الصورة أعلاه تمثل مدينة كركوك قبل حوالي 100 عام. كل ما في المدينة من أحياء اليوم تعود الى فقط فترة القرن الأخير. مجتمع كركوك بعد الحرب العالمية الثانية ذو تركيبة تعددية قومية وعقائدية. التغيرات السكانية التي حدثت في المدينة مرتبطة بحوادث معينة منها عسكرية واقتصادية وسياسية. سأحاول ان أبين لكم قارئي الكريم سردا تاريخيا تحليليا لتلك التغيرات التي أدت في النهاية الى ما عليه اليوم مجتمع المدينة.
تلك التركيبة التي تغيرت جذريا وبات توسع المدينة والاستيطان بكافة الاتجاهات وشملت اليوم التوسع السكاني لتشمل معظم القرى والقصبات القريبة من المدينة كتازة, بشير، قره هنجير, دارمان, ليلان وصولا الى مدينة التون كوبري التي تقع بين منتصف الطريق بين المدينة وعاصمة إقليم كوردستان مدينة اربيل.
عند دراسة عوامل الاستيطان في المدينة نرى بوضوح ان البدايات الاولى ايام الحضارات العراقية القديمة كانت المدينة فقط تتألف من قلعتها على تلك التلة المباركة ونرى القلعة فب مدينة داقوق وكذلك في اربيل. اما المدينة فانها تشكلت بمرور الزمن وتحت تأثير عوامل سأذكرها انطلاقا من نهاية الحكم العثماني للولايات التي تشكل منها دولة العراق الحديثة..سأتحفظ على جميع الإحصائيات السكانية من منطلق علمي وهو عدم صلاحيتها اليوم وعدم نزاهتها كذلك والبعض اعتمد على اللغة التي يتكلمها العائلة في بيته وهذا من الأخطاء لان لا توجد علاقة بين القومية واللغة المحكية والا تحول مليار ممن يتكلمون الانكليزية اليوم العنصر الانكليزي وكذا بالنسبة للغات الأخرى كالاسبانية والعربية والفرنسية…..ولغات أخرى كثيرة لا علاقة لها بالقومية.
العوامل التي ادت الى التغير الديموغرافي (السكاني) في المدينة عديدة وهنا الخص البعض منها. قد تكون التغيرات اقتصادية، سياسية وعسكرية.
1- عسكرة المدينة خلال الحربين وأبان تأسيس الدولة العراقية.
أثناء معارك الحرب العالمية الأولى تمكن الجنرال مود من احتلال ولاية البصرة واتجه نحو بغداد شمالا. ثم سقطت ولاية بغداد وبقت ولاية الموصل تحت الحكم العثماني الى إعلان الهدنة وانسحبت سلميا من الولاية التي تحولت الى مشكلة فيما بعد ” مشكلة الموصل” وانتهت بتدخل عصبة الأمم وإجراء استفتاء وضم الولاية الثالثة ذو الأكثرية الغير عربية الى الدولة العراقية الفتية و التي أعلنت عن تأسيسها اذار عام 1921 بموجب مؤتمر القاهرة وزارة المستعمرات البريطانية لشؤون الشرق الأوسط وفي جلسة المجلس التأسيسي المنعقدة في 23 اب 1921 تم انتخاب الأمير فيصل بن حسين ملكا على العراق . دخلت القوات البريطانية مدينة كركوك واستقرت في القشلة في الصوب الصغير من المدينة والمناطق المحيطة بها.
بدا الاستيطان في هذا الصوب بعد ذلك. نرى احياء أمثال، قورية ، بكلر، شاطرلو،( ازادي، شورجة، قصاب خانه في الصوب الكبير)، تسعين تظهر للوجود.
في العهد الملكي يتم بناء محطة القطار في أطراف المدينة ويتم بناء دور للعمال بجانب المحطة ويبدا الناس بالسفر بالقطار الى بغداد وبعقوبة مما يؤدي الى سهولة التواصل والانتقال من مدينة الى اخرى. كما يتم بناء المستشفى الملكي وبنايات اخرى لدوائر الدولة حيث تحول الصوب الصغير الى مركز المدينة بجميع الدوائر الرسمية وحتى ثكنات الجنود.
مع اكتشاف النفط يتم بناء حي عصري على النمط الانكليزي وابنية خدمات ومقر للشركة نفط الشمال ومستشفى وساحة كولف وبنايات اخرى ويتم اسكان مجاميع من المسيحيين القادمين من مدينة الحبانية شمال العاصمة بغداد التي كانت معسكرا للجنود البريطانيين. كما يتم تجنيدهم في قوات الليفي كقوة عسكرية داخلية مما يؤدي الى استيطانهم لاحقا في المدينة.
الجدير بالذكر بان الانكليز كان لهم سياسة خاصة في ادارة شركة النفط ونادرا ما كانوا يعينون أبناء القومية الكوردية في الشركة ومشت الحكومات العراقية حتى بعد إعلان الجمهورية على نفس تلك السياسة. تتحول المدينة في السنوات اللاحقة الى مركز عسكري في المنطقة الشمالية وتتمركز فيه الفرقة الثانية للجيش العراقي حيث يبدا ببناء مقر جديد لهم خارج المدينة ويتم بذلك استملاك ومصادرة الأراضي وتهجير العمال السكك الحديدية في حي العمال الملحق بمحطة قطار عرفة الذي كان يخدم عمال الشركة في الوصول الى مناطق عملهم في بابا كركر و ك 1 وتم كذلك الاستيلاء على البنايات القريبة من المستشفى العسكري والملعب العسكري وتتحول المنطقة الى منطقة عسكرية مع زيادة التواجد العسكري الكثيف في المدينة.
مع اعلان الجمهورية 1958 تتغير التركيبة السكانية في الصوب الصغير بسرعة مع تباطئها في الصوب الكبير الذي يتوسطه القلعة وبعض الأحياء في أطراف القلعة وبعض المقابر. حتى ان حي مصلى كانت تعتبر نهاية الأبنية السكنية قبل بناء المجزرة وتوسعت المدينة انطلاقا منها حيث يعتبر معظم القاطنين ممن تركوا قراهم لأسباب شتى وسكنوا في أحياء فقيرة كما تتطور المناطق السكنية على طول الطريق المؤدي الى مدينة السليمانية تباعا تظهر للوجود وتنشا أحياء جديدة.
2- الحركات العسكرية في كوردستان والتغير السكاني في المدينة.
الحركة الكوردية المسلحة بدات في كافة ارجاء كوردستان في ايران وتركيا والعراق. في مملكة العراق بدئها البارزانيون لكن بسببرسقوط الحلم الكوردي في جمهورية كوردستان في مهاباد واعدام قادته الابرار اتجه القائد الخالد الملا مصطفى البارزاني ومقربية عبر الحدود الى الاتحاد السوفياتي وبقى هناك الى إعلان الجمهورية حيث عاد في العهد الجمهوري عن طريق البصرة وعاش فترة قصيرة في بغداد في منطقة الوزيرية.
ولد المرحوم الملا مصطفى بن الشيخ محمد البارزاني بقرية بارزان في 14آذار عام 1903، بعد وفاة والده. وفي الثالثة من عمره ساق العثمانيون حملة تأديبية على العشائر الكوردية عقب فشل ثورة بارزان ضد العثمانيين، فأسروا الشيخ عبد السلام ( الشقيق الأكبر له ) وسجنوا الطفل( مصطفى ) مع أمه في سجن الموصل حيث قضيا فيه تسعة أشهر.
وكان لوالده أربعة أولاد آخرين وهم: الشيخ عبد السلام، الشيخ أحمد، محمد صديق، بابو. لقد لفت انتباه الناس لشخصه منذ الطفولة، لما تحلى به من خصال حميدة في السلوك والشجاعة.
وحاز على عطف وحب شديدين من قبل الأسرة البارزانية. وكان منذ نعومة أظفاره ميالاً للعلم والمعرفة، ويبذل جهده وطاقته البدنية ويصقلها في ممارسة الصيد.
قضى الملا مصطفى ستة سنوات في تحصيله العلمي الابتدائي على يد معلمين خصوصيين في قرية بارزان، وبعدها درس الشريعة والفقه الإسلامي في بارزان لمدة أربع سنوات. ثم استمر أثناء نفيه من بارزان في إكمال دراسته الفقهية في السليمانية. دخل في معترك النضال الكوردي التحرري عام 1919وساهم في ثورة الشيخ محمود الحفيد وقاد قوة مؤلفة من حوالي 300 مسلحا.
اعلان ثورة بارزان 1943- 1945قادها ضد الحكومة العراقية الملكية المدعومة من قبل البريطانيين. وكان مخططاً للثورة هذه المرة أن تشمل مناطق واسعة من كوردستان. في 22 كانون الثاني من عام 1946 حضر الحفل المقام بمناسبة إعلان جمهورية كردستان في مدينة مهاباد وكان على يمين قاضي محمد، وعين قائداً لجيش جمهورية كوردستان حيث منح رتبة «جنرال». وأنيط بالبارزانيين دعم وترسيخ الجمهورية.
المسيرة التاريخية استمرت بعد عام 1947 اي بعد انهيار الجمهورية الفتية ورفض البارزاني الاستسلام للايرانيين قرر الانسحاب من كوردستان إلى الاتحاد السوفييتي سيراً على الأقدام مع حوالي 500 من البارزانيين، بعد الاصطدام بقوات الدول الغاصبة لكوردستان والدول الحليفة لها (أمريكا، بريطانيا).
وفي يوم 17 حزيران من عام 1947 عبروا نهر آراس إلى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. في الفترة الستالينية السوفيتية تعاملت الدولة معهم معاملة قاسية ولاقوا معاناة شديدة في الحياة اليومية، تحسنت أوضاعهم بعد موت ستالين عام 1953. وأقبل البارزاني على العلم، وفي سن تزيد على 45 عاما طلب الانتماء إلى أكاديمية اللغات في موسكو حيث درس الاقتصاد والجغرافية والعلوم، إضافة إلى اللغة الروسية.