إطلالة على معجزة جلال زنكَابادي

أجرى اللقاء : د. توفيق رفيق التونجي

” يامَنْ ألفت خطاكِ دربي الذي ليس متاهة. إنّـا اجترحنا معجزة الطين الذي طالما يلتهب في الإشراقة القصوى ويخبو، لكنما اللهيبُ. يتسرمد في أحشاء هذه القصيدة. فآه لو أن شهاب اللحظة الساطعةيتأبّد قاهراً ديجور الأبد. وإذ العشق لايخون, سنكون حيث لايفنى الجسد، لاتتعفّن الروح. يا أجمل من الجمال حتى الأبد!”

الشاعرجلال الزنكبادي

الشاعر ، المترجم والاديب المرحوم جلال الزنكبادي يتركنا راحلا الى دار الخلود. هذه المقابلة اجريتها مع الشاعر قبل اكثر من عشر سنوات. قارئي الكريم لا نبالغ ولا نجافي الحقيقة؛ إن قلنا بأنّ كلّ قصيدة من القصائد الإحدى والستين، التي تضمّها المجموعة الشعرية (ها هي معجزتي!) المكتوبة خلال السنوات الأربعين(1965-2005) تستحقّ مقالة أو دراسة مستقلّة.

لاغرابة إنْ كان الشعر البوّابة الكبرى لولوج العالم الرحيب للأدب الإبداعي بكل مجالاته لجلّ المبدعين الذين كتبوه أو أحبوا سماعه وقراءته؛ مادام الشعر الحقيقيّ مغامرة لإقتحام العوالم اللامطروقة واللامرئيّة، بل حتى الهلاميّة التكوين في أعماق خالقيه، ولاعجب إذا لمْ يفقه الفقهاء مدياته وأسراره،وإذا عجز العلماء عن حصر أبعاده وأعماقه بقوانينهم الرياضية واستقصاءاتهم الفيزياويّة ومعادلاتهم الكيمياويّة، شأنهم شأن الضالعين في نشدان الميتافيزيقيا…

أجل..لأن الصور الشعرية تجسّد استلهام الشاعر للأصوات الخفيّة الموسوسة في أذنيه، والجمل والعبارات شبه الطلسميّة الآتية من مجاهيل الكون الأكبر وأغوار روحه، حيث تندسّ في قلبه ووجدانه وعقله؛ فتسومه سوء العذاب مؤرّقةً إيّاه في آناء الليل والنهار، لاتغمض له عين ويقرّ له قرار إلاّ إذا باحت بها ألسنة قصائده، مهما كلّفه البوح من عسف و قمع ونبذ…لاسيّما إذا كان شاعر حبّ بمعناه الإنساني الرحيب والعميق ، ومناهضاً للحرب بشتى صنوفها ومشتقاتها مثل شاعرنا جلال زنكَابادي من مواليد (1/12/1951) والذي إلتقيته عبر قصائد مجموعته (ها هي معجزتي!) لقاءً تعجز الكلمات عن وصفه؛ فمددت يدي الملهوفة من قطبنا الشماليّ المنجمد عبر الأثير لأصافحه بحرارة لهيب بابا كَركَر مكبّراً فيه مبدعاً دؤوباً صموتاً منتبذاً خلوته الزاخرة بكنوز الرؤى ، منذ أن إندلعت نار الشعر في روحه ذات يوم من أيّام مطلع 1963 عام ابتلاء بلاد الرافدين بوباء الفكر القومي السلبي من العفلقيين وامثالهم، اقول منذئذ ذاك اليوم راح شاعرنا اليافع يحلّق بين الأرض والسماء ملاحقاً معشوقته الحلميّة ؛ ليضفر جدائلها ويهنأ هنيهات في حضن حنوها .ولكن قارئي العزيز وتحت ظروف النظام الفاشي لمْ يبق لشاعرنا إلاّ أنْ يتعزّى بعدّ النجوم ويستأنس في ليالي السّهاد المديدة بلمعانها القصيّ مناجياً معشوقته المكبّلة محرّضاً إيّاها في قصيدة مؤرّخة بـ (1965).

إذنْ فقد بزغت في قصائد الشاعر زنكَابادي معشوقة واقعيّة سرمدية من لحم ودم وأعصاب ومعاناة وطموحات، حيث حصل بينهما إصطفاء متبادل قائم على التكافؤ بكلّ أبعاده العاطفيّة والفكريّة والإجتماعيّة ؛ فتبتديء قصة حبّ حقيقيّة تحيق بها الظروف اللامؤاتيّة؛ فتشوبها العذابات والأوجاع والمكابدات المريرة رهن (ديجور الإغتراب) بأجوائه المضادّة للحب، من حرب الإنسان ضدّ نفسه وضدّ أخيه الإنسان، حتى الحروب والخصام مابين القوميّات والعقائد الدينيّة والمذاهب والطبقات والأحزاب، ففي قصيدته ( ماوراء الأحلام/1974) وبعدها يتضح لنا بترميز حروفيّ اسما العاشق والمعشوقة (ج ، خ) وعلى مسرح قصّة حبّهما وهو ضفاف نهرسيروان(ديالى) في قصيدة (هيولى حرفين/1974):

” ظلَّ حرفا الـ (ح) والـ (ب)
لِيَـــتَـبَـدَّد ســــــلطانُ الـزَّمان
فـــــطوبى لـمـلحــمةِ حرفينِ
على ضـــفافِ(ســــيروان) ”

ثمّ راحت قصائد شاعرنا تتخذ كياناً ومساراً إنسانيّين، شأنه شأن الشعراء: لويس آراغون، ناظم حكمت وعبدالوهّاب البياتي، حيث تمتزج ثيمة الحبّ مع الهموم والشجون البشريّة، وتستحيل الحبيبة رمزاً للبلاد والثورة والحريّة والجمال وتصبح قصيدة الحبّ قصيدة مقاومة حافلة بهجو واقع الإغتراب والإستلاب والحلم بالثورة المغيّرة في آن واحد، فلنرَ في قصيدة(وردتي المستحيلة) بأيّ طريقة تصويريّة ترميزيّة وتناصيّة ومن ثمّ يتفرّد خطابه الشعري مغايراً للسّائد المألوف في محتواه و مبناه كليهما. حيث يقول انك تلتمّس في شعري تضاريس مختلفة جدّاً عن خطابات مشاهير شعراء الحب القدامى والمحدثين؛ فالشاعر الأشهر نزار قبّاني(مثلاً) يخاطب خطاباً إغوائيّاً نسوة كثيرات عابرات عديمات الملامح فكلّ واحدة منهنّ في عرف قبّاني مجرّد أنثى مشتهاة لتنضاف كرقم إلى قائمة المدجنات ؛ فيعنى بوصف مظهرها من أزياء و عطور وأصباغ شفاه..ولايني يصدر إليها أوامره الذكوريّة السّلطانيّة، بل يتهدّدها ويتوعّدها بالويل والثبور؛ إذا لمْ تستجب لنزواته، كجارية من جواريه العديدات، ومع ذلك عدّه (النقّاد الأفذاذ!) شاعراً محرّراً للمرأة وهو في الحقيقة .

لكنْ حتى لو استطاعت الأنظمة الفاشية أينما تواجدت ان تحطّم العشاق الحقيقيين (وهم عشاق الوطن في الوقت نفسه) تبقى دوما عاجزةً عن دحرهم، أي ليس في مقدور تلك الأنظمة أن تهزم أرواحهم وتقضي على مبادئهم، ولقد طرح المبدع العظيم ارنست همنجواي مثل هذه الثيمة في روايته الرائعة (الشيخ والبحر) وعندها يتناهى إلى أسماعنا صوت العاشق المقاوم راسماً مشهد الخلود الحقيقيّ المتاح للإنسان بصفته كائناً وفي هذا الزمن العصيب الذي تشهده بلاد الرافدين؛ ولاغرو في ذلك، فالشاعر جلال زنكَابادي العصاميّ النشأة والموسوعيّ الثقافة النادر المثيل في مشاهد الثقافات المعاصرة، فهو متعدد الأوجه أدبيّاً(شاعر، مترجم وناقد وباحث) بل قاريء نهم لعيون الشعر العالمي ببضع لغات شرقيّة وغربيّة.

فكمْ يا ترى قارئي الكريم ستدفع البشريّة من تضحيات جسيمة؛ حتى تجتثّ (ر) (الحرب) ليعمّ الحبّ؟!!!
وعن تساؤلي الأخير : – ” هل انتهت قصائد الحبّ لديك بنشر هذه المجموعة؟” أجابني قائلا :
” كلاّ ؛ فهذه المجموعة قد لا تتعدّى نصف قصائدي في الحب ( باللغتين الكردية والعربية) منذ بداياتي شبه الناضجة(1965) حتى الآن ”

شكرا لشاعرنا الذي أخذنا في غفلة من الزمن الرديء الى سياحة وسفر عبر الكلمة الطيبة في روح الإنسان الخالد في كلمات المحبة والتسامح من اجل حياة كريمة خالية من الخصومات والمنازعات والحروب عالم تسوده محبة الإنسان لأخيه الإنسان تحت ظلال حب (الوطن) المعبود.

أشارات:
ها هي معجزتي! جلال زنكَابادي
منشورات دار الجمل/بيروت-بغداد، ط1/2009

قد يعجبك ايضا