متابعة – التآخي
أربعة أشهر فقط بعد توليه منصب رئيس الغابون في تشرين الاول 2009، لم يحرم علي بونغو نفسه من أي شيء. هذا الرئيس السابق، الذي تعرض لانقلاب عسكري في 30 أب الماضي، اشترى 29 سيارة فخمة من طراز “رولز رويس” ومرسيدس” و”بنتلي”… فيما وصلت كلفة هذه “الكنوز” المتنقلة إلى 15 مليون يورو تم اقتناؤها عبر شركة سويسرية.
في 2014، تمكن موقع “مراقبون” التابع لفرانس24 من الحصول على أدلة تشير إلى شراء علي بونغو لهذه السيارات الفخمة التي انضمت إلى سلسلة السيارات العريقة الأخرى التي كسبها والده عمر بونغو قبل وفاته.
لكن العقد لم يشر بوضوح إلى من سيستخدم هذه السيارات وفي أي مجال يتم استعمالها. لكن الموقع التابع لشركة ” إيس دي بي” في الغابون أشار إلى أن الرئيس السابق كان يقود دائما هذه السيارات بسرعة فائقة متبوعا بحراسه. وبرغم التهمة الموجهة لعلي بونغو وعائلته والمتمثلة في الإثراء بواسطة المال العام، إلا أنه لم تتم محاكمته ولو مرة واحدة عندما كان رئيسا للغابون. لكن طرده من السلطة على إثر انقلاب عسكري وقع في 30 آب ٢٠٢٣ الماضي يمكن أن يغير الموقف.
ويشكك محامي منظمة الشفافية العالمية وليام بوردون، الذي يمثل هذه المنظمة في إطار قضية الأملاك غير المشروعة التي اقتنتها عائلة بونغو في فرنسا، في إمكانية مثول الرئيس السابق أمام القضاء الفرنسي.
ويقول في حوار مع إذاعة “فرانس أنتر” “مهما كانت الشكوك التي تحوم حول علي بونغو في قضية الإثراء غير المشروع، إلا أنه “بات من الصعب أن يغتنم القضاة الفرنسيون فرصة فقدانه للسلطة لمتابعته قضائيا، مع العلم أن فقدان السلطة هذا جاء على إثر انقلاب عسكري غير شرعي”، على حد وصفه.
لكن تراجع نفوذ وقوة علي بونغو بعد الانقلاب العسكري يمكن أن يفتح الباب أمام تسريبات جديدة فيما يتعلق بممتلكات العائلة والأموال التي تقدر بمئات الملايين من اليورو. ثروة مخبأة كشفتها التحقيقات القضائية الفرنسية منذ الشكاوى الأولى التي رفعت في هذا الشأن في 2007 ضد والده المتوفي عمر بونغو.
هذا، ووجه القضاء الفرنسي لغاية الآن التهم لتسعة أفراد من عائلة عمر بونغو من بينها “الإثراء غير المشروع” و”اختلاس الأموال العامة” و”الفساد المتعمد” فضلا عن تهمة “إساءة تدبير الأموال العمومية”.
من جهته، وصف موقع “ميديا بارت” عمر بونغو بأنه رجل يثقن عملية “بناء التحالفات العائلية”. فلديه مثلا عشرات الأطفال واعترف بخمسين منهم، فيما تكفل بالبعض الآخر”، وفق الموقع.
ففي قضية الممتلكات غير القانونية، تم اتهام تسعة من هؤلاء الأولاد بوراثة فيلات وشقق فخمة تصل قيمتها إلى 85 مليون يورو اشتراها بالمال العام. ومن بين هذه الممتلكات يمكن ذكر 16 فيلا فاخرة في مدينة نيس الساحلية جنوب شرق فرنسا وحوالي 30 شقة فخمة وفنادق خاصة في الأحياء الراقية بالعاصمة الفرنسية باريس.
هذه “الثروة الهائلة”، وفق حكم محكمة استئناف باريس الذي صدر في شباط 2022، جمعت من اختلاس المال العام ومن الرشاوى المحصلة من الشركات البترولية بينها شركة “إلف أكيتان” الفرنسية التي تدعى اليوم “توتال إينرجي”.
وفي هذه القضية، تم أيضا اتهام مصرف “بي إن بي باري با” في 2021 بتهمة “غسل الأموال واختلاس الأموال العامة”. وأشارت التحقيقات إلى أن “البنك الفرنسي لم يلتزم باليقظة المطلوبة ولم يبلغ عن وجود معاملات مالية مشبوهة” بين 2002 و2009 بخصوص “أنشطة شركة فرنسية كانت تعمل لحساب عائلة بونغو، وظيفتها إيجاد ممتلكات عقارية قديمة ثم بعد ذلك إعادة تأهيلها بواسطة ملايين من اليورو”.
وكشف الصحفي فابريس عرفي، الذي يعمل في موقع “ميديا بارت”، والذي اطلع على العديد من الوثائق العقارية التابعة لعائلة عمر بونغو المتوفي في 2009 أن التحقيقات التي أجراها القضاء الفرنسي أظهرت “أن قيمة الثروة المالية التي تملكها عائلة بونغو ومن معها بلغت 460 مليون يورو”.
من جهتها، كشفت أسبوعية “لوكنار أونشيني” الفرنسية الساخرة في 24 آب الماضي أن علي بونغو بصدد تنفيذ مشروع كبير يتمثل في تحويل فندق خاص مساحته 4674 مترا مربعا، اشتري بـ100 مليون يورو في 2010 من طرف الغابون إلى إقامة دبلوماسية”.
وشكلت ملفات الرشوة والفساد وسوء التسيير أبرز المواضيع التي تحدث عنها منافس على بونغو، ألبير أوندو أوسا، خلال الحملة الانتخابية التي جرت الشهر الماضي. لكن هل تستجيب السلطات العسكرية الجديدة إلى مطالب هذا الزعيم المعارض؟
وتجدر الإشارة إلى أن زعيم المرحلة الانتقالية بريس أوليغي نغيما، الذي عين على رأس البلاد من قبل الانقلابيين نهاية الشهر الماضي، ليس غريبا عن عائلة بونغو بل هو ابن عم الرئيس المخلوع.
وبرغم أن اسمه لم يرد في قضية الممتلكات غير القانونية، إلا أنه متهم هو أيضا بالإثراء الشخصي. فوفق المنظمة الأمريكية لمحاربة الفساد، فقد يكون هذا العسكري قد اشترى ما بين 2015 و2018 ثلاث فيلات في ضاحية واشنطن بقيمة مليون دولار
ويلفت المراقبون إلى أن الانقلاب الأخير الذي شهدته الغابون (وسط أفريقيا) لم يكن مفاجئًا إلا من حيث توقيته، إذ إن معظم المؤشرات الداخلية في البلاد تشير إلى تراجع شرعية الرئيس المخلوع علي بونغو، منذ توليه حكم البلاد عام 2009 خلفًا لوالده عمر بونغو الذي تولى زمام الأمور منذ 1967. وأخفقت جميع الوسائل السلمية في التغيير عبر صندوق الانتخابات، والجولات الانتخابية الثلاث التي خاضها بونغو الابن ترافقت مع تصفية جسدية وسياسية لخصومه ومعارضيه.
وبرغم أن انتخابات 2016، التي لم يحصل فيها من الجولة الأولى إلا على 49% (قبل تعديل قانون الانتخابات بعدها ليُشترط حصول المرشح الفائز على أكثر من 50% أو دخوله دور إعادة)، كانت مواتية لحدوث تدخل عسكري للإطاحة به، بخاصة بعد تأجيل انتخابات الجمعية الوطنية التي يسيطر عليها هي ومجلس الشيوخ عبر حزب الغابون الديمقراطي الحاكم. ومع ذلك، لم يحدث هذا نظرًا لسيطرته المطلقة على مقاليد الأمور بوسائل متعددة، مما ضمن له السيطرة الكاملة على الأحداث في البلاد.
وبموجب الدستور الغابوني الرئيس هو رئيس السلطة التنفيذية ويعين رئيس الحكومة، كما أنه يهيمن على السلطة القضائية من خلال تعيين القضاة، بالإضافة إلى تعيين 3 من قضاة المحكمة الدستورية، في حين يعين مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، اللذان يخضعان لهيمنة حزبه، 4 من أعضائها. هذه الهيمنة على المؤسسات والأجهزة السيادية جعلته يستغلها لتمرير ما يشاء من قوانين وتشريعات عبر آلة إعلامية تخضع له تمامًا. لذلك، لا غرابة في أن ترفض المحكمة الدستورية -التي يرأسها أحد المقربين منه- إرسال بعثة مراقبة من الاتحاد الأفريقي لإعادة فرز أصوات الانتخابات الرئاسية لعام 2016 بعد طعن المعارضة فيها. والمفارقة هي أن أصوات الرئيس زادت بعد الفرز بنسبة تزيد على 1%.
وقبيل الانتخابات الأخيرة لعام 2023، سعى بونغو إلى الإطاحة بخصومه باستخدام قوانين انتقائية. ففي عام 2021، اقترحت الحكومة قانونًا جديدًا يلزم المرشحين للرئاسة بالعيش في البلاد لمدة 6 أشهر في الأقل قبل عامين من موعد الانتخابات. وتم تفسير هذا القانون في حينه بأنه استهدف أفرادًا من عائلته الذين يقيمون في الخارج الذين قد يرغبون في الترشح ضده. وأجرى أيضًا استفتاء في نيسان الماضي للسماح له بالترشح لفترات رئاسية متعددة من دون حد أقصى، مع تقليص مدة الرئاسة من 7 سنوات إلى 5 سنوات فقط.
وتعليقا على الانقلاب وبحسب المحللين السياسيين، فان الأوضاع تسير في صالح الانقلابيين إلى حدٍ كبير. لا سيما في ظل الترحيب الداخلي من جهة، واكتفاء المجتمع الدولي “بالإدانة” من جهة أخرى، وعدم وجود رغبة من الدول الأفريقية في التدخل، سواء من قبل الاتحاد الأفريقي، الذي اكتفى في حالات مماثلة بتعليق عضوية البلاد في مؤسساته حتى إجراء انتخابات ديمقراطية حتى لو أتت بقادة الانقلاب وهم بزي مدني، أو من قبل المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (إيكاس) التي منوط بها، وفقا لقوانينها، التدخل لاستعادة النظم المنتخبة ورفض قيام العسكر بالإطاحة بهذه النظم.