اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 22- 8- 2023
لم تكن ممارسة الظلم من قبل النظام السابق مقتصرة على قومية محددة في العراق، بل شمل الجميع ومنهم الكورد بشكل عام والكورد الفيليين منهم، هذا ما ورد في الكتاب الذي وثّق مرحلة من مراحل تاريخ العراق، الذي كتبه الاستاذ سامي الساعدي من مما قاساه من ظلم ووثقها في كتابه المُعنون ( ليالي أبو غريب)، الذي طبع للمرة الثالثة في العام ( 2016) عند مؤسسة الوراقين.
تناول الاستاذ سامي الساعدي جميع المراحل التي مرّ بها من اعتقال وسجن وتعذيب ومعاناة كثيرة يطول سردها، لكنه كتبها بطول بال وذاكرة متقدة، تعرّض لكل هذا بسبب افكاره التي كان يحملها، وقد وضع عناوين مختلفة لفصول كتابه. وايضا داخل الفصول عناوين فرعية تخص الموضوع الذي يتناوله، وفي عنوان فرعي ( شمس الدين) يورد هذه المعلومات عن كوردي فيلي اسمه ( شمس الدين) وكما يأتي:
– ” ضحى اليوم الأول الذي حللت بينهم.. تزحزح مكاني حتى صرت بجانبه، فسألته:
– ما هذا الجُرح؟.
أجابني بصوت متهدج.. وهو لم يزل على هيئته:
– من التعذيب.. علگوني مثل الطلي.. مِن إديَه ورجليّه.. والكلبـچـه جرحتني هذا الجُرح.
مُشيراً بألم بالغ إلى الجُرح العميق النازف في كاحله.
سألته:
– كَم عُمرك؟.
– 17 سنة.
– بس؟!.. بس.. من أين؟.
– مِن بغداد.. مِن منطقة شارع الكفاح.
– ما إسمُكْ؟.
– شمس الدين.
سرعان ما تذكرت قبل ليلتين.. سمعت الملازم حازم التكريتي يُردّد هذا الإسم لأحد المُعتقلين:
– شنو علاقتك بشمسي؟.
فأجابه المعتقل:
– علاقة عمل.. كِلانا نعمل في محل للأحذية.
فسألته على الفَور:
– أنتَ شمس الدين؟.
فقال شمس الدين:
– وهل تعرفني؟.
فأجبته:
– سمعت المُلازم حازم يسأل شخصاً عنك.
فسألني بلهفة:
– ماذا قال لحازم؟.
فقلت:
– قال لهُ: لَمْ تربطني بهِ سوى علاقة العمل.
هشَ لهذا الخبر.. وبالرغم من آلامه الحادّة رددَ مسروراً:
– عفيه بالسبع.. عفيه بالسبع.. ومگال شي بعد؟!.
قلت له:
– لا أبداً.. لم أسمع منه سوى هذا الكلام.
إستمر في تأوهه.. وهو مُمسك بكاحله.. والأجساد العارية بعضها يلزگ ببعض من كثرة التعرق.
سألته عن حكايته… فأجابني:
– إعترف عليَّ واحد.. وإتهمني أنّهُ إدّخر عندي أسلحة.. مسدس، ورمانات.
ثم أردف قائلاً بلهجة الشاكي:
– عذبوني تعذيباً شديداً.. إستخدموا معي أساليب تعذيب مُتعددة.. ثم أوقفوني على الشمعة
([1]) يومين.. حتى أحسست كأن رجليَّ أصيبتا بالشلل.
فقلت لهُ:
– وماذا ذكرت لهم؟!.
فقال:
– لم أذكر لهم شيئاً سوى اسم شخص غير حقيقي.. قلتُ لهم إنه الآن جندي يُقاتل في
الخفاجية. ([2])
ثم قال متوسلاً:
– إذا خرجت.. أرجوك أن تذهب إلى أهلي في شارع الكفاح.. ( وأخذ يوضح لي المكان الذي
يقطن فيه أهله) وتُخبرهم عنيّ وتطمئنهم.
وأكّد عليَّ ذلك مِراراً وهو مُمسك بكاحله ويئن.
ولمّا سألته عن إسمه الكامل، أجابني قائلاً:
– إسمي شمس الدين عبد النبي محمود.
وتخلّلت لقاءاتنا اوقاتاً للأنين والآلام أوقاتاً قصيرة.. نتجاذب فيها أطراف الحديث من دون مقدمات ولا نهايات.. وغالباً ما كانت أحاديث السجناء كذلك.
وقد أخبرني إنّهُ كوردي فيلي.. ويعمل في محل للأحذية في بغداد الجديدة.. وهو يُعيل عائلته.. ولهُ أخوة هو كبيرهم.. لأنّ أباه مريض وعاجز عن العمل”.
وفي قصة ( شاي مهيل) ضمن مجموعة القصص القصيرة للاستاذ كفاح الامين، الذي كان ضمن كتاب بعنوان ( لِمَنْ هذهِ الحرب)، والذي طُبِعَ لاول مرة ببغداد عام 2008 في مطبعة الطيف، ومنها:
– ” كاد يوسف أن يغامر كطبعه في الصحراء بارتشاف ابريق ضخم من الشاي الأسود
المهيل في وضوح النهار امام بشر عرف للتو انهم بلا عيون يلعبون بإصرار وصخب النرد والورق وبقايا العمر في مقهى بشارع الرشيد الا أنه تملل في مكانه فوق اريكة المقهى الخشبية اذ تجاذبته احلام الفصول والامطار المتداخلة في هسهسة الرمال الناعمة التي طالما ساوم فيها مع اقرانه في مقتبل مدارات العمر حوافر الخيل وبيض
الافاعي وطعم الهيل الذي تشرب ذاكرته لاول مرة ذات ليلة في خيمتهم الصحراوية حينما اومأ بإصبعه إلى جثة نجم تكوم بدم طازج فوق كتف اخته التي ناولته ابريق الشاي ثم همدت، شاي مهيل صرخ صبي المقهى وهو يرمم بقايا وجهه المحروق بريش هدهد نام
مكان العينين. تطلع كالمفجوع إلى تلك الرؤوس المتناسقة أمامه وهي تهيض كلاماً حرائق الروح بين دخان اوجاغ الشاي في الزاوية القصية من المقهى والرتابة المريعة في القبول المساوم لفسحة القبر القادمة مع الحرب عبر الهواء والمارشات العسكرية وخطوات النهاية الأكيدة.
– يا ناس، آني مريض. قال لهم واشار بإصبعه إلى الجدار الطيني المزين بصور الجلاد والاحفاد والتعاويذ، إلى الكوة الصغيرة المطلة على نخلة وحيدة التي خلفها تنفتح صحراء واسعة وحنونة، صحراء تردد عواء الروح في صداقة رطبة ولزجة كفوهة البئر عند مضارب أهله، البئر التي رآى فيها نخل ينام عندها الأئمة والصالحون، وسماء زرقاء عميقة وهائلة دون مدافع وطبول ومارشات تعلن في أول المساء عبر
احتفالات الدم عند انتهاء السراب الحلو أينما كان، تعلن نهاية العالم وذلك في حضرة الجلاد الذي يغلق بلعابه القيحي الافق والقوافل والكوة الصغيرة المطلة على نخلة وحيدة. ركن إلى ظلمة المقهى ببداهة بدوي مفجوع بجواده في ليل الصحراء الباردة وتلبّسَهُ هدوء غريب لا يماثله سوى رغبة جافة تعود عليها في إيقاف الزمن المتسرب
من سِلال عُمره حينما غادر جنة الصحراء نحو ثكنة عسكرية من صفيح وقيح”.
واضاف في نفس القصة:
– ” حيث الكل مشغول باقتلاع العيون بعد سملها ثم صهرها بالذهب والدم وتقديمها للاعبين معروفين تقدموا بحقد وغرور لطعن الثيران التي توهمت لوهلة في صمت الهتافات وشخير الجلاد في مخدعه فسحة لحياة قادمة!. الا أن ذلك لم يحدث ولن يحدث! فأشاحوا
إذ ارتفع خوارها الملازم للطعنات والريح المسمومة النافذة من الجهات الأربع مهروسة بدمها النافر وبصيحة صبي المقهى: ( شاي مهيل)….. ( شاي مهيل)، واوجاع السنين والمذياع الثمل من المارشات العسكرية وفحيح شعراء الخديعة وحريق النخل في الجنوب واندحار روح يوسف الذي تدفق دمه بغزارة وعنفوان من وريده المحزوز بموس حلاقته الصدئ في الركن الرطب المظلم من ذلك المقهى في شارع الرشيد حتى سطوع سراب الخلاص في تلك الصحراء المنتظرة”.
[1] – يعني قيدوه وقوفاً على الشماعة او المشجب.
[2] – وهي المدينة الإيرانية التي دارت فيها معارك طاحنة اثناء الحرب العراقية- الإيرانية إبان تلك الأيام التي دارت فيها هذه المحادثة.