منارات عراقية … لميعة عباس عمارة .. شاعرة الرقة والجمال والأنوثة

عالية كريم

امرأة سكنها الشعر وبقي في أعماقها وهجاً متقداً لم تنطفئ جذوته، هربت من ارض الشعر كي تستنشق اوكسجين الحرية بعد ان تفشت الأوبئة والأمراض السياسية فكتبت قصائد حب ممزوجة بالوجع والحنين ودجلة وليالي بغداد والناس الطيبين، إنها المرأة البغدادية المندائية التي ولدت في بغداد عام 1929 في منطقة الشواكة، بجانب الكرخ ونشأت وترعرعت في العمارة وسكنت في آخر سنوات حياتها، مدينة سان دييغو، ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية.

 

 

لا احد يتذكر طبيعة تلك المرأة التي عشقها السياب وألهمته في كتابة العديد من القصائد وكانت من اخلص صديقاته حين بدأت علاقتها به في دار المعلمين العالية التي تخرجت منها عام 1950 ويذكر الأستاذ عبد البطاط ان السياب قال فيها قصائد كثيرة ودعاها لزيارة قريته جيكور وبقيت في ضيافته ثلاثة أيام كانا يخرجان سوية الى بساتين قريته ويقرأ لها من شعره وهما في زورق صغير.

لميعة عباس عمارة شاعرة عراقية بامتياز، فهي تنحدر من سلالة اتخذت من الماء -وهو أصل الحياة- مكاناً لعبادتها وحياتها، وقومها من تلك الأقوام الموجودة بالعراق قبل أن يكون العراق عراقاً، ولأنها جنوبية فهي مترعة بالحنان الذي تستمده من بلل مياه الأهواز وهي شاعرة حلقت في فضاءِ طويلِ كطيور الماء في بلدتها الأولى.

تعود أصول الشاعرة لميعة الى ميسان في جنوب العراق حيث أنشأ السومريون حضارتهم، لكنها فتحت عينيها في بغداد حتى صار التبغدد جزءاً من حياتها تتمثله وتدافع عنه، فكان انتماؤها الى بغداد قوياً، بعد أن اغترب أبوها الرسام بعيداً عن العراق، وحين سعت إليه فأدركته، مات بعد شهرين من ذاك اللقاء، فعاد انتماؤها إلى العراق أقوى فصار هو الأب والأم والحبيب.

 

 

نظمت الشعر وهي صغيرة باللهجة العامية وتفتحت موهبتها الشعرية في الرابعة عشر من عمرها ونشرت أول قصيدة لها عام 1944 في مجلة السمير، تخرجت من دار المعلمين العالية وعملت مدرسة للغة العربية وآدابها.

أصدرت عدة دواوين منها: الزاوية الخالية، وعراقية، ولو أنباني العراق، والبعد الأخير.

يشاء القدر أن تنتزع هذه الشاعرة الرقيقة من العراق كنخلة اجتثت من أرضها، وهي اللصيقة بها حد الوله، لتنبت في أرض غير أرضها وناس غير ناسها وسماء غير سمائها. حيث أقامت الشاعرة لميعة وقد تجاوزت السبعين، في أمريكا التي دمرت مدينتها الأثيرة بغداد، عاشت مثل نبت بري، تتذكر بغداد ولياليها فيها وأيامها مع السياب الذي كناها بوفيقة في قصائده حسب ما تعترف هي بذلك، ويبدو أنه سلك طريقة الشعراء القدامى في عدم الإفصاح عن اسم الحبيبة.

في الثانية عشرة، كانت تكتب القصائد وترسلها الى شاعر المهجر (إيليا ابو ماضي) صديق والدها الذي يشاركه في الاغتراب، ونشرت لها مجلة السمير أول قصيدة وهي في الرابعة عشر من عمرها وقد عززها إيليا ابو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة اذ قال (إذا كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى اية نهضة شعرية مقبل ..) وتحقق توقع الشاعر وصارت تلك الطفلة شاعرة كبيرة فيما بعد.

 

 

عندما درست الشاعرة في دار المعلمين العالية – كلية الآداب – صادف أن اجتمع عدد من الشعراء في تلك السنوات في ذلك المعهد، السياب والبياتي والعيسى وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم، وكان التنافس الفني بينهم شديداً، وتمخض عنه ولادة الشعر الحر الذي لا تكترث الشاعرة كثيراً في مسألة الريادة فيه. بدأت بنشر قصائدها في الصحافة العراقية والعربية وكان اسمها يتردد بين شعراء تلك المرحلة.

وممن أشاروا الى شاعريتها المستعرب الفرنسي البروفسور (جاك بيرك) فذكرها في كتابه الذي صدر بفرنسا عن الشاعرات العربيات فذكرها ونازك الملائكة وفدوى طوقان.. فقال: لميعة عباس عمارة شاعرة الرقة والجمال والأنوثة التي لا تنتهي …

كما انها تميزت بالذكاء وسرعة البديهة، فحين كرمتها الحكومة اللبنانية بوسام الأرز تقديراً لمكانتها الأدبية- لم تتسلم الوسام (لان الحرب الأهلية قائمة) وكتبت تقول:

على أي صدر أحط الوسام

ولبنان جرح بقلبي ينام

إن لميعة ترى في اللغة العربية الفصحى وسيلتها للتواصل مع الآخرين الأوسع، لكنها تجد في لهجتها العراقية (العامية) ما يقربها من جمهورها المحلي الذي استعذب قصائدها فتحول بعضها الى أغنيات يرددها الناس.

ومن يقرأ قصائد الشاعرة لميعة يتوقف عند ملمحين أساسيين، الأول سعيها للتعبير عن أنوثتها أمام الرجل بوصفه صنوها لا عدواً لها تحاول استفزاز رجولته وإثارته، والثاني هذا الاعتزاز بانتمائها العراقي الواضح بعيداً عن المزايدات الوطنية، إنه التعبير عن ذلك الارتباط الروحي بأرض تعرف مدى عمقها الحضاري وأصالته، وكثيراً ما تغنت ببغداد، فبغداد هي العراق، تقول:

لان العراقة معنى العراق

ويعني التبغدد عزا وجاها

 

 

ولتعلقها بلهجتها العراقية تستهل إحدى قصائدها بمفردتين محليتين هما “هلا” و”عيوني” فتغني لقرى العراق ومدنه وناسه وتجد كل شئ جميل فيه، حتى قمر بغداد ترى أن له خصوصية وإن كان مشتركاً بين الجميع، أما سبق لحبيبها القديم الشاعر السياب أن قال “حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق؟”. تقول لميعة:

(هلا) و(عيوني) بلادي رضاها

وازكي القرى للضيوف قراها

بلادي ويملاني الزهو إني

لها انتمى وبها أتباهى

لان العراقة معنى العراق

ويعني التبغدد عزا وجاها

أغني لبغداد تصغي القلوب

وإلفي دموع الحنين صداها

وان قلت بغداد أعني العراق الحبيب

بلادي بأقصى قراها

من الموصل النرجسيه أم الربعيين

والزاب يجلو حصاها

الى بصرة الصامدين نخيلا

تشبث من أزل في ثراها

وأسكنت نفسي أقصى البعيد

وقلت غبار السنين علاها

فما نستني عيون النخيل

ولا القلب والله يوما سلاها

واعرف انه قمر للجميع

ولكنه قمر في سماها

تعمدت الشاعرة بمياه دجلة حيث ولدت في بغداد وترعرعت على مياه الفرات وبين هذين النهرين العظيمين أشادت مجدها الشعري، وقد كانت شاعرة تمتلك من الجرأة والتمرد ما سبق عصرها وهي التي أكملت الجامعة في الخمسينات، عاشت هذه الشاعرة غريبة في الولايات المتحدة تلوك غربتها وحدها، وكلما زارت بلداً عربياً قالت هذه فرصة أن لا أموت في أمريكا، هذه السومرية التي ما زالت تتميز بصوت أنثوي يمنح إلقاءها سحراً أخاذاً.

أصدرت الشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة ديوانا شعريا باللهجة العامية، وهو السابع في سلسلة نتاجاتها الشعرية والوحيد الذي خرجت به عن الفصحى، وقد حاولت تفسير ذلك بأنه جاء بناء على دعوات أصدقائها مخافة ان يسرق او يضيع شعرها العامي، وبخلاف ذلك فإنها تتمسك بالفصحى لغة وحيدة للشعر.

ذكرتها موسوعة WHOIS WHO ضمن النساء المشهورات في العالم، وترأست مجلة (مندائي) التي تصدر في الولايات المتحدة الامريكية حتى وفاتها وهي مجلة ناطقة باسم الطائفة المندائية- الصوت الآخر.

توفيت لميعة عباس عمارة في الولايات المتحدة، يوم الجمعة 18 حزيران 2021، عن عمر ناهز 92 عامًا. وعيناها ترنو نحو بغداد الحب والجمال والسحر والشعر…

 

قد يعجبك ايضا