أسماء الصفتي
ساهمت الجائحة في تعزيز نجاح قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، وعملت العديد من الشركات على التأقلم مع متطلبات عصر ما بعد كورونا، منخلال تقديم جميع خدماتهم عبر الإنترنت. وقد كانللشركات الصينية الريادة في هذا المجال؛ حيثظهرت العديد من التطبيقات والمواقع الإلكترونية المتخصصة في قطاعات التعليم والتحويلات المالية،وصولاً إلى خدمات التوصيل والتجارة الإلكترونية. وخلافاً لسياسة الحماية القصوى التي اتّبعتهاالحكومة الصينية في الدفاع عن شركات القطاعالخاص الصينية العاملة في الخارج، وعلى رأسها“هواوي”؛ تعرض قطاع التكنولوجيا المتقدمة لعددمن الهجمات الداخلية، إلى الحد الذي دفع البعضللقول بأن الحزب الشيوعي الصيني يعمل علىتسهيل مهمة شركات التكنولوجيا المتقدمة الغربيةالمنافسة للشركات الصينية. كما بدأ بعضالمستثمرين الأجانب في التعبير عن تخوفهم من ضخأموالهم والاستثمار في هذه الشركات، خاصة شركة“علي بابا”، تجنباً لمقصلة الحكومة الصينية.
دوافع تقييد قطاع التكنولوجيا
1- مكافحة الاحتكار وضمان المنافسة: بررتالحكومة الصينية فرض قيود على بعض شركاتالتعليم الإلكتروني، مثل شركة “Edtech”، بارتفاعأسعار الخدمات التي تقدمها، مما يضغط علىميزانيات أسر الطبقة المتوسطة. يُضاف إلى ذلك، أنارتفاع تكاليف التعليم يُقوّض سياسة الحكومةالدافعة إلى تشجيع الأسر لإنجاب المزيد منالأطفال. وبدورها، ذكرت إدارة الفضاء الإلكترونيفي الصين، وهي الهيئة المعهود لها بمراقبة الأنشطةالتي تتم عبر شبكة الإنترنت، أن التحقيق مع شركة“”DiDi، للنقل والمواصلات، التي تُعد أكبر منافسعالمي محتمل لشركة “أوبر”، يعود لاعتبارات مرتبطةبأمن وخصوصية معلومات مستخدمي التطبيق. كماتم توجيه اتهامات لتطبيق “Meituan” لخدماتتوصيل الطعام، باستغلال العمال وعدم دفع أجورمناسبة لهم. ناهيك عن اتهامات واسعة بالفساد،وعمل بعض أعضاء الحزب الشيوعي لصالح هذهالشركات بصورة غير مشروعة يجرمها القانونالصيني.
2- السيطرة على البيانات الضخمة: أُدخل عددٌ منالتغييرات المهمة على الطريقة التي تدير بها الصيناقتصادها تحت قيادة الرئيس “شي جين بينغ”. ويدور الهدف الرئيسي للرئيس “شي” في الوقتالحالي حول اللحاق بالولايات المتحدة وتجاوزها فيجميع المجالات، واستغلال الفرص الجديدة التيأتاحتها جائحة كورونا للاقتصاد الصيني. ولذا فإنالهجوم على قطاع التكنولوجيا الخاص، هو محاولةلانتزاع السيطرة على البيانات الضخمة التييمتلكها هذا القطاع، والتي تعد رصيداً استراتيجياًمهماً في مواجهة الصين مع الولايات المتحدة.
3- تعزيز الهيمنة على الشركات السيبرانية: يسعىالحزب الشيوعي الصيني من خلال هذه الرقابةالمشددة، إلى التأكيد لرجال الأعمال القائمين علىإدارة هذه الشركات العملاقة بأن الكلمة الفصل –فيالنهاية– ما تزال في يد الحزب، وأنّ نموذج “ماركزوكربيرج” و”إيلون ماسك” وقدرتهما على فرضقيود على رأس الدولة باستخدام نفوذ شركاتهماالضخمة، أو بالضغط على المستخدمين وإيقاعهمفي فخ الديون المتراكمة؛ هي حالة أمريكية خالصة لايمكن أن تتكرر في أعماق بكين.
أنماط القيود الحكومية
فرضت الحكومة الصينية عدة قيود تشريعيةواقتصادية على شركات التكنولوجيا العملاقة فيالصين، وتضمنت هذه القيود ما يلي:
1- قانون حماية البيانات الشخصية: أصدرت الصينمؤخراً قانوناً لحماية المعلومات الشخصيةللمستخدمين. ويُلزم القانون الذي سيدخل حيزالتنفيذ في الأول من نوفمبر، جميع التطبيقاتوالشركات التكنولوجية بالحصول على موافقة أورفض المستخدمين للمعلومات التي سيتم جمعهاحولهم. ولا يقتصر الأمر على الموافقة من عدمها،فيجب أن تقدم الشركات شرحاً واضحاً للمجالاتالتي ستُستخدم فيها هذه المعلومات. على سبيلالمثال، توضيح ما إذا كانت ستُستغل في الدعايةالموجهة بناءً على تفضيلات الشخص وسماتهالشخصية أم لا. كما أن القانون يضع قيوداً علىمعالجي البيانات، حيث يُلزمهم بالحصول علىموافقة الأفراد لجمع وتحليل بعض المعلومات ذاتالطبيعة الخاصة والحساسة، مثل: القياساتالحيوية، والتاريخ المرضي للأفراد، والمعلومات المالية. ويَتعرّض المخالفون للقانون لقائمة طويلة منالعقوبات، التي يمكن أن تصل في النهاية إلى حدإنهاء عمل الشركة بشكل كامل.
ومن الجدير بالذكر أن هذا القانون لا يُطبق علىالمؤسسات الشرطية والحكومية الصينية، التي تمتلكالحق الكامل في جمع مختلف المعلومات والبياناتعن المواطنين، لحفظ السلم والأمن العام.
2- إعادة الهيكلة وفرض الغرامات: خلال أواخر شهريوليو، أمرت الصين أكثر من اثنتي عشرة شركةعاملة بالقطاع التكنولوجي بإجراء عمليات تفتيشداخلية ومعالجة مسائل مثل: أمن البيانات،والممارسات الاحتكارية. وقد أرغمت “مجموعة Ant”،على تحويل نفسها إلى شركة قابضة مالية، تخضعلمتطلبات رأس المال التي تطبق على البنوكوالمؤسسات الحكومية. كما فرضت السلطاتالصينية غرامة قياسية قدرها 2.8 مليار دولار علىشركة “علي بابا”، بدعوى ممارستها عدداً منالأنشطة التجارية الاحتكارية.
واضطرت شركة DiDi بدورها إلى إزالة تطبيقهاالرئيسي من متاجر بعض الهواتف الذكية، وهو ماعطل خططها للتوسع في عدد من الأسواق الأجنبية،وعلى رأسها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقدأُمرت شركة “”Tencent، المشغلة لتطبيق“WeChat”، بالتخلي عن حقوق تشغيل الموسيقىالحصرية، في حين شهد قطاع التعليم الإلكترونيعدداً من التغيرات الهيكلية، التي حظرت الشركاتالعاملة في هذه الصناعة من جني الأرباح. ناهيكعن وضع العديد من القيود والاشتراطات الصارمةللسماح لشركات التكنولوجيا الصينية بالتوسع فيالخارج، وهو ما يؤكد الأقاويل التي تداولها عدد منالخبراء، والتي تؤكد عدم رغبة الصين في إطلاعالمستثمرين والحكومات الأجنبية على البياناتوالمعلومات الهامة التي تمتلكها هذه الشركات.
3- الاختفاء والمنع من الظهور العام: كانت مجموعة“Ant” على استعداد لإطلاق أكبر طرح فيالبورصة العالمية خلال الرابع والعشرين من أكتوبرلعام 2020، وتمهيداً لهذه الخطوة سعى رجلالأعمال والمدير التنفيذي لموقع “علي بابا”؛ “جاكما”، للترويج لهذه الخطوة، عبر المشاركة في عدد منالفاعليات والمؤتمرات. وقد أثار خطاب ألقاه في هذاالسياق، على مجموعة من الشخصيات البارزةالصينية، نوعاً من الجدل، بسبب انتقاده النظامَالمالي الصيني.
وقد اختفى “جاك ما” عن الظهور العلني عقب ذلكالخطاب، وهو ما دفع سيلاً من الشائعات للانتشارفي كل حدب وصوب حول المصير المجهول لرجلالأعمال الصيني الأبرز، إلى حد الاعتقاد بأنه قدفارق الحياة. واستمر اختفاؤه حتى أواخر شهريناير، وبالرغم من ظهوره على الساحة، وانتفاءشائعة وفاته؛ إلا أن “جاك ما” ما يزال بعيداً عنالأضواء، ولم يشارك في أي فعاليات اقتصاديةخلافاً لعادته.
وأشارت تقارير أخرى أيضاً إلى مطالبة السلطاتالصينية الرئيس التنفيذي لشركة “Meituan”؛“وانج زينج”، بالابتعاد عن الأضواء، عقب نشرهقصيدةً عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعيالصينية، والتي تم تفسيرها بأنها انتقاد صريحللحكومة.
4- تعزيز صلاحيات المؤسسات الرقابية: حادثة“جاك ما” كانت بمثابة جرس إنذار لـ “بوني ماهواتنج”؛ الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركةالتكنولوجيا والترفيه “”Tencent، الذي سارع فيمارس للانخراط في محادثات طوعية مع المؤسساتالحكومية المسؤولة عن مكافحة الاحتكار. كما تعهدبالالتزام بكافة الأحكام والتوجيهات التي تُصدرهاالسلطات المختصة، وذلك في أعقاب اتهام شركتهفي دعوى مدنية بأن تطبيقها للمراسلات السريعة“”WeChat ينتهك قوانين حماية القصّر. وأشارتتقارير أخرى أيضاً إلى مطالبة السلطات الصينيةالرئيس التنفيذي لشركة “Meituan”؛ “وانج زينج”،بالابتعاد عن الأضواء، عقب نشره قصيدةً عبر إحدىمنصات التواصل الاجتماعي الصينية، والتي تمتفسيرها بأنها انتقاد صريح للحكومة.
تداعيات سياسة الهيمنة
ترتب على سياسات التضييق على شركاتالتكنولوجيا الصينية عدة تداعيات يتمثل أبرزها فيمايلي:
1- تزايد الخسائر الاقتصادية: ساهمت سياساتالتضييق والملاحقة القانونية التي اتّبعتها الحكومةالصينية مؤخراً في خسارة شركة “”Tencentالقابضة حوالي 45% من أعلى قيمة وصلت إليهاخلال يناير من هذا العام. وبدورها، فقدت مجموعة“علي بابا” ما يقرب من نصف قيمتها، مقارنةبذروتها في أكتوبر من العام الماضي. كما فقدتشركة خدمات التوصيل العملاقة “Meituan” أكثرمن نصف قيمتها. وبصورة عامة، خسرت شركاتالتكنولوجيا المتقدمة الصينية في البورصات العالميةما يصل مجموعه إلى حوالي 1.5 تريليون دولار،وهي خسارة غير مسبوقة، لم يشهدها هذا القطاعمن قبل. وقد دفعت هذه التطورات الأخيرة عدداً منرجال الأعمال الأجانب إلى تأجيل بعض المشاريعالتي كان من المقرر أن يدشنوها خلال هذا العامبالشراكة مع شركات التكنولوجيا الصينية، وفيمقدمة هؤلاء رجل الأعمال الياباني؛ “ماسايوشيسون”، المؤسس والمدير التنفيذي لمجموعة“SofBank”.
2- تصاعد اضطرابات المنافسة: على الرغم منالتوقعات والتحليلات السياسية والاقتصادية التيتؤكد اعتزام الحكومة الصينية تطبيق المزيد منالقواعد والقوانين الخانقة على قطاع التكنولوجياالمتقدمة مستقبلاً، فإن البعض يرى أن مثل هذهالإجراءات شديدة الأهمية لكي يستمر نموّ هذاالقطاع الاقتصادي الأهم في استراتيجية الصينلتحقيق الهيمنة الاقتصادية العالمية. فاحتكار بعضكُبرى شركات التكنولوجيا للسوق، وتحقيقها أرباحاًهائلة، وضمها جميع شركات ريادة الأعمالوالشركات الناشئة، وتوفير ملايين القروضللمستهلكين؛ يُضعف أي مجال للمنافسة الحرة فيالسوق الصينية، ويعمل على طمس الشركاتالصغيرة، ويضعف موقف الحكومة الصينية فيمجابهة هذه الشركات ذات رؤوس الأموال التيتُضاهي ميزانيات الدول. وتَدخّل الدولة لحمايةالمنافسة، وفقاً لعدد من الخبراء الاقتصاديين، هو فيصميم النظام الرأسمالي، الذي لا يمكن أن يتقدم أوينمو في ظل هيمنة الممارسات الاحتكارية.
3- تحذيرات من تباطؤ قطاع التكنولوجيا: أكد رجلالأعمال الأمريكي؛ “بيتر ثيل”، والخبير التكنولوجي؛“بين توميسن”، خلال مقابلة أجراها موقع“فوربيس”؛ أن الصين تسعى لتجنب إعادة إنتاجنموذج قطاع التكنولوجيا الأمريكي. فقد تباطأ التقدمالتكنولوجي في الولايات المتحدة، ولم يشهد أي نوعمن النمو على مدى الخمسين عاماً الماضية. ويعودذلك إلى أن معظم العقول التكنولوجية الساطعة لمتعد تأخذ على عاتقها مشاريع صعبة في مجالاتالطاقة والنقل والرعاية الصحية، وبدلاً من ذلك تمتفضيل تطوير الألعاب وإطلاق مواقع على الإنترنتللتجارة الإلكترونية، لأن هذه المشاريع يمكن إنجازهافي وقت قياسي، كما أنها تُحقق أرباحاً ضخمة.
ويضاف إلى ما سبق، سعي هذه الشركات للتوسعالخارجي والداخلي، دون دراسة وتدقيق مسبق، وهوالأمر الذي أوصل قيادة الولايات المتحدة الأمريكيةفي النهاية للهلع، والعمل على إنفاق الكثير منالأموال لإنقاذ صناعة الشرائح الإلكترونية، التي تُعدأحد أهم جوانب التنافس مع الصين. وفيما يبدو فإنالصين قد تعلمت من الدرس الأمريكي، وستعيدتوجيه نمط الاستثمارات والتوسعات في هذهالصناعة، التي سمتها الخطة الخمسية الصينيةالثالثة عشرة بأساس الابتكار، والتحسن في القدرةالتنافسية الدولية لبكين.
وفي الختام؛ يتوقع أن تمضي الحكومة الصينيةقدماً في فرض المزيد من القوانين والقواعد التيستكون بمثابة معوقات أمام شركات التكنولوجياالمتقدمة الصينية لتحقيق المزيد من الأرباح، ولتحقيقالانتشار العالمي الذي تسعى إليه بكل قوة، وهو ماسيُعرّضها للمزيد من الخسائر، وسيُضعف منقيمتها السوقية. وبالرغم من ذلك، فإنه على المدىالطويل ستساهم هذه السياسات في الحفاظ علىالمنافسة والتطور والتقدم في هذه الصناعة شديدةالأهمية، وستحقق الصين أهدافها الساعية إلىاقتناص الريادة العالمية، وبالتالي على الولاياتالمتحدة الانتباه لمثل هذه السياسات، والعمل علىإنفاذ استراتيجية مضادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
نقلا عن موقع الموسوعة الجزائرية للدراساتالسياسية والأستراتيجية
إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية