د. فاضل السوداني
يفتقر المسرح العراقي والعربي عموما للشخصية الشعبية الكاملة الأبعاد التي تدخل ذاكرة ووعي المتفرج بسهولة ويسر لأنه يرى فيها أحلامه الجميلة أو إحباطاته فتصبح جزءا من يومياته، وتومض دائما في حياته. وتاريخ الفنان خليل شوقي الفني والطويل مرتبط بهذا الخزين الشعبي المبدع لخلق الشخصية الشعبية، مما يؤهله ان يكون فناناً للشعب العراقي. وبالرغم من انه يتصرف في حياته وكأنه باشا من باشوات بغداد الخارجة من قصص الأحلام في الزمن الهني، بسدارته الفيصلية أو يشماغه البغدادي فيخطف أبصار الفتيات الجميلات، إلا انه يفوقنا إبداعاً لتشعب إهتماماته وقدراته الفنية، فهو المؤلف والمخرج السينمائي والتلفزيوني، والممثل المسرحي وكاتب السيناريو وصاحب الذاكرة الغنية بتاريخ بغدادي شعبي لا مثيل له، ويميزه هذا بذاكرة غنية بالأساطير والحكايات العراقية الأصيلة مما يجعله متحدثاً لبقاً لكنه حذر، ونديماً فذاً غير مكرور في ليالي الشجون خاصة عندما يغني المقام العراقي، وعندما تتعرف عليه لأول مرة يشعرك بالدفء والحميمية. ان هذه القدرات والميزات هي التي دفعت الفنان خليل شوقي الى ان يكون أحد مؤسسي أهم فرقة عراقية، أعني فرقة المسرح الفني الحديث، وأن يكون واحداً من أهم الفنانين العراقيين والعرب عموما.
تعتبر فرقة المسرح الفني الحديث بيتاً للفنانين الفقراء الرافضين وغير المتكيفين مع جميع الأنظمة، فقد تميزت عن باقي الفرق بكونها مدرسة فنية تضم خيرة الفنانين العراقيين وتعتمد على أهم المناهج الفنية العالمية. لذلك فان السلطة كانت تضع العراقيل المختلفة امام انتاج الفرقة المسرحي مثل: عدم السماح بتأجير مسرح الفرقة الحكومية (عندما يكون غير مشغول)، وان فعلوا إحراجا فانهم يطالبون به من جديد، فتضطر الفرقة الى وقف العرض حتى وإن كان هنالك إقبال جماهيري، كما حدث مع عرض النخلة والجيران، أو التشويش اثناء العروض وعرقلة أداء الممثلين من قبل رجال الامن، كما في مسرحية لوركا بيت برنارد البا، أو قطع النور اثناء العرض مما يضطر الجمهور ان يشاهده على ضوء الشموع والفوانيس، أو القيام بمنع العرض المسرحي كما حدث في عرض مسرحية (الجومة) حيث ارسل الوزير طارق عزيز رجاله حاملين رسالته الى الفرقة (اذا قدمتم هذا العرض فسيأتي الشباب!! ليكسروا المسرح على رؤوسكم). وفرقة مثل مسرح الحديث التي تعتمد في ميزانيتها على تبرعات أعضائها والجمهور وريع العروض المسرحية على عكس الفرق الحكومية المدعومة من الدولة، فإن اعضائها اعتبروا الفرقة بيتهم الاول، قدرهم ووسيلتهم لتحقيق وجودهم الابداعي للتواصل مع الجمهور. وعندما أصبحنا نحن الشباب اعضاءً، باركت الفرقة خطواتنا الفنية كرافد طموح للمساهمة في مستقبل المسرح العراقي.
في ذلك الوقت نزح أكثرنا من مدن اخرى غير بغداد، مدن القصب السومري والبابلي والحضارات القديمة، مدن الاحلام والاساطير والسحر والخرافات، مدن مازالت تعاويذ العرافين في معابدها القديمة توشوش على شواطئها فنصاب بالتوهان. مدن مسكونة بعبق الأهوار وطلع النخيل والبطائح وليالي الشجون ورائحة المسك في مراقدها المقدسة. من هذه المدن نزحنا الى حاضرة كبغداد التي أدهشتنا كثيراً في ذلك الوقت لأننا لم نر غير مدننا الجنوبية آنذاك، ولأن هاجسنا كان دراسة المسرح في معهد واكاديمية الفنون الجميلة. كنا نتهيب احتراما من الاقتراب ليس فقط من فناني الفرقة وانما من جميع الفنانين المبدعين، لذا فانهم كانوا يقترحون صداقة متكافئة من القلب مبنية على الاحترام وبدون كبرياء أو فوقية بالرغم من أن بعضهم يدّرسنا في الاكاديمية. وأول عمل تلفزيوني عرض لي في بداية السبعينيات من القرن الماضي، أخرجه خليل شوقي كان سهرة تلفزيونية تحت عنوان (الأخطبوط) تعالج مشاكل المرأة الاجتماعية في الريف الجنوبي وخاصة القتل لغسل العار. ومن خلال الحس الفني للمخرج ابتكر أسلوباً إخراجياً في زمن البث المباشر، لإستخدام الفلاش باك لكي يستعرض الاحداث الماضية وجدية معالجتها لمثل هذه المشكلة الاجتماعية، إضافة الى مساهمة فنانين مثل قاسم محمد وناهدة الرماح وزينب ومعظم أعضاء الفرقة. ولهذه الامكانيات الفنية جعلها المخرج تمثيلية متميزة في ذلك الوقت، لكنها اثارت حفيظة رئيس الجمهورية احمد حسن البكر فأمر محمد سعيد الصحاف مدير الاذاعة والتلفزيون بمنعها بحجة ان الثورة قضت على جميع المشاكل الاجتماعية في الريف والمدينة!
وعندما ذهبت الى الاذاعة للمساهمة في عمل تلفزيوني جديد لخليل شوقي، كان اسمي في قائمة الممنوعين من العمل، وفي تلك اللحظة دفعوني بمردّي منعني من دخول الاذاعة حتى هذه اللحظة. في مسرحية النخلة والجيران اخراج قاسم محمد، وعلى خشبة المسرح وقفت لأول مرة كطالب في الأكاديمية وكممثل (لشخصية الشقي ابن الحوله) امام الفنان خليل شوقي، عندها شعرت بانه يهيمن على تاريخ طويل من الإبداع الفني. ويتذكر الجمهور تميز خليل شوقي جماهيريا بأدائه شخصية مصطفى الدلال الفاشل، الطيب والأناني والمستميت من اجل أن يكوّن مستقبله من جديد بعد مغامرات فاشلة للغنى المادي المتواضع، وكذلك قدرته المميزة للإقناع (كدور وكفنان) أمام سليمة الخبازة (الفنانة زينب) من اجل أن يستولي على بيتها وعليها هي بالذات كامرأة ورمز للعراقي. وفناننا القدير جعل من شخصية مصطفي الدلال شخصية بغدادية فذة لجوجة ولكن بتعقل وترغيب، وبالرغم من انه رسم ملامح شخصية مصطفى كان واضحا في الرواية، إلا انها لن تتكرر مرة اخرى على المسرح العراقي بهذا الوضوح والحيوية التي أداها الممثل خليل شوقي فاحبها الجمهور العراقي وعطف عليها لشعبيتها وطرافة أدائها على الخشبة. وذات الوضوح يمكن ان نلمسه في شخصية (المطيرجي) في فلم (من المسؤول)، وقد أداها الفنان في بدايات حياته الفنية، ولكنه يجعلك تشعر بان هذا الانسان المنغمر مع طيوره بحب متناه، ليس لدية اية مشكلة اخرى غيرها، ويمكن القول أيضا بان شخصية (دبش) في مسرحية القربان لغائب طعمه فرمان وإخراج فاروق فياض، قد تميزت من خلال تقديم خليل شوقي بحيوية قبحها وجشعها الذي تعكسه تلك الحركات التي تعبر عن داخل الشخصية بإيماءتها الخاصة وإشارتها ذات المدلول الاجتماعي. وكنت ألاحظ التنوع والغنى الذي يضيفه الفنان على هذه الشخصية كل ليلة عرض جديدة. وما زال دور البخيل الذي أداه الفنان خليل شوقي في مسرحية بغداد الازل بين الجد والهزل، في ذاكرة الجمهور لأنه استطاع ان يمنح هذه الشخصية حيويتها التاريخية والمعاصرة بشكل عكس صورة البخيل واختزل من خلالها اخلاقيات البخلاء في التاريخ الاسلامي والعربي. وقد شكل الفنان خليل شوقي في هذا الدور مع الفنان صلاح القصب مشهدا ثنائيا ولوحة متكاملة عن البخل، أضاءت ارشيف وتاريخ المسرح العراقي الذي سُرق منه زمنه الابداعي حتى الان ويمكن وضعها في ارشيف المسرح العالمي.
كثيراً ما نندهش لتنوع قدرات خليل شوقي في شتى المجالات الفنية، لكن هذا سيزول عندما نكتشف بأن الفنان هو واحد من الذين يمتلكون حسا شعبيا عراقيا ووعيا جماليا خاصا من خلاله فقط يتعامل مع فنه ومع الحياة.
أيها الفنان أمجدك كشهاب مازال يضئ سماء مسرحنا العراقي والعربي. ولكن كم كان بودي أن نحرق سوية تلك النذور التي لم نستطع حرقها على سواحل دجلة المقدسة في ليالي الشجون، ليالي المسرح العراقي في زمن بهائه، وليالي فرقة المسرح الفني الحديث. ايها الفنان أمجد فيك تاريخا مازال حيويا، وزمنا لم يستطيعوا سرقة بعضه إلا خلسة وتهيبا.