اشراقات كوردية … (قسمت) ونصيب الكورد الفيليّة في رواية حوراء النداوي

متابعة التآخي

حكى روّاد المقهى الّذي يقع على ناصية الشارع الكبير، المحاذي للنهر، أنّهم رأوا قسمت حين قدمت في تلك الليلة، ماشية على عجالة، وبصحبتها طفلة في الثانية من عمرها، ثمّ خلعت نعليها، ومن ثمّ عباءتها، لتكشف عن بطنها الحامل خلف (دشداشتها البازة)، ما جعل بعض زبائن المقهى ينفضون عنهم آثار السهر لينتبهوا إليها، غير أنّها لم تمهلهم كثيرًا ليستفهموا، فبادرت ببساطة وسرعة إلى إلقاء الرضيع في النهر، ثمّ قبل أن يفيق السهارى من المفاجأة، أو يفكّر أحد منهم في أن يهرع نحوها، كانت قد ألقت بالطفلة، ثمّ بنفسها.

 

 

بعد يومين من الحادثة، أُعلن في بغداد خبر وفاة الملكة عالية، لكنّ أحدًا من أهل الدار أو (النزِل) المستأجرين فيها، لم يكن ليسمع به أو يهتمّ، وهم مشغولون جميعًا في العزاء الّذي استمرّ ثلاثة أيّام طويلة، حيث لم يخلُ البيت من المعزيات اللواتي توافدن من جميع أنحاء الدهّانة وباب الشيخ وشارع الملك غازي، كلّ من سمع بالفاجعة، جاء إمّا مواسيًا أو ليروي فضوله برؤية الأب والأمّ المثكلين بابنتهما والأحفاد.

الجميع لديهم أسئلة فضوليّة يطرحونها بطريقة مطمئنة، وكانت الأجوبة والتعقيبات دائمًا ما تأتي من (قَيَم) أو (شازي) بكلمات قليلة ومتكسّرة، أمّا (فرست) أخت قسمت الصغرى، والّتي أُجّل زفافها للمرّة الثانية، بسبب وفاة عمّها قبل شهور عدّة، ثمّ تلقائيًّا مع انتحار اختها، فكانت تنظر إلى المعزّيأت الفضوليّات بنظرات فارغة، وقد التزمت الصمت.

بهذا المشهد، تبدأ الكاتبة حوراء النداوي روايتها الّتي اختارت (قسمت) عنوانًا لها.

لا ينفكّ شبح قسمت يزور تلك العائلة، وربّما اختارت الكاتبة هذا الاسم عنوانًا لروايتها، لأنّها تريد أن تلوّح بتلك ال (قسمة) الّتي تلاحق الكورد الفيليّة، الّذين لم يروا استقرارًا أو سكينة.

 

تحدّثنا الرواية عن عدّة أسر من الفيليّة في مناطق باب الشيخ في بغداد، وعلاقاتها بأسر أخرى من معارفهم، حيث يظهرون في تلك المناطق والأزقّة كعائلة واحدة، ويبدو جليًّا أنّهم يعاضدون بعضًا، ويزورهم شبح قسمت، ليخاف البعض من الشبح، ويستبشر البعض الآخر بهذا الشبح الّذي أصبح رمزيّة لتلك الأحداث المباغتة الّتي يعيشها الفيليّون، والّتي ربّما تكون مخيفة، أو مبشّرة.

تتوغّل الرواية إلى تاريخ تلك الأسر، الّذي جاءوا من پشت كوه (خلف الجبل) وكيف أنّهم هناك في قراهم قرب المناطق الجبليّة، يجدّون في العمل خلال فصل الصيف في التجارة و الزراعة و الرعي.

 

 

 

مع أحداث الرواية، نلاحظ عودة إلى تاريخ تلك العوائل، الّتي جاءت من پشت کوە (خلف الجبل)، وتخبرنا أنّهم مع فصل الصيف كانوا يبذلون جهدهم في أعمال التجارة والزراعة والرعي، وعند اقتراب الشتاء، يعودون إلى قراهم في الجبال، كما أنّ الرواية تحدّثنا أيضًا عن قوّتهم في إنجاز الأعمال الّتي تتطلّب جهدًا جسديًّا، وكيف أنّ قسمًا منهم كانوا يعملون في جميع الفصول في الأماكن الدافئة ك بغداد.

وتخبرنا عن والد قسمت، الّذي انغمس في حزنه العميق، من أجل ابنته وأحفاده الّذين غيّبهم النهر، والّذي كان يدعى ب ملّا غلام علي، وكان جدّه جهانگیر مسؤولًا ماليًّا لدى والي پشت کوە في لورستان، وكان الوالي حسين قلي خان يجمع قبائل القرلوس وبختياري وكلهر كي يحارب قبائل خرّم آباد، الّذين كانوا ينضوون تحت لواء الأمير محمود.

وقد قُتل الأخ الصغير لجهانگیر في تلك الحرب، ومع فوضى ما بعد الحرب، رحل والد ملّا غلام إلى بغداد، وقد وُلد ملّا غلام في بغداد، واستقرّ أحد عمومته في مدينة الحلّة، ثمّ رحل إلى البصرة، وأنشأ مطحنة، ومع الأيّام، ذاب ذلك العمّ بين العرب هناك.

لم يكن الملّا غلام قد زار پشت کوە سوى مرّة واحدة، وذلك بعد سقوط سلطة الولاة على يد الشاه البهلوي، وقد وقعت لوڕستان تحت سلطة الفرس، وقد أصبح لتلك الدولة اسمها الجديد (إيران).

كان الملّا غلام يشعر بغبطة في زيارته تلك، لأنّه يسكن بغداد، وليس تحت سلطة البهلوي، الّذي كان يجنّد الكورد إجبارًا، ويلاحق وجهاءهم ويسجنهم، لكنّه في ذلك الوقت قد انقسم إلى نصفين، نصف إيراني، و آخر عراقي.

 

 

 

في تفاصيل هذه القضيّة، يظهر جليًّا فيما يصيب الكورد الفيليّة، كما تسرده حوراء النداوي في روايتها، أنّ الكورد الفيليّة منذ ذلك العصر، إلى يومنا هذا، أصابهم التشظّي، فبعد أن كانوا كيانًا واحدًا، ولهجة كورديّة واحدة، وثقافة واحدة، أصبحوا مع كلّ معضلة ومعاناة، تتمزّق أطرافهم، ويصبحون أبعد عن الرتق.

ونجد في الرواية شخصًا يظهر كمجنون، وأحيانًا يبدو حكيمًا، وهو شخصيّة پرگة، يظهر برفقة قطّتين، تلجأ إليه النسوة، عندما يرتعبن من شبح قسمت، ويطرقون بابه، هو يستشير قطّتيه، وكأنّه يفهم من موائهما، ثمّ يضع الحلول.

قبل تسفير الكورد الفيليّة من بغداد والعراق بأسره، بأيّام قليلة، كان پرگة يقتحم بيوت معارفه الكورد الفيليّة، ويتفوّه بكلمات مخيفة، تبثّ فيهم القلق حول مصيرهم.

الهيئة المضطربة ل پرگة، تظهر كعلامة مميّزة في الرواية، حيث تلجأ إليه العوائل الفيليّة، إلى هذا الشخص، الّذي لا يبدو مجنونًا، ولا عاقلًا، لأنّهم دومًا يعيشون في دوّامة اللا مصير.

أحد شخصيات الرواية، وصل إلى مراتب متقدّمة بعد أن عمل عتّالًا في سوق الشورجة، حتّى أصبح يلمّ بالتجارة، ولكونه رجلًا أمينًا وذكيًّا، تدرّج إلى أن أصبح تاجرًا غنيًّا، واشترى لنفسه منزلًا كبيرًا في حيّ جميلة.

وعندما بدأت التسفيرات، كان من أوائل الكورد الفيليّة الّذي استولى النظام على أمواله في المصارف، وكذلك صودر بيته، ورُمي به وأسرته، في تلك البريّة والمرتفعات بين العراق إيران، شريطة أن لا يعودوا إلى العراق.

واستطاعت زوجة ذلك التاجر المسلوب، أن تربط حزمة من المال على بطنها سرًّا، وعندما وصلوا إلى إيران، أسعفت أسرتها بذلك المال، وأصبح زوجها من أصحاب الأعمال مرّة أخرى، لكن هذه المرّة في مدينة إيلام الفيليّة.

أحد أبناء رجل الأعمال ذاك، يحكي معاناته الّتي يعيشها في مدينة إيلام الفيليّة، حيث يسخر البعض من لهجته ولكنته والمفردات العربيّة الّتي تتخلّل لغته، وهم في ذات الوقت، يتناسون أن تلك المفردات الفارسيّة في حديثهم.

حول هذه القضيّة، ربّما أرادت الكاتبة أن تشير إلى تلك النقطة الهامّة، إذ تتعرّض اللهجة الفيليّة إلى الذوبان في تلك القوميّات، الّتي تشتّت بينها مجتمعات ولهجة وتراث الكورد الفيليّة.

حوراء النداوي، مؤلّفة رواية قسمت، من مواليد يغداد عام 1984 من أب عربيّ وأمّ فيليّة، هاجرت أسرتها بعد انتفاضة عام 1991 إلى الدنمارك، وهي ابنة أياد بنيّان المسؤول عن نادي الشرطة الرياضي، وزوجة لاعب المنتخب العراقيّ لكرة القدم نشأت أكرم، وتعيش حاليًّا في لندن.

في حديث مقتضب مع الكاتبة حوراء النداوي، أخبرتنا أنّ أهل والدتها قد تعرّضوا للتسفير إلى إيران، وقد ترعرعت بعيدًا عن العراق، وكلّ ما استقرّ في ذاكرتها ووجدانها عن الكورد الفيليّة، إنّما استقته من أمّها، وقد زارت مدينة إيلام، وحاورت الكورد الفيليّة هناك، والمسفّرين أبّان الحملة من العراق.

 

قد يعجبك ايضا