حسين الاعظمي
عندما نكتب عن الفنانة الكبيرة مائدة نزهت، هذا يعني إننا وصلنا في الكتابة الى قمة كبيرة في فن الغناء النسوي في المقام العراقي، وكما ترتبط اسماء قمم اخرى في الغناء العراقي عامة، في اذهاننا واحاسيسنا، بأسماء فنانين اعلام مثل ناظم الغزالي ومحمد القبانجي، حضيري ابو عزيز، يوسف عمر، داخل حسن، ناصر حكيم، سعيد عكار، وولده جبار عكار… يرتبط اسم الفنانة مائدة نزهت بأذهاننا واحاسيسنا، ولا عجب من ذلك؛ فأن التنوع البيئي في العراق يزيد من غزارة غنائنا وموسيقانا في نبوغ تعابيرنا ورقيها وابداع في الشكل ورهافة في المضمون الغنائي وبحيوية ندر ان نجدها في بلد اخر.
لقد كان لتفاعل المطربات المقاميات في مقاماتهن واغانينهن مع فن غناء المقام العراقي، ان خلفت المرأة لنا فناً وفكراً مقامياً عراقياً مثيراً.. وهو ما فتيء منذ زمن قارب المائة عام مرَّت على التجربة النسوية فيه. وليس من ضعف في شأن الغناء المقامي بصورة عامة، اننا نجهل عنه الكثير، ولكن لا يستقيم لنا عذر ان بقينا على هذا الجهل. لأن فنون الشعوب متقاربة او متفقة في منابعها وافاقها الاساسية لكن تختلف في تعابيرها البيئية الخاصة، وفي الاجمال فان كل الفنون تنبع من ثقافة العقل والقلب، حيث يبقى التراث الفني يؤثر في وجدان الشعوب التي ينتمي إليها ذلك الفن.
لم تكن المهمة هينة ويسيرة للفنانة مائدة نزهت في تجربتها الغنائية المقامية التي بدأتها بوقت متأخر من مسيرتها الفنية واستمرت بها عشر سنوات تقريبا، وهي السنوات العشر الاخيرة في مسيرتها الفنية، حيث اعتزلت الفن تماما عند انتصاف العقد الثمانيني من القرن العشرين وانهت مسيرتها الفنية بها.
قمتُ بتعليمها بعض المقامات التي وصل عددها حوالي عشرة، نتواجد يومياً ضمن الدوام اليومي في فرقة التراث الموسيقي العراقي كموظفين فيها، ونشارك ضمن هذه الفرقة الرسمية في ارقى المهرجانات في العالم وعلى ارقى المسارح العالمية. وقد سجلتْ مائدة نزهت هذه المقامات بصوتها في الاذاعة والتلفزيون في بغداد، وهي المطربة المتمكنة من فنها الادائي بصورة تلفت النظر اليها. ان مسيرة السيدة مائدة نزهت الفنية مسيرة دائبة الصعود وهي سجل موثق لجهودها ومواهبها الفذة في الاداء الغنائي.
من ناحية اخرى، تعتبر الاغاني التي ادتها مائدة نزهت من أفضل ما ادّيَ من غناء فني في (حقبة التجربة) التي كانت من نتائج التغيرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية في العراق. بل من أفضل ما ادي في القرن العشرين في فن الاداء الغنائي. ومع ان مائدة كانت قريبة من جمهور الشباب غير انها سرعان ما ثبّتت نفسها كفنانة في ذهن ومشاعر جمهور واسع على وجه العموم، خاصة من طبقة مثقفي المستقبل الذين لهم صلة قوية بجزئيات الاحداث اللاحقة في الداخل العراقي فلم تكن الحرب العالمية نفسها السبب الوحيد الذي اثر في نتاجات حقبة التجربة وانما تعدى ذلك الى ظروف العراق الوطنية والقومية التي مرت خلال النصف الاول من القرن العشرين ومنها اغتصاب فلسطين عام 1948 من قبل اليهود الصهاينة. كل هذه الظروف ترسخت في ذهن ومشاعر جيل حقبة التجربة وهي الحقبة المحيطة بانتصاف القرن العشرين.
لقد كان هناك مطربون ومطربات اخريات ممن انتجوا اغان جميلة تعبر عن جماليات وفن هذه الحقبة مثل ناظم الغزالي وعفيفة اسكندر وسليمة مراد وصبيحة ابراهيم، ورضا علي واحمد الخليل ولميعة توفيق وفاروق هلال وزهور حسين وعباس جميل وغيرهم الكثير بأغانيهم الجميلة وشهرة بعضهم الطاغية وفي هذا الظرف الفني الذي يعج بالفنانين المشاهير، ظهرت مائدة نزهت فنانة واعدة تتحدى، بعد جيل النصف الاول من القرن العشرين حيث لم يظهر اسم استطاع ان يغطي رقعة تاريخية كبيرة من الغناء العراقي مثل مائدة نزهت،(لقد استطاعت هذه المغنية اللامعة أن تكون محوراً لنشاط كل الملحنين في كامل اللحنية العراقية، ومنذ عام 1954 والى يومنا هذا لم تظهر مطربه عراقية واحده نافست مائدة نزهت في قليل او كثير، ولعل صوتها هو الوحيد بين الاصوات العراقية الذي كان له هذا الحضور وهذا الاقتران بمعايير القيمة والانجاز، بل ان مائدة نزهت ارتبطت بأغنى مرحلة من الغناء العراقي ونعني بها مرحلة – الاغنية البغدادية- فقد توهجت نبراتها الغنائية من تجسيد الكثير من الاعمال الفنية لأوسع دائرة من الملحنين.
ان جيل هذه الحقبة، يود ان يكتشف بنفسه الفزع والسأم اللذين جلبتهما له الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل. اذ كان يود ان يحصل على تعابير غناسيقية تتسم بجماليات وتذوق جديد تصل به الى آفاق جديدة من التفكير والتأمل والتفاؤل.
لقد ظلت هذه الظروف التي مرت بالعراق خلال النصف الاول من القرن العشرين، هي المؤثر الاساسي في كل نتاجات الغناء والموسيقى وجمالياتها الجديدة في حقبة التجربة.
كان المطرب الكبير ناظم الغزالي الرائد الاول الذي اتسمت اغانيه ببناء جديد للأغنية الحديثة العراقية على يد بعض الملحنين الطموحين مثل ناظم نعيم ووديع خوندة واحمد الخليل، حيث اعتبر هذا منحا جديدا ومؤثرا في بناء الاغنية الحديثة في نتاجات المطربة مائدة نزهت من خلال زوجها وديع خوندة وبذلك فقد كان ناظم الغزالي ومن بعده مائدة نزهت رائدين في هذا المنحى في البناء اللحني للأغنية الحديثة وخير معبرين عن هذه الحقبة في التفكير والجمال والذوق. نيابة عن الملحنين وكتاب الاغاني الذين عاصروا هذه الحقبة من تطور موسيقانا.. ففيما يخص الفنانة مائدة نزهت فأن اغنيتها (اصيحن آه والتوبة) منتصف الخمسينات وهي اول الحان الفنان احمد الخليل لها، كانت قد عبرت عن جماليات هذه الحقبة بصورة واضحة الاثر، حتى قدر لهذه المطربة وهذا الملحن ان يشتهرا من خلال هذه الاغنية التي كانت بداية حقيقية لهما معا وبداية طيبة لإبداعات جديدة في خط تطور البناء اللحني الذي كان قد هيأ له وديع خوندة واحمد الخليل وناظم نعيم.. فقد كان الجمهور الذي استقبل هذه الاغنية قد وجد صورة ناطقة لإبداعات هذه الحقبة.. وهكذا فان اغنية (اصيحن اه والتوبة) تضمنت عرضا موحدا متسلسلا لما كان من نتاجات اغاني والحان مائدة نزهت واحمد الخليل قبل ظهور هذه الاغنية .
ان اللغة والتعبير والبناء امور قد وجدت مقدماتها من قبل ظهورها، فمقومات اغاني مطربي الحقبة وفي مقدمتهم ناظم الغزالي ومائدة نزهت في اغنيتها (اصيحن اه والتوبة) « حيث يقول احمد الخليل (من الفنانات الكبيرات في الغناء العراقي مائدة نزهت التي التقيت بها في الاذاعة سنة 1952 وقدمت لها لحن اغنية « اصيحن اه والتوبة « حيث ادخلت فيها ايقاعات خفيفة) ومرتكزات مطربي الحقبة من جهة اخرى تعتبر اثار للظروف العصيبة التي مر بها العراق في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل. فالجماليات الجديدة من نتاجات الاغاني في هذه الحقبة، كلها كانت كافية لان تهيئ للجمهور العراقي الشيء المؤثر حقا في نفوسهم، وكان اثر هذا كله ايضا، ايحاء للانطلاق من جديد نحو حياة نتأملها وازالة للغشاوة التي مرت على الشعب العراقي.
لقد جلب وديع خوندة معه الى بغداد عام 1957 خبرة لرؤية فكريه وجمالية عاشها في قبرص مذيعا في اذاعة الشرق الادنى الناطقة بالعربية. وكان بفطرته ذا رؤية ثاقبة في كل موهبة فنية بما في ذلك موهبته. فمضى يكتشف ما تنطوي عليه تلك الموهبة بالنسبة اليه في جد وانتظام. وبدأ عطاؤه الجديد الى الاجيال الجديدة بالحانة وملاحظاته وادارته لقسم الموسيقى وفسح المجال للقابليات الموهوبة الاخرى لتبدو النتاجات واضحة.
اما الآنسة مائدة نزهت وهي المطربة الجديدة فقد كان حظها اوفر من الجميع في تهذيب اغانيها وهندسة مسيرتها الفنية حيث كان الثامن عشر من اذار عام 1958 موعدا لزواجها بهذا الفنان الموهوب وديع خوندة، وبذلك بدات مائدة نزهت مرحلة جديدة وجدية في هندسة مسريها الفنية. ومن هذا التاريخ ايضا نلاحظ ان نشاط مائدة نزهت الفني قد بدا يستقر بصورة تدريجية. وأصبح اقل من السابق، ولكنه أصبح نتاجا أكثر اتزانا وأفضل رصانة وأحسن تهذيبا. فحفلاتها الخاصة قد انعدمت او شبه ذلك ونشاطها الانتاجي أمسي أكثر دقة وانتظاما.
على كل حال، ومهما يكن من امر، فإننا نستطيع ان نلاحظ ان جميع تجارب الفنانة مائدة نزهت الغنائية كانت آية في ملائمتها لتطور فنها الغنائي، وآية في ملاءمتها لظروف حقبتها.. فالموضوعات التي كانت تطرقها لم تكن خاصة بالمرأة فحسب، وانما هي جزء من متطلبات الحقبة او هي انعكاسات لها، فأغانيها الاولى نحس فيها عمقا لمشاعرها الجياشة، وهي مشاعر طافحة بالحب، حب الحبيب وحب الوطن، خاصة بالحان احمد الخليل مثل أغاني: اصيحن اه والتوبة – يللي تريدون الهوى – فد يوم – اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يااسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – البصرة – همي وهم غيري… وغيرها من اغاني الملحنين الاخرين. مثل الملحن رضا علي في اغاني اسألوا لا تسالوني – ياناري – يكولولي توبي – مر يا اسمر مر – واغنية محبوبي الغايب – والروح محتارة – لناظم نعيم او اغنية – خلهم يكولون – ياحليوة عجايب – لعلاء كامل.. واغاني اخرى – سامبا بغداد – نسمات رومبا – ورد الخدود – وينك – من يدري – قفوا هنا – تاليهة وياك – احبك لا – ام الفستان الاحمر – لوديع خوندة – او اغنية – انا الوطن – لعبد الحليم السيد – وغيرها من الاغاني التي كانت سجلا متسلسلا او تذكيراً بالحاجة للتعبير عن العقد الخمسيني من حقبة التجربة على وجه التحديد. فمن ناحية نلاحظ، هناك اسباب الراحة والمتعة في حياة السيدة مائدة نزهت في هذه المرحلة خاصة بعد زواجها من الفنان الكبير وديع خوندة.. ومن ناحية اخرى.. نلاحظ هناك مجموعة من التجارب الاولى والمتنوعة غير المستقرة التي بدأت تتسم بالانتظام والحكمة بعد استقرارها العائلي. والظاهر ان الفنانة مائدة نزهت لم تكن بعيدة عن اي تحليل صائب، فهي تتمتع بذكاء وقاد وشجاعة في الطرح وطموح وثاب الى الامام فلا استبعد انها وضعت نصب عينيها تجربة اغانيها التي اعقبت سنوات بداياتها او تجاربها الاولى.. ان هذا التناظر الواسع بين الذات والواقع وما يتركه من انطباع في شخصية السيدة مائدة نزهت، هو الذي تخلل عملية خلق نتاجات غنائية رصينة امتدت حتى نهاية مسيرتها الفنية.. ففي كل تجربة من تجاربها الغنائية، تأكيد لصحة هذه التجارب.
ولدت الفنانة مائدة جاسم محمد عزاوي في الكرخ من بغداد عام 1937 وهي واحدة من اربع بنات وولد واحد لامهم وابيهم: حسنية – بدرية – سامية – مائدة وخلف. كان والدها ضابطا في الجيش العراقي فكان يتنقل مع عائلته حسب مكان عمله من منطقة الى اخرى في بغداد. وفي مقتبل عمرها حفظت الاجزاء الاولى من القرآن الكريم عند الملا في (الكتاتيب) ثم دخلت مدرسة الرصافة الابتدائية حيث شاركت لأول مرة في اداء الاناشيد المدرسية منتصف الاربعينات. وبسبب القيود الاجتماعية الصارمة. فقد كانت ترفه عن نفسها وتمارس هوايتها الادائية بمشاركتها الاداءات الدينية مع النساء من الاقارب والمعارف. وبسبب هذه القيود ايضا لم تستطع ان تدرس الموسيقى – وفي عام 1954 اعجب بها منير بشير وخزعل مهدي فشجعاها على التقديم للإذاعة فخضعت للاختبار فنجحت نجاحا باهرا.
لحّن لها ناظم نعيم اول اغنية (الروح محتاره والدمع يجاره) التي كانت تجربتها الاولى، فلم ينتبه اليها جمهور كاف ولكن تجربتها الاخرى مع الملحن احمد الخليل في اغنية (اصيحن آه والتوبة) تعتبر منعطفا جديدا لها رفعها الى مصاف المطربات المعروفات، الامر الذي عمق بداياتها، فقد اشتهرت هذه الاغنية واشتهر معها الملحن احمد الخليل والمطربة الواعدة مائدة نزهت ايضا.
من هنا نستطيع ان نحدد بداية جيدة لمائدة نزهت. اما اغانيها الاخرى التي اعقبتها فقد اثبتت نجاح وعلو كعب هذه المطربة القديرة. وخلال عملها في ستوديوهات الاذاعة فقد شاع بين الموظفين الفنيين اسم مائدة نزهت وفي النهاية أصبح اسماً فنيا اقترن باسمها – مائدة نزهت – بدلا من مائدة جاسم.. وكان ذلك منذ اول اغنية لها مع احمد الخليل – اصيحن آه والتوبة- وكان من شأن نجاح هذه الاغنية ان شجع الملحن القدير احمد الخليل لتلحين اغان اخرى نالت النجاح الباهر مثل – يللي تريدون الهوى – فد يوم اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يا اسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – همي وهم غيري – البصرة. وعن هذه الحقبة يقول عباس جميل في لقاء له بجريدة العراق الصفحة الاخيرة، اجراه فؤاد العبودي – (قمت بتلحين اول اغنية لمائدة نزهت قبل ان تغني للإذاعة هي (جاني من حسن مكتوب) ضمن فلم دكتور حسن ربما كانت طريقها للإذاعة، بعدها غنت من الحاني يا كاتم الاسرار).
لفترة قصيرة ابتعدت فيها مائدة نزهت عن الاذاعة والوسط الفني برمته بسبب بعض المشاكل التي جابهتها من قبل بعض الفنيين والإداريين في اعتراضها لعدم اذاعة اغانيها وكان ذلك عام 1955 وهي لم تزل في بداياتها. واستمرت الحالة حتى عام 1957 بعد ان عاد الفنان وديع خوندة من غربته وعمله في اذاعة الشرق الاوسط الناطقة باللغة العربية في قبرص وبيروت، وهو الفنان الذي أصبح اول رئيس لقسم الموسيقى في الاذاعة عند تأسيسه منتصف الاربعينيات بجهود منه وقرار من مدير الاذاعة زمانذاك المرحوم حسين الرحال.. وعن طريق الملحن احمد الخليل تعرف على مائدة نزهت حيث ذهبا معا الى اهلها لإقناعها واقناعهم بالعودة الى الغناء بعد ان اقتنع الفنان وديع خوندة بصوتها فقد اسمعه احمد الخليل اغنية (اصيحن اه والتوبة) بأستوديو الاذاعة. وفي هذه الزيارة تمت تسوية الامر وعادت مائدة الى الوسط الفني والاذاعة لتواصل نشاطها الغنائي.. لتبدأ مرحلة جديدة من مسيرتها الفنية اتسمت بالنظام والاتزان والرصانة واستمرت هكذا حتى نهاية مسيرتها الفنية، ولتستمع عزيزي القارئ الى بعض اغاني هذه البدايات من الحان احمد الخليل مثل اغنية البصرة التي كتبت كلماتها فتاة دجلة واغنية يللي تريدون الهوى التي كتبها اسماعيل الخطيب واغنية يااسمر التي كتب كلماتها الشاعر عبد المجيد الملا واغنية فد يوم كلمات طالب القيسي. واغنية كالو حلو التي كتبها ابراهيم احمد واغنية اسال كلب اليهواك لناصر التميمي. في هذه الاغاني نلتقي لأول مرة بتعابير غنائية مفرحة مبتسمة طافحة بالحب والتفاؤل. ان هذا التأمل، وهذه التعابير المفرحة المتسمة بالشجن لمطربة في عقد الخمسينات وفي حقبة التجربة يقودنا الى الاعتقاد بأشياء كثيرة. إن مثل هذه الكلمات المغناة وهذه الالحان وهذا الاداء، تجريب وتمرين ادبي وفني لحقبة تطورية تجريبية عند منتصف القرن العشرين وما يحيطه من عقود زمنية. الا ان الامر كان كذلك. فهكذا حكى لنا الواقع المعاش، وهكذا روت الوقائع والاحداث. فهذا ما جرى، فلا يجب مناقشة ماهية الحدث بقدر مناقشة الاسباب والظروف المرافقة ومسألتي التأثير والتأثر، فمائدة نزهت التي تطورت فنيا من الحزن المباشر في التعبير الغنائي الى تعابير شجية مهذبة مبتسمة، في انتقالاتها تُحسِّسْ المستمع بمقدرتها الفائقة للتأرجح بين الفرح تارة لتهز اوتار قيثارة المستمع فيتمايل طربا معها، وبين الترح تارة اخرى تأخذ بيدك مواسية معلّلَة! كانت قادرة على الفرح من الحزن، التي وضعت مائدة نزهت نفسها فيه كنموذج لفناني حقبتها، أي قدرتها تتجسد في تمكنها على الانتقال الانسيابي الهادئ من الفرح الى الحزن وبالعكس دون تحسس مشوب بالتنافر، فهي لم تنتقل من حالة انسانية الى حالة اخرى بقصد استعراض ممجوج، بل ان الظرف شحّذ موهبتها فقدحت وازدهرت عن سلاسة بديعة حباها الله بها.