د. أليس كوراني
كانت سماء العراق على موعد مع نجم ستسطع أنواره في لياليه المظلمة، وكانت الأرض تتهيّأ لاستقبال مولود سيصدح صوته في أرجائها ويشقّ طريقه في أقطارها بثبات ونجاح، ويتتبّع أفياء ظلال العلم والأدب حتى يغدو الشّعر ملاكه، والأدب قرينه ورفيق دربه، في قافلة حياته المنطلقة من ربوع الوطن والمتّجهة شرقاً وغرباً…
في ناحية كرمة بني سعيد، التي تعرف أيضاً بقرية “المؤمنين” في منطقة سوق الشّيوخ التّابعة لمحافظة النّاصريّة جنوب العراق، كان ذلك الموعد بتاريخ الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1927م، وهو تاريخ ميلاد السّيد مصطفى جمال الدّين الذي سيملأ دنيا العرب بقصائد خلّدت ذكراه، وما زال صدى صوته يتردّد بين القلوب والحنايا.
هو مصطفى بن جعفر بن عناية الله بن عبد النّبيّ. أمّا جمال الدّين، فهو لقب اكتسبته العائلة من جدّهم الأعلى السيد محمّد الذي كان يلقّب بـ جمال الدّين لتبحّره بالعلوم الدّينية. وتعدّ عائلة جمال الدّين من العائلات العلميّة الدينيّة المعروفة في العراق لكثرة علمائها وأدباءها.
تدرّجه العلميّ وحياته الأدبيّة
عندما كان طفلاً، التحق السيّد مصطفى جمال الدّين بكتاتيب قريته، ثمّ انتقل إلى مدرسة محلّته حتى الصّف الرّابع الابتدائيّ. وفي عام 1938م انتقل مع أسرته إلى النّجف الأشرف فالتحق بالجامع الهنديّ حيث التقى بالعلماء والأدباء. لكنّ عائلته اضطرت إلى العودة إلى قريتها إثر وعكة صحيّة ألـمّت بجدّه، واستقرّ الرّأي على بقاء السيّد مصطفى في النّجف، وبقاء والدته لرعايته والاهتمام به، وقد ذكرها عالمنا عندما افتتح كتابه الموسوم “البحث النّحويّ عند الأصوليّين”، فكتب في الإهداء: اللَّهُمَّ وَكما كانَتْ عَيناها أَنيسَ طُفولَتي، وَسِراجَ ظُلْمَتي، فَاجْعَلْ ثَوابَ ما بَذَلَتْهُ مِنْ جَهْدٍ أَنيسَ وَحْشَتِها وَسِراجَ قَبْرِها.
وعلى خطّين متوازيين، سارت دراسة السيّد في الحوزات العلميّة في النّجف، فكان الفقه والعلوم الدّينيّة إلى جانب المنطق والنّحو والبلاغة والصّرف، حتّى بزّ أقرانه وبان ذكاؤه ونبوغه باكراً.
وقد تتلمذ على عدد من العلماء في تلك الفترة، وعنهم يقول: «كنت أدرس عند الشّيخ علي زين الدّين شرح الألفيّة وقسما ً من المختصر للتفتزانيّ،ودرست حاشية ملّا عبد الله في المنطق عند الشّيخ محمد رضا العامريّ، والشّرائع عند الشّيخ عبد الكريم شمس الدّين، والمعالم واللّمعة الدّمشقيّة عند المرحوم الشّيخ محمد عليّ الصّندوق. ولكنّي تمحضتُ في أكثر دروسي بعد ذلك على يد الشّيخ محمد أمين زين الدّين فأخذت عنه “الكفاية” والرسائل” وقسماً من “المكاسب” و”شرح منظومة السّبزواريّ” في الفلسفة الإسلاميّة. وقد تنقلّت في حياتي الدّراسيّة على أساتذة كثيرين، ولكنّي لم أجد من هو أجلى بيانا ً وأكثر إيصالا ًمن الشّيخ محمد أمين زين الدّين». ودرس قطر النّدى وبل الصّدى- وهو كتاب نحويّ- وقسم من الألفيّة على يد ابن عمّه السّيّد محسن جمال الدّين. وبعدما أكمل مرحلة السّطوح، انتقل إلى مرحلة البحث الخارج عند آية الله المرجع السّيد أبي القاسم الخوئيّ لأكثر من ستّ سنوات، وكتب تقريرات أستاذه في الفقه والأصول.
للسيّد مصطفى جمال الدين جملة تختصر تكوين نشأته الأدبية، فيقول: «فإذا كنت مدينا ً فيها -أي حياته الأدبيّة- لأحد فلهذين الشّيخين الجليلين: محمد أمين زين الدّين…. وسلمان الخاقاني، فهما اللّذان وضعا اللّبنة الاولى في أساس ظللتُ أبني عليه…»
في مدرسة الخليليّ تسنّى له معاشرة من هم أكبر منه سنّاً وأكثر علماً وثقافة، فأفاد منهم، وشغل نفسه أيّام العطلة بقراءة الصّحف والمجلاّت والكتب الأدبيّة، حتى نضجت قريحته الأدبيّة والشّعريّة، وكان ينظّم الأبيات الشّعرية منذ كان فتى يافعاً، وأخذت ميوله الأدبيّة تظهر، حتّى جمع حوله مجموعة من العلماء الأدباء، أطلق عليها الشّاعر جميل حيدر اسم “أسرة الأدب اليقظ” ومن هؤلاء العلماء: الشّيخ جميل حيدر، والسّيّد محمّد حسين فضل الله والشّيخ محمد الهجريّ. وقد نادت هذه المجموعة بتطوير المناهج الحوزويّة، الذي دعا إليه الشّيخ محمّد رضا المظفّر، وساندته في ذلك. فعن ضرورة تطوير الحوزة الدّينيّة قال السيّد مصطفى جمال الدّين: «فإنّي كنت أحسّ بعمق الاهتزاز الذي تستنبطنه مقرّرات هذه الجامعة الدّينية وجمودها، وعدم أخذها بأسباب التّطوّر المطلوب،لذلك كان شغلي الشّاغل، كشاعر يستطيع أن يوصل فكره للنّاس بأقرب وسيلة، وأكثرها إثارة لحماس الذين يشعرون مثلي بهذا النّقص والجمود،أو الذين هم على استعداد للشّعور به، لذلك حشدت كلّ طاقتي وأنا أشارك بكثيرٍ من حفلاتها العامة، أن أثير هذا الموضوع وبخاصّة في الحفلات التي تعقد لتكريم أحد مراجع الدّين أو تأبينه.
على أنّ مثل هذا الكلام لم يلقَ صدى عند الكثير من العلماء المحافظين، فثارت ثائرتهم فهاجموا السّيّد وطعنوا فيه ولعنوه مستغلّين المقارنة بين النّجف والأزهر ذريعة للحملة على دعوته للتَّجديد.
لكنّ تلك الحملات الشّعواء لم تفت من عضد السّيّد، وظلّ ينادي وأصحابه بالتّجديد، وقد أسفر تحرّكهم الواعي، عن تأسيس كليّة الفقه، وعيّن السيّد مصطفى جمال الدّين معيداً فيها عام 1962م، لتبوّئه المركز الأوّل بين النّاجحين. وفي تلك الفترة كتب في الفقه والأصول، وألّف كتاباً وسمه بـ “الإيقاع في الشّعر العربيّ من البيت إلى التفعيلة“.
وكان يتوّجه إلى الشّباب بقصائد عدّة يحثّهم على التّغيير والتّجديد، من ذلك قصيدة قال فيها:
يا قَوْمُ حَسْبُكُمُ الخُمولَ فَقَدْ مَضى زَمَنٌ بِفِطْرَتِها تَشُبُّ الرُّضَعُ
وَالعَصْرُ عَصْرٌ لا يَشُبُّ وَليدُهُ إِلّا ليعجبه المفِنُّ المُبْدِعُ
عَصْرُ المَدارِسِ عَذْبُها وَأُجاجُها تَبْني العُقولَ بِما يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
لا عَصْرُ كُتّابٍ قُصارى جَهْدِهِ صُحُفٌ مُبارَكَةٌ وَآي ٌ مُمْتَعُ
صونوا مَناهِجَكُمْ تَصونوا دينَكُمْ وَابْنوا العُقولَ يَقُمْ عَلَيْها مَجْمَعُ
فَالدّينُ لَيْسَ يَربه وَيَسوسُهُ شَيْخٌ بِمِحْرابِ الدُّجى يَتَضَرَّعُ.
ونظراً إلى أهميّة الدّراسة الأكاديميّة، فقد التحق السّيّد بجامعة بغداد، ونال في العام 1969م شهادة الماجستير بدرجة جيّد جداً وعنوان رسالته: “القياس حقيقته وحجّيته” وأخرجها كتاباً عام 1972. ثمّ عُين أستاذاً في كلية الآداب بجامعة بغداد، فذاع صيته وأصبح معروفاً على مستوى العراق والعالم العربي.
وأراد السيّد إكمال دراساته العليا، فسجّل اسمه في دار العلوم بالقاهرة للحصول على شهادة الدّكتوراه تحت إشراف الشّيخ أبو زهرة، لكنّ هذا الشّيخ المصريّ وافاه الأجل قبل أن يشرع السيّد بالبحث، ما دفعه إلى الالتحاق بجامعة بغداد مجدّداً فحاز عام 1979م على شهادة الدّكتوراه من قسم اللّغة العربيّة بدرجة ممتاز، وكانت أطروحته بعنوان: “البحثالنّحويّ عند الأصوليين“.
ومع انشغاله بدراسة العلوم الدّينيّة واللّغويّة، فإنه أطلّ على المجدّدين من الشّعراء وشارك في القضايا الشّعرية المعاصرة، فتعرّف إلى شعراء العراق المعاصرين، أمثال السّيّاب ونازك الملائكة والجواهريّ والبياتيّ. ومزج الغزل بالقضايا الوطنيّة والإنسانيّة في شعره، وفيه يقول الشّاعر العراقيّ فالح الحجيّة في كتابه (في الأدب والفن):”إنّ مصطفى جمال الدّين عملاق الشّعر النّجفيّ الحديث“.
تألّق العالم الشّاعر
أخذ السّيّد مصطفى جمال الدّين يشارك في المؤتمرات الأدبيّة التي عقدت في بغداد، فشارك في مهرجان مؤتمر الأدباء الكبير ببغداد عام 1965م، ثمّ في المهرجان نفسه عامي 1967 و1967م، وفي هذا المهرجان الأخير، ألقى قصيدة حول نكسة حزيران فاجأت الحاضرين بقوة سبكها وجزالة ألفاظها، وإلقائه العذب، ومطلعها:
لَمْلِمْ جِراحَكَ وَاعْصِفْ أَيُّهَا الثَّارُ ما بَعْدَ عَارِ حَزِيرَانَ لَنا عَارُ
وعن تلك القصيدة وحضور السيّد قال الشّاعر العراقيّ أحمد الصّافي النّجفيّ للسيّد مصطفى: “أهمّ شيء أنا اعتزّ به، هو حضورك مؤتمر أدباء العرب، ووقوفك بعمامتك هذه لتخبرهم بأنّ الشّعر العربيّ والأدب العربيّ هو للعمائم أوّلا ً”. وما كان من الأديب والرّوائيّ المصريّ أنيس منصور إلاّ أن قال عبارته المعروفة والمشهورة: “لقد خدعنا بمظهره”، فأخذ بعد ذلك شعراء مصر وأدباؤها يكتبون عن السّيد مصطفى جمال الدّين في كتاباتهم أمثال الشّاعر صالح جودت والأديب والشّاعر والصحفيّ عبد الرّحمن الشّرقاويّ وغيرهما، ما جعل السّيد معروفاً في الوسط الأدبيّ المصريّ.
مغادرة الوطن
اضطرّ السّيّد مصطفى جمال الدّين إلى مغادرة وطنه الحبيب عام 1981م إلى الكويت، لقمع الحريّات في العراق وتشدّد النّظام الحاكم فيه. وبعد مدّة سافر إلى لندن، ثمّ عاد إلى الكويت مرة أخرى. فاعتقلته السّلطات الكويتيّة عام 1984م، وكانت الحرب العراقيّة – الإيرانيّة على أشدّها، وأودعته في السّجن لتخوّفها من كلّ معاد للنّظام العراقيّ، أو متعاطف مع إيران، ثمّ قامت بإخراجه، وخيَّرته بين الإقامة في قبرص أو سوريا فاختار الأخيرة.
وكان حنينه إلى وطنه يحرّك القوافي، فيقول بلغة شعريّة صادقة قصيدة يصف فيه الوطن، ومما جاء فيها:
وَيا وَطَنا ًلَوْ أَنَّ الخُلْدَ أَزْرى بِرَوْنَقِهِ لَقُلْتُ لَهُ حَسودُ
أَديمُ ثَراكَ أَرْوَعُ ما نُفَدّي وَنَبْعُ رَواكَ أَنْبَلُ ما نَرودُ
كَأَنَّ حَصاكَ مُمْتَقِعاً قُلوبٌ يُقَلِّبُها عَلى ضَرَمٍ صُدودُ
وَطيبَ نَسيمِكَ السّاجي عِتابٌ يَتَهَدْهَدُهُ عَلى أَمَلٍ وُعودُ
أُحُبِّكَ بَلْ أُحِبُّ خُشوعَ نَفْسي بِبابِكَ حينَ أَحْلُمُ بِيَعودُ
وَأَعْشَقُ فيكَ آهَةَ كُلِّ قَلْبٍ لَهُ بَيْنَ الثَّرى غَزَلٌ فَقيدُ
وفاته
ألمّ بالسّيّد مصطفى جمال الدّين مرض عضال قضى على حياته، فتوفّي في دمشق يوم الأربعاء في الثّالث والعشرين من تشرين الاول من عام 1996م، ودفن في مقبرة السّيّدة زينب عليها السّلام.
أهمّ كتبه
• الانتفاع بالعين المرهونة ـ بحث فقهيّ
• الاستحسان: حقيقته ومعناه.
• الإيقاع في الشّعر العربيّ من البيت إلى التّفعيلة.
• القياس: حقيقته وحجيّته ـ رسالة ماجستير
• البحث النّحويّ عند الأصوليّين ـ رسالة دكتوراه
• ديوان شعر كبير.
• محنة الأهوار والصّمت العربيّ
رحل السّيّد مصطفى جمال الدين تاركاً لنا ذخيرة علميّة وأدبيّة وشعريّة، ما تزال موضع دراسة الباحثين والمؤلفين من شتّى الأقطار العربيّة والإسلاميّة. وما زال نتاجه موضع اهتمام الأدباء والشعراء