علي حسين
في الوقت الذي قرات فيه خبر رحيل المناضلة زكية الزيدي (العمة زكية كما كانت تحب ان يناديها الجميع) شاهدت صورتها وهي تقدم نفسها مرشحة لقائمة اتحاد الشعب.. خبران يحملان من المفارقات والأسى بقدر ما حملت حياة هذه المرأة..
حياة كانت تتجاذب بين القوة المتناهية امام الصعاب وفي مواجهة أعتى الأنظمة الدكتاتورية والرقة حين يأخذك الحديث معها فكأنك تجلس في حضرة عجوز من عجائز الريف ببساطة مفرداتها وبالسخرية المرة التي تختفي تحت الكلمات هكذا كنت أرى العمة زكية وانا أخطو أولى خطواتي باتجاه مسرح بغداد لألتقي ببعض الأصدقاء اولا، وأكمل حواراً انقطع مع (الخال) خليل شوقي، في ذلك المكان الذي أصبح اليوم جزءاً من ماض جميل.
التقيت المرة الأولى مع العمة زكية امرأة لا توحي ملامحها وحركاتها بانها ممثلة وإنها بعد دقائق ستصعد خشبة المسرح لتتقمص شخصية من شخصيات يوسف العاني او غائب طعمة فرمان، في الحالتين مع زكية الإنسانة وزكية الممثلة نجد أنفسنا في حضرة امرأة اختصرت حياتها بكلمتين الشجاعة والبساطة.
المرة الأخيرة التي شاهدت فيها العمة زكية عبر صور أرسلتها إحدى الزميلات من السويد شاهدتها تسير في شوارع لم تالفها غريبة ومغتربة وهي تفتش عن مجتمع دافئ ومكان أليف وزمن سوي يعترف بالإنسان والضحك وحرية اللسان وشقاوة الأصحاب وترف الأمسيات..
في سنواتها الأخيرة تسكعت العمة زكية في شوارع الغربة ولم تكن تعرف لا هي ولا نحن محبوها ان النهاية ستكون في سطور قليلة اختتمت بها حياة امرأة وفنانة رفضت الاستسلام وغرد ت خارج السرب.. في الصور على الفيس بوك وانا اطيل النظر لملامح وجهها المحبب الى النفس اقرا فيه رحلة التعب والمواجهة ممتزجة بأفراح ومسرات الماضي.. تعب في العينين وابتسامة يختلط فيها الحزن والشرود وبساطة ترتفع على التصنع فأغمض عيني وانا أتخيل صوتها ممتزجا بعبارات ريفية عذبة: (عمه الصبر حلو، لا تأيسون).
لكأن الفنانة الكبيرة قد اكتفت بالأحلام وتخففت من عقد المثقفين.. تقول كلمتها بحكمة ولا تكترث بزوبعة الإحكام.. تنظر العمة زكيه الى العالم الذي يحمل برودة المنطق وحرارة القلب.. بين الحزن على حلم تهاوى والاحتجاج الصارخ على ما يكسر الحلم.. فكانت تصر دوما على ان تكون في الموقف الصح وان تقول ما تؤمن به وان تمثل صحيحا وان تكون صورة لفنانة الشعب ومرآة العقل والإرادة تدافع عن المبادئ النقية في معركة الحرية دون ان تكترث لحسابات الربح والخسارة.
تمزج بين الحلم والحياة.. تكون الحياة مصدر الهامها ويكون الحلم صوت المستقبل الواعد. في أيامها الأخيرة حملت زكية خليفة سنواتها التي تعدت الثمانين بعيدا في المنافي ترتجف اليد وتظل الذاكرة شابة تجول في شوارع بغداد تصطاد حكايات العراقيين في الأربعينيات وأحلامهم في الخمسينيات وقلقهم في الستينيات وضياعهم في السبعينيات وبؤسهم في الثمانينيات وتشردهم في التسعينيات ونشم رائحة الجنوب كلما طلعت علينا العمة زكية بقامتها الفارعة من على شاشة التلفزيون ونشم عبقها حين تعترف لصاحب البايسكلجبي (عيني صاحب الحكومة بعد ما تتأمن.. حكومة خرط) ونحس نبضها في ملامح زوجة الفراش المسحوقة التي وجدت في عمل زوجها عند الحكومة امتياز تتباهى به امام نساء المحلة.. في الوقت الذي كانت فيه زكية خليفة الإنسانة في خصام مع معظم الحكومات لأنها اكتشفت منذ البداية عكس رازقية زوجة الفراش بان الحكومات جميعها (خرط في خرط).
تنتمي زكية خليفة الى طائفة من الممثلين الأثيرين على قلب المشاهد.. ممثلة تتمتع بعبقرية لها طعم خاص سرعان ما تترك اثرا في النفس.. حين تشاهدها تشعر وكأنك قرأت كتابا ممتعا.. فعند هذه الفنانة قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة.. فعندما تقف العمة على خشبة المسرح يكون عقلها وقلبها وأعصابها جزءاً من الأداء فتعطي كل ما عندها في البروفة والعرض المسرحي فتراها عندما تبكي على المسرح هي التي تبكي وعندما تضحك هي التي تضحك وعندما تبدع الشخصية لم تكن تتوارى خلفها وإنما تقف بالند منها..
كتب ستانسلافسكي مرة ان على الممثل ان يكون مخرجا لدوره وهو لم يقصد بالطبع ان يضع الممثل مكان المخرج بل اراد التحدث عن أهمية المبادرة عند الممثل وعن رؤيته الواسعة ودرجة مهارته وهكذا كانت زكيه خليفة الممثلة ذكية في معظم أدوارها، ذكية تعرف ماذا تفعل وإنها لا تمثل الدور وحسب بل تقوم بتفسيره والتعبير عن وجهة نظرها تجاه الأشياء والشخصية التي تؤديها ويمكنك مشاهدتها منفردة لوحدها فتستمتع وكأنك تشاهد مسرحية بطلتها ممثلة واحدة ولكن بنفس الوقت تراها تخضع بحكمة وهدوء للعمل المسرحي الكلي.. في المسرح والتلفزيون تتصرف العمة زكية وكأنها شخصية من شخصيات الماضي، خارجة من حضن الأحلام بفوطة بغدادية او عصابة جنوبية وابتسامة محببة إلى النفس فتخطف قلوب وإبصار المتفرجين.
تدور احداث مسرحية النخلة والجيران في إحياء بغداد الفقيرة وزمنها هو زمن الحرب العالمية الثانية وزمن الاحتلال الانكليزي للعراق في هذا الزمن الذي يعصف بالعالم ويبني ملامح عالم جديد تقف شخصيات النخلة والجيران على مسرح قاعة الخلد ببغداد عام 1969 مكسورة تدور في حركة عاجزة.. تتلمس الأشياء ولا تدرك حركتها..
هناك نشاهد زوجة رزوقي الفراش (العمة زكية) تحاول ان تفرج عن إحزانها الدائمة بالتبجح بحياة العز التي يعيشها السيد المدير (الله يسلمه) وبالخدمات التي تقدمها الحكومة (الله يسلمها) لزوجها رزوقي، تعيش من تراكم الالم ولسعة الفقر لكنها تكابر فمادامت الحكومة سالمه فان حياتها ستظل سالمة ايضا.. مخلوقة جديرة بالرثاء محكومة ببيئة تتحرك على مسرح الفقر الكلي وهي تكشف عن فقر في الجسد والفكر والروح حين تقول (المدير الله يسلمه ميكدر يسوي أي شي الا يكلله لرزوقي.. أي عيني ارزوقي احجايته ماشيه يم المدير الله ايسلمه) وقد ذكرت لي العمة زكية وانا اجاذبها الحديث في احدى زوايا مسرح بغداد انها حين وقع عليها الاختيار لتمثيل هذه الشخصية كانت قد قرأت رواية غائب طعمة فرمان وتعرف غائب شخصيا ولكنها أثناء التدريبات راجعت الشخصية من جديد محاولة استيعاب شرح الروائي لتفاصيل الشخصية من اجل إيجاد توازن بين الشخصية في الرواية والإيحاء التمثيلي على المسرح
في مدينة هلامية مثل كل مدن الغربة.. وفي غروب لا يشبه غروب بغداد.. وفي لحظة تتداعى فيها الأمكنة والأزمنة أنهت العمة زكية أغنيتها الحزينة الشبيهة بأغنية ألتم وهي تلقي النظرة الأخيرة الى عالم شرس كله قسوة وأوجاع.. متسائلة أين الوطن.. أين المنفى.. والاهم أين الذين يتذكرون ان هناك فنانة ومناضلة عراقية أصيلة تدعى زكية خليفة…