منارات عراقية … الكاتبة حياة شرارة … بين الرعب البعثي والانتحار

 

محمد حجيري

قبل ربع قرن تقريبًا، وتحديداً في 1 آب/أغسطس 1997 في خضم الحصار الدولي على العراق، والحكم الصَدّامي البعثي الرهيب، وردَ نبأ وفاة الكاتبة والأكاديمية العراقية حياة شرارة (1935 ــ 1997) مع ابنتها مهى، وكثرتْ التكهنات والتخمينات والأقاويل، حول موتها. وفي مقدّمة روايتها “إذا الأيام أغسقت”، حسمتْ بلقيس شرارة، شقيقة الكاتبة سبب وفاتها، بعدما شاع لفترة طويلة أنها تصفية سياسية في زمن حكم نظام صدام. والحال أن بلقيس شرارة كتبتْ في الجزء الأخير من تلك المقدمة “… ولم تعدْ (حياة) ترى بصيصاً من النور أو الأمل. أحسّتْ أنها أمام منعطف الهاوية عندما فقدتْ الحياة مغزاها وهدفها، ولم يبقَ أمامها إلا الهرب والتخلّص منها وإطفاء جذوتها. فقد وصلتْ إلى الخطوة الأخيرة في مفترق الطريق الحاسم، الفاصل بين الحياة والموت، ووجدتْ راحة في إنهاء مسيرة الحياة والتخلّص منها”.

 

 

واختارت المترجمة والروائية والأكاديمية، يوم الأوّل من شهر آب (أغسطس) من ذلك العام، توقيتاً للانتحار مع ابنتها مهى، بينما بقيتْ ابنتها زينب على قيد الحياة، وسافرت لاحقاً إلى أميركا. أما زوجها الطبيب محمد صالح سميسم، فكان قضى في سجون صدّام… كانت حياة شرارة تسعى الى “الانتصار على الألم عن طريق الكتابة وكانت الكتابة آخر خنادقها في مواجهة الموت الذي انتصر عليها أخيراً، بل وأقنعها بالذهاب إليه بقدميها طوعاً”. وبدا كأن حياة في روايتها الأولى قد كتبتْ وصيتها، “إلى عالم يغرق في ظلامه”(1). هذه الوصية التي اشتملتْ على الجزء العملي من سيرتها الشخصية. وهو الجزء المعلن والأخير من حياتها. وتعكس ما تعرّض له الوسط الجامعي والأكاديمي والثقافي من إذلال وإفقار خلال عقدي الثمانينات والتسعينات. لقد ألحق المجتمع المدني بالدولة التسلّطية الشمولية مثلما تم الاستحواذ على السياسة واحتكارها فهي من حق وعلى رغم أنها استبدلت صوتها في الرواية بصوت رجل غير أنها لم تستطع إخفاء لوعتها الشخصية؟ واختارت حياة شرارة إحدى جامعات بغداد مسرحاً لروايتها. فالمكان موبوء بأجهزة الأمن والاستخبارات والمخبرين، والطلاب المرتبطون بهذه الأجهزة الأمنية أو الحزبية يقررون ما يريدون من دون أن يكون للأستاذ أية سلطة ليعامل هؤلاء الطلاب بحسب أدائهم الفعلي، فتعطى الدرجات لهم جزافاً، ويبدون كأنهم أصحاب الفضل.

 

 

وتروي شرارة جزءاً من سيرة حياة أستاذ جامعي بكل تفاصيلها المملّة حتى لكأنها تريد أن تقول للقارئ: “أشعر بالملل الذي عشته”. وتظهر في الرواية كيف كانت تعيش شيئاً من الرعب والخوف، أو تعيش تحت المراقبة والتلصّص: “عليك أن تقرب أذنك من شفاهي لأنني اعتدت أن اتكلم بطريقة غريبة عليك، أن أتكلم همساً كي لا يسمعني أحد… واستبدلت الكلام بصوت اعتيادي، بالوشوشة، لأنني مسكونة بالخوف، لا في عقلي الواعي وحده وإنما في كل حواسي وأوصالي: يداي ترتجفان إذا سمعت صوتي العالي وركبتاي تخوران وعيناي تزوغان وأرنبة أنفي تهتز وأنفاسي تلهث وريقي يجف والدماء تجمد في عروقي، وأصبح ظلاً لا نور فيه لشكل آدمي ظاهرياً، بناء ورقياً واهياً ومهتزاً”(إذا الأيام أغسقت، ص 84). هي اللحظات التي يجد القارئ فيها نفسه يستعيد عالم رواية “1984” لجورج أورويل، والخوف رعب الحياة في ظل دولة “الأخ الأكبر”! تقدم رواية أورويل صورة لمجتمع في حالة حرب وتعبئة دائمة، مجتمع فاسد تتحكم فيه الأيديولوجيا الحزبية، ويلغى فيه العقل، ويجرد فيه الإنسان من كل ما هو إنساني، نتيجة الخوف والقهر والتعذيب… وتقدّم حياة شرارة صورة للخوف عندما ينقلب إلى رعب: “أطل الخوف أمام ناظري في البداية كبرق خاطف يسبي الأبصار ثمّ توارى. غير أنّه لم يَغِب نهائياً، بل ظل يظهر بين آونة وأخرى بدرجات تختلف في قوتها وارتفاعها وعمقها. كان يتّخذ شكل دخان رمادي كثيف يلتف ويتصاعد في دوائر مرئية ثم ينتشر عرضاً وطولاً، ويتسلّل إلى النفوس وينبت في حناياها ويرقد فيها ويترك على نحو مزمن آثارَه الرمادية الكابية”(ص 68). كما وصفتْ في فقرة أخرى الاختلاف بين الخوف الغريزي والرعب. وطالما شغل الرعب الكتاب في ظل الأنظمة الطغيانية أو البطريركية، وعبّر عنه الكاتب العراقي كنعان مكية في “جمهورية الخوف”، والتشيكي فرانز كافكا في عباراته “إنني أغرق بهذا الخوف، غير قادر على مساعدة ذاتي”، و”لكن ما الذي يمكنني أنْ أفعلهُ لو ظلّ ذلك الخوف ينبِض في جسدي بدلاً مِن القلب”. وألكسندر سولجينتسن في “أرخبيل الغولاك”، وقد كتبها عام 1973 ووصف فيها سنوات الرعب في عصر ستالين، معتمداً على الآلاف من التفاصيل والحالات الفردية. وأدى صدور هذا الكتاب إلى حرمانه من جنسيته السوفيتية وطرده من الاتحاد السوفياتي العام 1974…

 

تعاظم الخوف في دواخل شخوص رواية شرارة “لم يكن ذلك الخوف الغريزي الذي يشعر به الحيوان في الغابة.. وإنما خوف يجمد الروح ويشل الأوصال ويميت الكلمات على الشفاه، ويبعث الفزع في العيون، ويظل المرء مسمراً في مكانه، في تلك الزاوية الضيقة التي حصر فيها ولا يتحرّك منها إلا بإرادة غيره”، و”القلق والترقب لا يضعفان الأعصاب وحدها وإنما يبريان الروح وينهكانها ويشوشان الذهن…”، يقول الدكتور نعمان، بطل “إذا الأيام أغسقت”. لكن أن يكون الجوع ولا شيء آخر، هنا تكمن المأساة: “كان الناس يعانون ويتألمون ويستجيرون بالله تعالى لينصرهم وهم يرون أطواقاً فوق أطواق تحيط بهم: الخوف، المرض، الجوع، العوز. ولكن لا شيء يتغير وتظل الأفواه مكممة والقلوب معذبة والنظرات مستاءة والأقدام تسير والأيدي تواصل العمل”(أغسقت، ص92). فكما يقول عيسى في الرواية “فالسكوت هو القبول بالعبودية”.

وحياة شرارة، الناسكة و”الراهبة” واليسارية المعتزلة أو الخارجة من بؤرة التنظيم الحزبي، والمتفرغة للكتابة وصاحبة الكتب البحثية والنقدية عن الأدب الروسي وأدباءه، والمولودة في مدينة النجف العراقية… هي ابنة محمد شرارة “المولود ببنت جبيل في عائلة يتوارث بعض أسرها طلب العلم (الديني) الإمامي”، “لحق بالنجف غداة الحرب العالمية الأولى، طالباً. وكان يومها في الخامسة عشرة”. “درس الفتى المهاجر الى البلدة العراقية “علوم الدين” طوال 15 عاماً توجتها إجازة الاجتهاد”. وفي منتصف العشرينات منح الجنسية العراقية مع “مهاجرين” آخرين مثله”، و”حين بلغ درجة الاجتهاد في الفقه”، لكنه “ترك العمامة وعلمها”(2)، على نحو ما فعل صديقه المفكّر حسين مروة والشاعر الجواهري، و”كانت ذريعة الترك ضعف أود المأمومين وعسرهم. وتبطن الذريعة دواعي كثيرة أخرى مثل رغبة “العالم” في مباشرة حياة شخصية وعائلية ومهنية وعامة بعيدة من رسوم “العلماء” السائرة والمعروفة”. فخرج من سلك المعممين الفقهاء والمدرسين وزاول تعليم العربية وآدابها في مدارس وزارة المعارف العراقية. وتنقل بين مدن العراق، جنوب بغداد وشمالها وببغداد نفسها. وكتب في صحف محلية. ومال الى رأي الإصلاحيين، الى الانخراط في الحياة السياسية الحزبية، “نصيراً للسلم” شيوعياً، إلا في أعقاب عقدين من الزمن (عند انتصاف الخمسينات). وفي الأثناء، استضاف المدرس والأديب في بيته ببغداد، حلقة من الشعراء الشبان، فمضيف الحلقة التي عدت فيمن عدت بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وآخرين.

أما ابنته حياة، فانتسبتْ إلى قسم اللغة الإنكليزية في جامعة بغداد، وتنقلتْ مع أبيها المدرّس في ثانوية الناصرية ورافقته بالسفر الى لبنان، وبعد عودتها أصيبتْ بمرض التيفوئيد لكنها تعافتْ، وبعد انتقال الأب إلى بغداد في منتصف الأربعينيات، أكملتْ حياة دراستها الإعدادية والثانوية، وتعذّر عليها دخول جامعة بغداد لصعوبة الحصول على شهادة حسن السلوك بسبب الانتماء السياسي والعقائدي، فتركتْ بغداد وسافرتْ إلى سوريا ومنها إلى مصر والتحقتْ بقسم اللغة الانكليزية في جامعة القاهرة. ثم اختارتْ السفر إلى موسكو العام 1961، وانتمت بحكم وضعها العائلي والبيئي ونشأتها بوقت مبكر، إلى الحزب الشيوعي العراقي، لكنها تركت التنظيم أيضاً في وقت مبكر في موسكو العام 1961، وتمنت في رسالتها الموجهة الى منظمة الحزب في موسكو أن لا تتعرض لهجوم كما جرى مع الأخرين بشتى النعوت “الذين عزفوا عن التنظيم” وتقول تركت الحزب والى الأبد، لكنها بقيت متمسكة بفكرة اليسار وأهدافه، تقول شقيقتها بلقيس يفتقد الالتزام السياسي الصارم إلى الحل الوسط ولا يقبل التعددية، فحياة الفرد خاضعة للقرارات الحزبية، ولا يمكنه الحياد عنها، بل تبتلع أيديولوجية الحزب الفرد ويصبح آلة مسخرة بتطبيقه لتلك الأيديولوجية. وهذا ما تعرضتْ له حياة عندما كانت عضواً في الحزب الشيوعي، فكانت تُطبق كل ما يمليه عليها الحزب من أوامر. ولم تشعر في يوم من الأيام، بالتناقض بين إرادتها وإرادة الحزب إلا بعد مرور أكثر من عقد ونصف تقريباً، بعدما نضجت فكرياً واعتزلت العمل السياسي. وبعد عودتها إلى العراق العام 1968، كانت تمضي وقتها في الدراسة والمطالعة والكتابة، وعُيّنتْ في كلية الآداب، ثمّ نُقلت الى وزارة الصناعة لأسباب سياسية ثم نُسبت إلى العمل كمترجمة في أحد المشاريع الروسية في الديوانية ثمّ انتقلت للعمل في كلية اللغات في قسم اللغة الروسية، ونشرتْ عدداً من الكتب التي ترجمتها عن الروسية: ديوان الشعر الروسي 1983، مذكرات صياد 1984، رودين من تأليف تورغينيف 1985، الأفكار والأسلوب 1986، مسرحيات بوشكين 1986، عش النبلاء لتورغينيف 1987.

وقاستْ حياة شرارة كثيراً في الجامعة، عندما رفضتْ الانتماء إلى حزب البعث وكانت خرجت من الحزب الشيوعي بهدوء، مما أدى إلى تعرضها إلى مشاكل كثيرة وجمة، ولاحقاً أتُّخذَ قرارٌ بالتخلّص من جميع الأساتذة الذين لا ينتمون للحزب السلطاني الجائر. كانت حياة على رأس اللائحة، عندما نقلت إلى مشروع صناعي في مدينة الديوانية. لكنها أعيدتْ إلى الجامعة بعد فترة قصيرة، حيث لمْ يجدوا أستاذًا يشغل منصبها أو موقعها، وتعرضتْ في الوقت نفسه إلى المراقبة الدائمة من قبل مكتب ضابط أمن الجامعة، فكانت تتحدّث همساً، على ورد على لسان بطل روايتها… كانتْ تدرك بأنها ليست “هدف تلصص الجواسيس الحكوميين المحترفين أينما ذهبت، بل كانت تعرف جيداً أن الصفوف الدراسية التي كانت تلقي بها محاضراتها في الأدب واللغة الروسية إنما كانت ملغومة بالطلاب (الوكلاء) أي من وكلاء الدوائر الأمنية التي تطالب هؤلاء الطلاب بالتقارير المتواترة عن كل أستاذ جامعي، خصوصاً إذا كان الأستاذ المعني ذا سمعة “معارضة”، بحسب ما كتب محمد الدعمي(3). وكان التضييق السياسي والاقتصادي أدى إلى موتها الإرادي في خضم “جمهورية الخوف”، وتصرّ مجموعة من المثقفين العراقيين على أن حياة “أجبرتْ على الموت ولمْ تكنْ مستعدة للانتحار، وليس في حياتها أو أسرتها ما يدعو للانتحار”، وكتب الكاتب العراقي فاضل الجلبي عن حياتها “بعدما فقدتْ تقاعدها وحرمتْ من السفر مع ابنتها بسبب قانون عجيب مناف للشريعة الإسلامية والذي بموجبه لا يجوز لامرأة دون الخامسة والأربعين من العمر أن تسافر من دون رجل محرم عليها شرعاً، أي من دون أب أو أخ أو عم، تلك الشريعة التي تجعل الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد تحريم قرآني مما لا يوجد في قضية سفر الإنسان، ذكراً أم أنثى”(4). وقالت بلقيس شرارة “كنتُ قلقة على حياة، قلقة من رسائلها المتباعدة المتّسمة بطابع الكآبة، كانتْ تتكلّم عن روتين الحياة اليومي، وعن مصاعبها في ظل طاغية سد جميع المنافذ المضيئة في حياة الناس، عن الوقت الذي يتسرّب من بين أصابعها في الطابور الطويل المصطفة به، لكي تحصل على ما يعينها وابنتيها من القوت اليومي. كانتْ حياة تشعر أنها مراقبة في الكلية والدار، إنه شعور مخيف، أبعدته مرات عديدة عنها. لكنها عندما نظرتْ من النافذة إلى حديقة دارها، التقتْ عيناها بعيون اخترقتْ الجدار، فتجمدتْ بمكانها. بمعنى أن انتحارها “ضرب من القتل” على قول المتنبي. فالنظام الصدّامي استطاع أن يحوّل العراق إلى دولة شمولية مستبدة أكثر من أي دولة أخرى ذات نظام استبدادي! بالخوف، والخوف وحده، تمكّن صدام من إخضاع العراق وشعبه لأكثر من ثلاثة عقود! وعلى قاعدة وفلسفة مكيافيللي التي تنص على أنه “من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك”.

 

 

كانت مهى، ابنة حياة، تحسّ بإحساس والدتها نفسه، انتابها الإحباط. عادتْ من المقابلة التي أجريتْ لها عندما قدمتْ على وظيفة، ورُفضتْ بسبب اسم والدتها، وليس على الكفاءة. فقد “أثبتت كفاءتها في امتحان المقابلة، وقُبلت من قِبل مدير الدائرة لكنها رفضتْ من قبل الوزير! ووجدتْ جميع الأبواب موصدة أمامها وبوجهها، فاستغلتْ غياب والدتها وشقيقتها زينب عن البيت لتنفذ خطتها أو بيان احتجاجها الذاتي والطوعي، ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب عليها وفتحت قنينة الغاز، و”انساب رحيق الحياة من بين أطراف بدنها”(5). عادت حياة مع ابنتها زينب إلى البيت، واستنشقت رائحة الغاز، وتوقعت ما كانتْ تفكر فيه هي، فقد “خطرتْ لها فكرة الانتحار والتخلّص من أعباء الحياة من قبل، لكنها فوجئتْ عندما سبقتها ابنتها مهى. كانت مهى ملقاة على أرض الحمام”. وعلى ما تروي بلقيس أبعدتْ حياة فكرة الانتحار التي كانت تراودها لمدة من الزمن، لكن “التخلّص من الحياة ظل يراودها ليلاً، في الكوابيس التي كانت ترزح تحتها”. “أحست حياة بوحدة المكان، بالغربة التي تطوقها وتطوق ابنتيها، كيف لها التخلّص من هذا الطوق الذي أخذ يضغط عليها كطوق موت بطيء. لم تعد ترى ما حولها، حددتْ رؤيتها بين جدران الدار، وفكرت بالتوقف عن الوجود. شعرت أنها تحتضن الموت وتعيشه! لكنها تراجعت عن الفكرة ثانية”. و”عندما شاهدت مهى ممدة في الحمام أمامها، خيّم اليأس بفكيه ولا أمل من أن ينقذها من أظافره التي غرست بعمق تنهش أحشاءها. تدور في دوامة الإعصار الضاغط بفكيه، وأدركت أن كل شيء قد انتهى، ومها ما زالت ممدة أمامها.

دخلتْ الحمام وأوصدت بابه، وغادرت إلى العالم الآخر، “نجت ابنتها زينب من الموت!! لم نعرف أي معلومات موثقة عنها، كل ما نعلمه أنها أصبحتْ وحيدة في هذا العالم، عليها أن تجتث المأساة التي خلفتْ موت والدتها وشقيقتها من أعماقها. قررت زينب ألا تخضع للمصير نفسه الذي خضعت له والدتها. بـ”الرغم من أنه لمْ يكن هنالك أحد ليأخذ بيدها ويقودها إلى شاطئ النجاة، بعيداً عن هوة الموت، إلى واحة التفاؤل والحياة، حتى وصلت شقيقتي مريم بعد أيام قليلة من لندن”…

وقضية انتحار حياة شرارة تتخطى الفعل بذاته، وتكون والوقع في رأس الناس فيه و”تلذّذهم” في السؤال عنه، فبلقيس التي طلب منها زوجها رفعة الجادرجي (المعمار الشهير) أن تكتب نعياً عن الفقيدة حياة. وافقت من دون أن تفكر بما سوف تكتبه، وهي تمر في هذه الحالة العصيبة، تروي “دق جرس التلفون، الأصدقاء يعزوني ويواسوني بهذا المصاب الفريد من نوعه!” والفرادة لأن “الناس لا يقدمون على الانتحار بالرغم من كل ما يمرون به من مصاعب ونكبات”. وتزعم بلقيس أن “الانتحار غريب علينا وعلى ثقافتنا وتقاليدنا”، و”ما هز الناس والأصدقاء أن مثل هذا الحادث يحدث في طبقتنا، الطبقة المتعلّمة، طبقة المثقفين والمفكرين”. ولا ندري إن كان المثقفون طبقة أو ينسبون إلى الطبقة، ونفي الانتحار عن المثقفين هو زعم لا معنى له… ويزيد وقع مصاب الانتحار حين تنتشر الشائعات وتنتقل بين الشفاه! ويتحوّل الخبر كرة ثلج، وتتولى الأسئلة، وتتكرر، و”الأجوبة تعاد”. ولما كانت المجتمعات تتجنب كلمة انتحار، “صدمتهم الصراحة التي فوجئوا بها في الإجابة عن أسئلتهم الكثيرة المتشابهة في مضمونها ومحتواها”، “كانت ظاهرة غريبة على مجتمع مغلق لا ينطق بالحقيقة، إذ إن الانتحار غير وارد في مجتمعنا”. تقول بلقيس “خالفتُ العرف في الصراحة التي لا تواجهها شعوبنا في الشرق الأوسط في مثل هذه الحالات، كما خالفتُ العرف في أسلوب الكتابة عند فقدان عزيز من العائلة”. وظاهرة الانتحار كانتْ نادرة في العراق قبل الإنهيار الإقتصادي والاجتماعي الذي حل فيه إثر الحروب المدمرة التي خاضها النظام، غير أن الانهيار بحسب فاضل الجلبي خلق أوضاعاً اقتصادية واجتماعية جعلت حالات الانتحار أمراً مألوفاً في عراق الفقر والبؤس عندما بدأ اليأس والجوع والحرمان والظلم والخوف ينهش بالناس عموماً، وخصوصاً الطبقة المتوسطة، حيث أصبحوا يرون أطفالهم جياعاً”، وحياة شرارة لم تنتحر للأسباب التي دفعت الآخرين ممن أنهوا حياتهم بسبب اليأس والفقر، فلماذا اختارت هذه الكاتبة الموهوبة الموت وهي في أوج نتاجها الفكري؟ لو كانت حياة تسعى لمجرّد البقاء والعيش كالأخرين ولو بدفع ثمن التنازل عن كرامتها ومعتقداتها لكانت قد فعلت مثل الكثير ممن استمروا في التدريس في الجامعة من طريق الانضمام إلى الحزب الحاكم. ويعتبر أن “انتحار حياة شرارة كان احتجاجاً على هذا الانقلاب الذي “استهدف المثقف العراقي سواء في مستوى معيشته أو في مستواه الإنساني ونتاجه الفكري”، و”الأدهى أن هذا الانقلاب استهدف المثقف بسحق شخصيته وكيانه الثقافي، بحيث أصبح أستاذ الجامعة إنساناً ممسوخاً يصفق مع الآخرين ويردد معهم الشعارات المنافية لفكره ويضطر الى المشاركة في المسيرات والتدريبات العسكرية والمشاركة في جبهات القتال. يفعل ذلك تجنباً لما هو مكروه كالفصل من الوظيفة أو الحرمان من البطاقة التموينية أو خوفاً من أن تسوقه أجهزة الاستخبارات الى المصير المجهول أو الإحالة على التقاعد.

وتخبر بلقيس شرارة أنّها سافرت ورفعة إلى بيروت، ووجدت رسالة شقيقتها حياة الأخيرة بانتظارها، بعد ثلاثة أشهر من موتها! “أمعنتُ النظر فيها، قلبتها بين يدي، قرأتها مرات عديدة، وانقلبت غمغمة الريح إلى صفير، ثم عويل. رسالة من وراء القبر!” وهي تتقمّص الجو الذي كان تعيشه، تسمع أسئلة الأصدقاء، تعيد الجواب، كشريط مسجل، وتحوم نظرات الاستغراب والشك! “تطفو التساؤلات في العيون، تدينني، وكأني أخفي سراً عنهم! لا يودون سماع الحقيقة التي أقولها لهم! وإن كانت زينب موجودة بيننا، فتتجه الأسئلة صوبها، فتجيب عن بعضها وتصمت منفعلة عن البعض الآخر. “زينب تريد أن تنسى المأساة التي حلت بها”(6)، ولكن يتلذّذ الناس بتذكيرها المأساة التي مرت بها وما زالت تعيشها في كل مناسبة! وتسافر بلقيس إلى عمان وقد التقت بالكاتب عطا عبد الوهاب، سلمته مخطوطة رواية “إذا الأيام أغسقت”، قرأها وأعجب بها، وقال لها إنه مستعد لأن يفاتح “دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر” وبعد أن وافقت المؤسسة على طبعها، طلب من بلقيس أن تكتب مقدمة ببضع صفحات عن حياة. بدأت بالكتابة وإذا بالأفكار تتداعى وتسحب بعضها البعض كخرز السبحة. وهكذا خرجت المقدمة للوجود بأكثر من ثمانين صفحة.

صدر الكتاب بعد عام، وحظيت المقدمة بالكثير من الإعجاب، لكن الآراء تناقضت حول الرواية، فقد وجدها البعض “قاتمة كئيبة”، ووجدها البعض الآخر “قصة واقعية عن حياة المؤلفة”، والبعض القليل وجدها نوعاً من الأدب الذي “لم يطرقه العالم العربي”، فهو أدب شبيه بالأدب الروسي “الواقعي”. “أحداثها من صلب الحياة اليومية، وليس هنالك تصعيد روائي لأثاره مشاعر القارئ، استطاعت الكاتبة من خلال ملاحظتها الدقيقة، أن تصوّر الإذلال والإهانات اليومية التي كان يتعرّض لها أساتذة وموظفو الجامعة، بإصغائها ومشاركتها أحاديثهم، أضافتْ إليها من تجربتها عندما شعرت بحصار السلطة لها وأغلقت أبواب النشر أمامها. ولذا عندما سُئِل الأستاذ “أكرم” أحد أبطال الرواية، إن كان يواصل الكتابة؟ “ستدهش إذا قلت لك إنها أصبحت تشبه مياه المستنقع الراكد! ماذا تعني الكتابة إذا أصبحت بلا غاية! أعني إذا لم تستطع أن تنشر ما تكتبه وتوصله إلى الناس! ما قيمتها إذا ظلّت محفوظة في أدراج مكتبك أو على الرف؟ إن كل ما يمكن أن آمله هو أن تنشر نتاجي بعد موتي، إذا حالفها الحظ!” (ص 322).

 

الهوامش والمراجع

(1) “إذا الأيام أغسقت”، حياة شرارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

(2) وضاح شرارة… المستقبل – الاحد 23 آب  2009.

(3) مأساة شرارة، محمد الدعمي، الحقيقة الدولية.

(4) فاضل الجلبي : حياة شرارة الكاتبة المنتحرة في بغداد وروايتها – الشهادة “إذا الايام اغسقت” (ملف/7)… الناقد العراقي

(5) “هكذا مرت الأيام” بلقيس شرارة، دار المدى.

(6) “هكذا مرت الأيام” بلقيس شرارة، دار المدى.

قد يعجبك ايضا