ماجد السامرائي
-1-
في صفحة من مذكراته التي ما تزال مخطوطة، كتب الفنان العراقي الراحل نزار سليم متحدثا عن “التعددية الابداعية” في حياته.. فقال:
“عوالم نفسي متعددة الجوانب يراها البعض غير مستقرة على حال، متضاربة… واراها متكاملة، مشجعة، تعمق في ابعاد التجربة وتلونها فلا تبقيها على رتابة او ضيق. فانا ارسم، واكتب،”اكركت” واقرأ، واستمع للموسيقى، واجمع بين هذا وذاك ولا أفرط باي جانب من هذه الجوانب”.
هذه “التعددية الابداعية” التي يبدو كما هو في هذه السطور شديد الحرص عليها هي السمة التي طبعت جيله هذا الجيل الذي مثل أعنف “ثورة ابداعية” في التاريخ الثقافي الحديث:
– فقد ثار اول ما ثار، على الواقع المتردي الذي كان يسحب وراءه قرونا من التخلف والتحجر والحياة المشلولة الجامدة منذ اول “عصر الغيبوبة” في تاريخنا وحتى آخر ممثلي هذه الحقبة.
– وثار من داخل ثورته هذه على كثير من القيم الفنية والفكرية التي عطلت دور العقل عن الابداع والاضافة وحجمت طاقاته. فكان هذا الجيل هو البداية المؤمنة بالعقل وقواه المطلقة، وبقدرة الذات العربية على العطاء المتجدد.
من هذه البداية ارى ان الحديث ينبغي ان يبدأ..
-2-
قد نغمط “نزار سليم” بعض حقه ان نحن لم نتحدث عنه في إطار جيله.. ويكون الأمر تعسفا منا ان نحن لم نفعل ذلك. فهو فنان من جيل متميز: متميز بما عاش وبالكيفية التي تفاعل بها مع عصره: ثقافة وحياة ودورا. ومتميز بما اعطى ضمن السياق التاريخي لحركة الابداع العربي في العصر الحديث. وهو متميز كذلك بالكيفية التي اعطى بها هذا الذي اعطاه من شعر وقصة ومسرح، ورسم ونحت.. ومن كتابات اخرى.
وإذا كان لنا هنا ان نرتب الوقائع بحسب طبيعتها، وننظر الى المبدعين من خلال ما قدموا قلنا عن هذا الجيل (وهو جيل الريادة في حقل التجديد) انه عاش حياته بأعنف اشكالها واكثرها نهما ورغبة في الاستزادة من العلوم والمعارف والفنون واشدها قسوة في التعامل مع النفس (في واقعها الابداعي) سواء في حالتها الفردية البحتة، ام في وجدانها الجماعي كتيار معبر عن عصر اراد ان يجترح لنفسه فيه مكانا وان يكون مؤثرا من خلال ما ينهض به من مهمة، وما يتخذ فيه من دور واضح واكيد. فأكد وجوده – كجبل – من خلال موهبته التي لم تكن “موهبة اعتيادية” بكل الحسابات.. ومن خلال ما ثقف به هذه الموهبة من عناصر منحتها امكانية التعبير عن نفسها بقدرة وحرية.
ولعل الحدث الفارق في حياة هذا الجيل هو انه بدأ التجديد حين بدأه، من طريقه الصحيح.. فكان برساميه وشعرائه وقصاصيه “جيلا عضويا” سجل وللمرة الاولى في تاريخ هذا العصر انه جيل مبادرة.. ومبادرة قائمة على التصميم وذلك بتحقيق أكبر مشروع ثقافي كانوا هم أنفسهم “التحقيق الفعلي” له، بعد ان افادوا من جميع “المحاولات التمهيدية” التي عرفها سابقوهم. ولا احسب ان بيننا الان من شك في عبقرية هذا الجيل الذي اسميناه عن جدارة واستحقاق “جيل الرواد”. فما قدمه في حقول الابداع التي اقتحمها يقدم براهين كاملة على جدارته واهليته لمثل هذه التسمية.
ومن يتتبع مسار “البدايات الذاتية” لهذا الجيل يجدها بدايات مكتظة بالأحلام.. لكنها احلام من يمتلك “الحقيقة المؤكدة “للمهمة” التي يرشح نفسه لها.
ولم تكن المهمة امام هذا الجيل سهلة او ميسورة. فمن جهة كانت هناك “هيكليات كبيرة” في الحياة الأدبية والابداعية لها ارضيتها التي تقف عليها بثبات، ولها تقاليدها التي تنحدر منها بهيكلياتها هذه وخصوصا في الشعر.
ومن جهة اخرى انها كانت ترمي الى تغيير هذه “الهيكليات” تغييرا جذريا ومرة واحدة لتجعل منها اجتراحا لموقع في حياة لم يكن اجتراح الموقع المتميز والمؤثر فيها بالأمر السهل.. فهي حياة صارمة التقاليد، ومتشبثة بهذه التقاليد.
بهذا الإطار نستطيع القول عن هذا الجيل انه لم يكن يريد اجراء “تعديلات” على تلك “الهيكلية السائدة” بقدر ما كان يثور عليها ثورة جذرية واعية، يطرح من خلالها “بديلا”.. وهذه الثورة بالبديل الذي تطرحه كانت تستدعي “حساسية جديدة” عند جمهور المتلقين – ولم يكن هذا بالأمر السهل هو الاخر.. بل لعله الأمر الاصعب.
-3-
قد تكون ميزة “نزار سليم” الذي عاش في جو ثقافي وابداعي اقل ما يقال فيه انه “ذو تقاليد”، وتقاليد واضحة وصارمة الى حدود ووجد نفسه ضمن محيط عائلي مشبع بمثل هذا الزخم الذي مثل شقيقه الفنان “جواد” الذروة لا بالنسبة للعائلة فحسب بل وبالدرجة الاساس في الحركة الفنية – رسما ونحتا – وفي الحركة الثقافية بوجه عام: رؤية ووجهات نظر.. أقول: قد تكون ميزة “نزار” متمركزة في انه لم ينظر من حوله – سواء في محيطه العائلي ام في المحيط العام – نظرة من يحس القصور في نفسه عن بلوغ ما بلغه سواء فيقلده او يقتفي أثره فنحن لو عدنا نقرأ ما كتب ونتأمل فيما رسم سنجده وقد وضع في كل شيء كتبه او رسمه شيئا منه معبرا به عن واقعه الذاتي وطاقته الابداعية.. عبر فيه عن ذات نفسه وطبعه بخصائصه التي كان دائم السعي الى تأكيدها. ولو لم تكن له سوى هذه الخصيصة لكفى بها وحدها دليلا واضحا على اصالة موهبته الفنية وعلى ثقافته ورؤيته المتميزة التي انعكست في تجاربه الابداعية. وقد كان له من هذا كله الدليل الواضح على الثقة بما كان يقدم ويعطي.
بكلمات اخرى: ان ميلاد هذا الجيل الذي ينتمي اليه نزار سليم هو ميلاد الفكر العربي الحديث وميلاد الابداع في أكثر اشكاله تعبيرا عن حقيقة الذات العربية التي انطلقت بكل ما امتلأت به من صخب وعنف تجترح موقعها الفعلي في الحياة الجديدة بعد ان وعت مسؤوليتها وحددت دورها فيها، فراحت تخلق قوانينها الموضوعية يحدوها الايمان ان باستطاعتها من خلال ما امتلأت به من تطلع ان تشكل “عالمها الجديد” على النحو الذي تريد.
-4-
قد يكون نزار سليم عاش حياته في إطار مثل هذه “الفورة الابداعية” التي مثلت ثورة فعلية في مسار الثقافة العربية دون ان يشكل عن نفسه – كفنان – صورة واضحة في اذهان الاخرين: فنانين ونقاد فن ومتابعين للحركة الفنية. وقد يكون هو في هذا السياق قد قصر تجاه نفسه كثيرا لكن السبب الاساس في هذا ربما يكون متأنيا من انه لم يجابه مصيره الفني بطموح يشده الى افق ما، او يسعى الى ان يشغل حيزا في عصره بقضية جوهرية يثيرها (كما فعل شقيقه جواد مثل في الفن او السياب في الشعر)، انما كان فنانا مسالما يعيش حياته، على مستوييها: الفني والخاص بهدوء بالغ هذا ظل بعيدا عن كل تأثير.
ولعل ادق ما يمكن ان نصف نزار سليم به هو انه كان انسانا بسيطا: كانت حاجاته من الحياة بسيطة وكذلك كانت طموحاته في كل حقل ابداعي دخله.. وكأنه لم يكن يريد ان يثقل حياته بشيء يكون عبثا عليها. ويبدو لي انه دخل حقل الكتابة، كما دخل حقل الرسم من باب “الترويح النفسي” دون حسابات اخرى. لهذا كان كثير الاستغراق مع نفسه، شديد الكسل.. غالبا ما كان يستسلم الى حالات من الاسترخاء الذهني والجسدي.. اما إذا كتب او رسم فان ذلك التجاوز عنده “حالة الاستمتاع” التي يعيشها، ولو للحظات ولم تكن لتجاوز ذلك اي انها لم تكن تشكل عنده “حالة دائمة” مشحونة بتوترات وهموم هي من خصائص حالات المبدعين الذين يكرسون أنفسهم لمثل هذه المهمة الشاقة..
غير ان هذا لا يعني ان الابداع رسما او قصة او مسرحية – كان يمثل شيئا هامشيا في حياة نزار سليم.. انما يعني فيما يعنيه، انه فنان يعيش “حالة خاصة” لعل هناك حيوات اخرى تماثلها.. قد تكون مرهونة بوضع ذاتي – نفسي.. وقد تكون مرهونة بواقع هو بحد ذاته، مأزق للمبدع إذا ما وقع فيه حين يكون هناك تباين واضح بين ما هو “متصور” وبين ما هو “متحقق” فعلا.. بين “الواقع” واجدني اعون هنا لأقول: ان مأزق “نزار سليم” في هذا – اذا كان ثمة مأزق – قد تكون بفعل “واقع عائلي” وضع امامه تراثا ذا مستوى ليس من السهل تجاوزه، او حتى مماثلته من حيث مستواه والبعد الفني والفكري فيه.. هو تراث شقيقه الفنان “جواد سليم” فهو في الوقت الذي كان فيه مصدر فخر له وللعائلة، كان عامل تحد كبير له كفنان ترسم ذات الطريق. ولم يكن هذا بالمأزق الهين بالنسبة لفنان له حساسية “نزار” وثقافته وذوقه النقدي.
لكنه على الرغم من هذا كله كان فنانا.. وفنانا ذا موهبة غير عادية.
-5-
هذه القضية تعيد طرح نفسها في صيغة سؤال:
– هل كان “نزار” محظوظا ام غير محظوظ كون شقيقه الفنان “جواد سليم” قد مثل “العبقرية الفذة” لا في الفن العراقي وحده، بل وفي الفن العربي بوجه عام؟
احسب ان الحالتين متحققتان في حياة نزار سليم الفنية.. فهو محظوظ وغير محظوظ في ان واحد:
– محظوظ لأنه ينتمي الى اسرة منها هذا الفنان (جواد سليم) الذي مثل شيئا كبيرا، ومتميزا في الحياة الفنية في العراق والوطن العربي. وقام بعمل كان يبدو من قبل شبه مستحيل في حياة هذا الفن وفي مسار التطور فيه، فنجح وركز لهذا الفن من الدعائم ما جعل من حياته واعماله “مثلا” ذا قيمة بارزة تمثلت في قدرته الفائقة على تركيز ما كان يدور في ذهنه من افكار وما في نفسه من تطلعات في اعمال فنية هي اليوم من أبرز ما في عصرنا العربي من انجازات فنية.
– وهو غير محظوظ، لان مثل هذه المكانة التي اجترحها اقرب الناس اليه في حياة فنية ينتمي اليها واقعا وزمنا قد واجهته بتحد كبير: فعبقرية “جواد سليم” الفنية لم تتكرر لا في احد من افراد عائلته ولا في الوسط الذي انتمى اليه (وان كانت هناك الى جانبه اسماء وانجازات مهمة اتخذت هي الاخرى طريقها الخاص). ومن هنا لعل “جواد سليم” كان هو التحدي الاكبر الذي واجه “نزار” فيحكم كونه الاقرب اليه والاكثر التصاقا به، فانه كان “العقدة” التي جعلت من “نزار” فنانا منزويا بعض الشيء ومتوزعا في اتجاهات فنية اخرى كان يبحث عن تحقيق لشخصيته يتألف من مجموعة من شعراء وادباء جيله ليصدروا مجلة “الوقت الضائع” محاولين التعبير من خلالها عن أنفسهم كـ “جماعة ” او “حركة” تريد ان يكون لها “وجود” و”وجود متميز” في واقع كان كل شيء فيه يتكامل وينمو بطريقة ذاتية مدهشة. وهو بالإضافة الى هذا وذاك يريد ان يضحك نفسه والأخرين فيدخل عالم “الكاريكاتير” لـ “يكركت” ويدعو الاخرين الى “الكركته”.. وربما كان الدافع الاساس الى هذا ما كان في نفسه من رغبة في ان يجترح لنفسه مكانا في حياة فنية بدأت بتقاليد صارمة وضعها الفنانون أنفسهم لأنفسهم.. بحكم طموحهم الى بناء مجد حقيقي.. وقد عرفوا الطريق الفعلي اليه..
لقد كانت العلاقة الذهنية والروحية بينه وبين “جواد” من القوة والحيوية للحد الذي جعلت منه اسيرا لها. ولعل اهمية “جواد” النفية والافاق التي انفتح عليها وفتحها والامكانات الهائلة التي زخر بها وجوده الفني والتي جعلت منه فنانا له مستواه المؤثر في حياة عصره.. لعل هذا كله بالإضافة الى رباط الاخوة العاطفي بينهما قد اوقع نزارا في دائرة السحر وأسلمه الى حالة من الانبهار بأعمال جواد وفكره بدل ان يتحقق عنده ذلك التفاعل الحي والمتنامي مع عالم جود كما كان الامر مع غير واحد من اعضاء “جماعة بغداد للفن الحديث” التي اسسها “جواد” نفسه وكان “نزار” واحدا من اعضائها.
لقد ظل “نزار سليم” في حدود تقنية فنية لم يتجاوزها كثيرا.. وظلت اسرار اللون والموضوع عنده اسرارا لم تتح لتجربته الشكلية واللونية على السواء، ان تتطور بما يفرد لها، عالما خاصا في الفن العراقي المعاصر. لكنه في الوقت ذاته كان فنانا متمكنا من ادائه.. له رؤيته الفنية.. وكان يتقن الفن في حدود “الصنعة”.
ربما بفعل هذا “التأثير” الاستلابي” او لتقل “الموقف الاستلابي” لم يستطع “نزار” التعبير عن حساسيته الخاصة في الرسم كما عبر عنها في القصة. فهو في الرسم كان “مرتهنا”.. اما في القصة بل وفي كل ألوان التعبير الادبي التي مارسها – فقد كان صوت نفسه. ولكنه في هذا كله سواء في الرسم او في ألوان التعبير الادبي كان كثير الاعتماد على احساسه بالمكان وعلى محاولة تعميق هذا الاحساس في نفس مشاهده او قارئه من خلال التأكيد على “خصائص” و”مفردات” هذا المكان الذي يمثل الاختبار الامثل في حياته الابداعية. فهو فنان اعتمد على حسه المكاني، وعن هذا الحس تفرعت مواقفه وبه ارتبطت مشاعره.
ولعل نزار سليم بهذه “التعددية الابداعية” في حياته اراد ان يستقصي كل امكانات الابداع لديه بوحي من “اجواء ابداعية” عاشها ونما من خلالها وتأثر بمعطياتها – اكثر مما اثر فيها – وهي اجواء شاعت فيها روح المغامرة والبحث عن افاق ورؤى جديدة في الحياة، وحفلت بالتطلع الخلاق الذي بحث عن نفسه في ضرب “من الخصوصية” التي تمثلها من خلال ما هو تراثي دون ان يفقد صلته بما هو انساني.
في هذا البعد الخاص بالشخصية الفنية لنزار سليم تتحدد المعالم الاساسية لأفكار “جماعة بغداد للفن الحديث” التي التفت حول شقيقه “جواد العام 1951 والتي كان “نزار” واحدا من اعضائها.. ومن اعضائها اللصيقين بأفكارها.
-6-
إذا كان شقيقه الفنان الكبير جواد سليم قد عاش حياة البحث عن أكثر المواقف تفردا وثورة في تاريخ الفن العربي المعاصر.. فان “نزارا” كان قد عاش حياته بهدوء وكان هدفه منها كان ينصرف الى التأمل فيها.
وإذا كانت حياة “جواد تميزت بضرب من الوعي الحاد للوضع الانساني في عصره حتى انه عاش حياة مليئة بالهواجس: التفرد والابداع والقلق المصيري.. فأعطى الحياة اهميتها من خلال ما أكد فيها من اعمال وما منحها من رؤيا مضافة.. فان “نزارا” كان في حياته وعمله وكأنه على الهامش من هذا كله.. وكأن تيار “العبث” واللا جدوى والفراغ قد غمره بما ساد من مفاهيمه في اعقاب الحرب العالمية الثانية وهل لنا ان نعد “جماعة الوقت الضائع” (التي تشكلت منه ومن بلند الحيدري وحسين مردان وعدنان رؤوف بالاساس) سوى دلالة على هذه الحالة، وتأكيد لهذا الاحساس؟
الا ان هذا لا يعني ان نزار سليم كان فنانا عبثيا.. انما كانت الحياة عنده تأخذ شكلها الهاديء وصيغتها الاكثر تعبيرا عن “اللا تحدي” او الحيادية”. وهو في موقفه هذا الذي لم يكن موقف صراع كان شجاعا بالنسبة لعصره وما ساده من قيم.. فموقفه هذا يمثل حالة من حالات “التمرد الواعي” على كثير من القيم والمواضعات التي تعارف عليها عصره وخضع لها وقد كان هذا الموقف الذي ظل امينا له حريصا عليه – محاولة منه لتجاوز اوضاع وحالات كان موقفه يمثل رفضا لها، وتمردا عليها.