منارات عراقية … صبيحة الشيخ داود، رائدة الحركة النسوية في العراق

د. ابراهيم خليل العلاف

قد لا اكون مخطئا إذا قلت أن الكثير من أبناء الجيل الجديد لا يعرف إلا القليل عن رائدة النهضة النسائية في العراق. صبيحة الشيخ داود (1914_1975) هذه المرأة التي قامت بدور لا يقل عن الدور الذي أدته هدى شعراوي زعيمة الحركة النسائية في مصر. فمن هي صبيحة الشيخ داود، وما دورها في تاريخ المرأة العراقية، ونضالها من اجل التحرر والتقدم؟

مع نشوب الحرب العالمية الأولى. جاءت ولادتها. وكان المجتمع العراقي منذ مطلع القرن الحالي يموج بتيارات واتجاهات سياسية واجتماعية وفكرية مختلفة. والصراع بين (المجددين) و(المحافظين) على أشده. ولقد اتخذ هذا الصراع وجود متعددة منها قضية (السفور والحجاب) التي شغلت الناس ردحا من الزمن. والتي عاشها الناس وتابعوها على صفحات الجرائد والمجلات. ومع أن دعاة التغيير والتجديد لم يكونوا بالقوة التي كان عليها دعاة المحافظة. إلا أن تيار التغيير استطاع أن يكتسح أمامه كل الصعوبات والعراقيل لان حركة التأريخ كانت مع الذين حرصوا على تبديل صورة مجتمعهم.

 

 

 

 

لقد عاشت صبيحة الشيخ داود وسط هذا الجو الصاخب من الصراع الاجتماعي والفكري بل وكانت إحدى المساهمات في هذا الصراع. تتحدث هذه المرأة عن تلك الأيام فتقول أن المرأة العراقية ناضلت في سبيل أهداف حيوية قد لا يحس بقيمتها الجيل الجديد. كالسفور والحجاب. والتعليم النسوي وأشغال المرأة لوظائف الدولة وغير ذلك. وقد يكون من حق هذا الجيل أن لا يحس بذلك. ولكن عليه للإنصاف ان يتذكر مدى الكفاح المرير الذي خاضته المرأة لتصل إلى ما نراه اليوم في أكثر حقول المعرفة والعيش.

إن صبيحة الشيخ داود تحدد نهوض المرأة الجديدة بعاملي الثورة العراقية 1920، وحركة التعليم. ولا يعني هذا أنها تتجاوز دور المرأة نفسها ومكانتها في الأسرة بكل ذلك، ولكن الذين» يشايعون هذه النهضة الباسقة لا يدهشون لاقترانها بالثورة وارتفاع صيحتها في سبيل حرية الوطن وسيادته، ففي أيام الثورة سارت أول مظاهرة للمرأة، وفيها بدأت أول عملية اكتتاب لغرض وطني، وقدمت أول احتجاج وفي الثورة لم تبال المرأة بكل تضحية».

 

 

ثم تأتي قصة اقتحام المرأة لميدان التعليم النسوي، فتروي صبيحة الشيخ داود ذكرياتها عن مدرسة الإناث التي افتتحت في بغداد يوم 6 كانون الثاني 1920 والتي كانت هي من أولى التلميذات المنتسبات إليها. فقالت إن خبر إنشاء المدرسة خلق ردود فعل متباينة. فقد اهتزت (أوساط) من الفزع والجزع، واعتبرت هذه الدعوة تضليلاً وخروجا بالفتاة عن الطريق السوي.. ولهذه الأسباب كلها كان حظ والدي واضرابه وفيرا من السباب المر والشتم المقذع والتجريح المنكر وشهد منزلنا كما شهدت دور الآخرين من الذين ناصروا الدعوة لتعليم الفتاة الكثير من العنت والإرهاق وفداحة الأحكام»

وبالرغم من ذلك فقد شق تعليم الإناث طريقه آنذاك في بطء ظاهر، وفي وجه مقاومة ضارية.

وعندما مثلت صبيحة الشيخ داود دور الخنساء في مهرجان سوق عكاظ الذي أقامه المعهد العلمي ببغداد في شباط 1922 تبرم بعض «الجامدين والمتزمتين بهذا الموقف وكادت تحدث أزمة وزارية حينما اعترض عبد الرحمن الكيلاني رئيس الوزراء على ظهور صبيحة الشيخ داود (وعمرها آنذاك لم يزد على ثماني سنوات) « سافرة وتخطب على جمل». وتعلق صبيحة الشيخ داود على قصة خطبيها في اول مهرجان في العراق فتقول :» لقد دوى في مهرجان كبير صوت المرأة ممثلاً في صبيحة فكبرت الكلمة.. وكبرت الفكرة.. وتقدمت المرأة تشق طريقها في كل مجال، حتى لتبدو تلك القضية برمتها نكتة من نكات الزمن اليوم»

 

 

 

ثم جاءت مرحلة التعليم العالي، لتخطو صبيحة خطوة ثانية في أول الطريق. فحتى سنة 1936 كان مجرد التفكير في دخول الفتاة إلى معهد عال يعد مغامرة خطيرة تصدمها كثيرة من العثرات والعوائق. ولكن التجربة الأولى تنجح وتدخل أول فتاة التعليم العالي من أبوابه الواسعة، الفتاة الوحيدة بين زهاء 180 طالباً. لقد قالت والدة صبيحة الشيخ داود للطلاب المتجمهرين في باب كلية الحقوق في أحد أيام تشرين الأول-أكتوبر 1936:» اعتقد إنكم ستعاملون أختكم معاملة طيبة فانا اتركها أمانة لديكم واعتقد أنها ستكون عند حسن ظنكم، ولن تتركوها إن شاء الله تندم على هذه التجربة» وكان لهذه الكلمات وقع السحر على الطلاب، ورد بعضهم بكلمات طيبة وحماسية.

شاركت صبيحة في نهضة الصحافة العراقية كذلك، فكتبت مقالات عديدة في بعض الصحف والمجلات التي كانت تصدر منذ بداية العشرينات، ولعل مقالاتها في مجلة «ليلى» التي صدر عددها الأول في 15 تشرين الأول 1923، من أقدم ما كتب، كما أسهمت في إنشاء بعض الجمعيات النسائية فكانت سكرتيرة لجمعية حماية الأطفال التي تشكلت في 12 آذار-مارس 1945 وعضوا في الهيئة الإدارية لجمعية الهلال الأحمر في سنة 1958، وقد اشتركت في بعض المؤتمرات النسائية العربية. ففي المؤتمر النسائي العربي الذي عقد في بغداد بين 5_9 آذار 1952 كانت صوتا مسموعا في الدفاع عن المرأة العربية وجهودها في بناء المجتمع العربي الجديد، ولقد حضرت مؤتمر الاتحاد العربي النسائي في بيروت بين 15_18 أيار-مايو 1949 ممثلة لنسوة العراق.

لقد حرصت صبيحة الشيخ داود على تسجيل أحداث ووقائع نضال المرأة العراقية وذلك في كتابها الذي حمل عنوان» أول طريق إلى النهضة النسوية في العراق» ونشر ببغداد سنة 1958، وذلك رغبة منها في اطلاع الجيل الجديد على «تطورات قضية المرأة الجديدة في العراق» فهي تقول في مقدمة الكتاب» كان لزاما على ان أسجل هذه المرحلة.. ولا شك في أنني كنت اعد مسؤولية إلى حد كبير لو لم اضطلع بهذا العبء بكوني واحد ممن ماشين النهضة، وساهمن في إرساء قواعدها ووصولها، بين أول دفعة من الطالبات، وأول طليعة من المعلمات ثم في أول مرحلة للتعليم المختلط في هذه البلاد…»

وصبيحة الشيخ داود لم تكن من أوائل الطالبات والمربيات حسب، بل كانت أقدم أدبية عراقية معاصرة وأول حقوقية وأول قاضية عربية، وأول من أقامت صالونا أسبوعيا ينتظم فيه أعلام الفكر والأدب والسياسة في العراق. إن قصتها بحق_ ليست إلا صفحة خالدة من صفحات نضال المرأة العراقية المعاصر.

قد يعجبك ايضا