د. زهير غازي زاهد
ان رحيل اللغوي الدكتور خليل ابراهيم العطية صرخة في الوجدان العربي تنبه الى خسارة واحد اخر من ذلك الجيل اللغوي النادر. لقد كان العطية لغويا يظهر عشقه للغة على لسانه في اول لقائك به وكان جادا في عمله وولعه بتحقيق الشعر القديم خاصة. واول ديوان حققه ونشره ديوان “المزرد بن ضرار”
وقد كتب مقدمته العالم الشاعر محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع العلمي العراقي، وشاءت الصدف ان يكون نقلنا الى جامعة البصرة في امر اداري واحد في يوليو (تموز) 1979 وكان معنا في الامر نفسه عبد الحسين مبارك وبدأ عملنا معا في قسم اللغة العربية بكليات الاداب وقد حصل على شهادة الماجستير من جامعة عين شمس 1969، وكان موضوع رسالته كتاب “فعلت وافعلت” لابي حاتم السجستاني، دراسة وتحقيق، وبدأت رحلتنا العلمية وجهادنا في مجال التعليم الجامعي.
لقد كان خليل العطية شغوفا بالمعرفة محبا اشد الحب لتراثه العربي وخصوصا الشعر منه وان بدء حياته العلمية بتحقيق ديوان المزرد ونشره في وقت مبكر دليل لهذا الحب وكان رحمه الله يحمل روح الشاعر ، وقد حاول نظم الشعر في بدايات حياته حين كان طالب علم في الثانوية ودار المعلمين العالية التي تخرج فيها سنة 1960، وعين في دار المعلمين الابتدائية في الكوت ثم معهد المعلمين بعد حصوله على “الماجستير” وبعد ذلك تم نقله الى جامعة البصرة كما ذكرت كان يزاول نظم الشعر هواية فهو لم يكن مستعدا لاحترافه فللشعر طقوسه ولمحترفه خصائص واولى هذه الخصائص التمرد وعدم الخضوع للقيود مهما كانت براقة وحريرية، والمرحوم خليل كان مثقلا بعائلة منذ بداية شبابه فكان ابا يشغله اولاده، والشعر يحتاج الى تفرغ فلا يكون الانشغال الا به دون الانشغال بما يأخذ بل يزهق وقت الشاعر واحلامه، فالعائلة وخصوصا اذا اتسعت والاب الرقيق العطوف مثل خليل العطية تشغله عن الشعر كل الانشغال فيقصر عنه، ولما رأى طريق العلم اقرب الى نفسه واحب سلكه، وكان اندفاعه للتراث الشعري قد املته عليه اجواء تربيته ودراسته.
فالعمل الذي حصل به على شهادة الماجستير كان لغويا وقد سبقته وتلته اعمال في تحقيق دواوين منها: ديوان لقيط بن يعمر الايادي وديوان ليلى الاخيلية وديوان مسكين الدارمي وديوان عمرو بن قيمئة وشعر نهار بن توسعة وغيرها. كل تلك الاعمال لا صلة لها بنيل الشهادة او مصلحة غيرها انما هو حب العمل في هذا المجال العلمي، مجال التحقيق ثم العمل لوجه العلم وخدمة الحقيقة، وكان يقول أعجب لمثقف يضيع ساعة من وقته دون قراءة فكان دؤوبا منقرا باحثا امتلك مكتبة ضخمة من جهده وبجهده. والطابع الذي ميز جهوده وانتاجه هو اللغة والتحقيق اللغوي امام الدكتوراه التي حصل عليها 1973 من الجامعة نفسها فموضوعها معجم “التقفيه في اللغة” للبندنيجي ابي بشر اليمان بن اليمان المتوفي 284 هـ وقد اثار نشر هذا المعجم حفيظة الاستاذ احمد عبد الغفور عطار محقق معجم الصحاح للجوهري المتوفي سنة 400 هـ الذي ذهب الى ان الجوهري مبتكر المنهج الذي اتبعه في ترتيب مواد معجمه على طريق الباب لآخر الكلمة والفصل لأولها ثم يكون ترتيب المداخل داخل الباب الواحد ترتيبا هجائيا وعند نشر الدكتور خليل معجم “التقفية في اللغة” الذي سبق الجوهري بأكثر من قرن من الزمان اعلن ان هذا المنهج الذي اصر العطار على انه ابتكار الجوهري قد سبقه النبدنيجي اليه، والفضل للمتقدم قلت ان الطابع الذي اتصف به المرحوم العطية هو الاتجاه للغة والغوص في قضاياها وكان ذا احساس لغوي مرهف وحافظة تختزن ما يصل اليها ولسان لهج بالعربية يكاد يستعملها لسانا فصيحا في كل مجالات الحياة فلا يخطئه السمع من اول نبرة ينطقها، لذلك كان منسجما مع نفسه في انشغاله بتحقيق الدواوين التي ذكرتها فكلها لشعراء يستشهد بهم اهل اللغة وكلها من الشعر الفصيح غير المحدث ولا المولد وهو مما يحبه اللغويون حد الهيام ويميلون اليه لفصاحته.
كنا في اداب البصرة نتبارى في مجال البحث وموضوعاته وكان معنا الدكتور صاحب ابو جناح الذي شغله النحو وشواهده حتى في منامنه، نتبارى في العمل الذي تختاره وكنت منذ اواسط السبعينيات منشغلا بلغة الشعر وقراءة ما يقع في يدي من الدراسات الحديثة في هذا المجال وما ان اشتغلت في بحث “لغة الشعر عند المعري) و(ابو الطيب وظواهر التمرد في شعره) وفي البحث النحوي عند العرب حتى اخرج المرحوم خليل كتابه “في البحث الصوتي عند العرب” ثم اعقبه بكتاب “التركيب اللغوي عند السياب” وكذا نشر الدكتور صاحب بحثين احدهما عن المتنبي والاخر في اللغة في رسالة الغفران للمعري، وقد اشتركت معه سنة 1983 قبل سفره الى الجزائر للتدريس هناك بتحقيق كتاب “العنوان في القراءات السبع” لابي طاهر الانصاري من علماء القرن الخامس وكانت نسختا المخطوطة لديه فكان على سعة علمها يتصف بتواضع العلماء وايثار الزهاد.
واشهد ان نشاط الدكتور خليل كان حافزا لمن يصحبه من الاصدقاء ذوي الميول العلمية اذ كان يميل الى الابداع والجديد لكنه مثل كل لغوي تجد روح المحافظة غالبة على بحوثه على الرغم من اندفاعه للجديد والحداثة، الا انه الحداثة المرتكزة على اساس متين من المعرفة واستيعاب التراث استيعابا واعيا. فكتابه (في البحث الصوتي عن العرب) كان قد درس الاصوات العربية مخارجها وصفاتها العامة من جهر وهمس وشدة ورخاوة والاصوات الصامتة واصوات اللين ثم ذكر الصفات الخاصة من ذلاقة واصمات واطباق وتفش واستفلاء واستغال وصغير وقلقلة.. وكذا درس النير والتنغيم وظواهر صوتية يحدثها قانون المماثلة كالإدغام وما الى ذلك من بحوث.
وكتابه الاخر “في التركيب اللغوي عند السياب” كان بحثا في استعمال السياب للغة وطرق استمعالاته ومعجمه الشعري وما استطاع من الابداع في صوره وتعبيره ثم ما تسرب الى اسلوب السياب في شعره من الاساليب الدارجة وتراكيبها وتعيينه المعاني والعبارات والنصوص التي ضمنها السياب في شعره منه او ما تسلل الى استعمالاته من لغة الترجمة واساليبها، فكان اسلوب الدكتور خليل يشبع فيه الظرف وخفة الروح ثم تمكنه من اللغة وسعة معرفته فصيحها من غيره كان واضحا في كتابه هذا وكتاباته الاخرى.
وكانت له عناية واسعة بالدرس الصوتي والمعجمي عند العرب عامة وفي اللهجات العربية ايضا. فكان كثير التشجيع لطلبته لاقتحام هذا المجال على حين لم يكن في جامعة بغداد من يقتحمه لأنه يحتاج الى سعة معرفة وتتبع لمباحث علم اللغة الحديث وتطوره السريع كما يحتاج الى وعي واطلاع عميقين في مجال الدرس اللغوي التراثي. فكان المرحوم خليل يتصف بهاتين الصفتين، فاطلاعه ومعرفته التراثية تتضح في بحوثه واعماله في التحقيق كما كان شديد الدأب في الاطلاع على الجديد من مباحث علم اللغة وما وصلت اليه نظرياته الحديثة.
كان يحفظ اهم مصطلحات علم اللغة ثم كان كثير الحوار لمتخصصين في قسم اللغة الانجليزية في كلية الاداب ممن كانوا معنيين بالبحث اللغوي وتتبع الجديد فيه مثل الدكتور مرتضى جواد باقر مترجم بعض اعمال تشومسكي والاستاذ مجيد الماشطة مترجم بعض اعمال (بالمر) في علم الدلالة وغيرهما، ثم صلته الوثيقة بالدكتور رمضان عبد التواب استاذه وزميله الذي كان شديد الاعتزاز به اذ كان يفتخر بتلامذته الاساتذة والدكتور خليل على رأس قائمتهم ان لم يكن الوحيد فيهم.
كان الدكتور خليل يميل في بحوثه الى الجديد الطريف كما قلت، من ذلك خوضه في الدرس الصوتي عند الكوفيين اذ ظل ينقر في الكتب ويجمع المعلومات في هذ الموضوع حتى استوى عنده كتاب في ذلك جعل عنوانه “الدرس الصوتي عند اهل الكوفة وهو موضوع بديع لم يتطرق اليه باحث الا لماما لندرة ما لدى الكوفيين في هذا المجال من البحوث او المباحث بين ايدينا. فقد كان شديد الاعجاب بمنهج الكوفيين اللغوي ولكن ليس بين ايدينا كتاب لهم يتضمن اراءهم واقوالهم في هذا المجال كالكتاب المعزو الى سيبوبة للبصريين. ونحن لا نفترض الخلاف في كل شيء مع مباحث الصوت الخليلية ثم البصرية انما كانت لهم مواقف ونظرات في مجال الظواهر الصوتية ثم في مجال المصطلح الى جانب ارائهم في الدرس النحوي مبثوثة في “معاني القرآن للقراء ثم في المصادر والمظان استطاع الدكتور خليل ان يجمعها بدأب وصبر فيؤلف منها كتابا يلقي الضوء على هذا المجال من البحث اللغوي لدى الكوفيين.
وكان ذا شخصية علمية مؤثرة فيمن يتصل بهم من اصدقائه وزملائه وطلبته، ومن اثار شخصيته العلمية في اكبر ظني دفعه طلبته للاهتمام بالبحوث اللغوية ثم تأثيره في اخيه الدكتور جليل العطية ودفعه للاهتمام بالتراث ومشاركته في تحقيق ونشر جملة اعمال مهمة، وقد تشاركا في تحقيق عدد من دواوين الشعر ونشرها وزاد اهتمامه التراثي الى ان ضمت مكتبته العامرة اهم مصادر التراث، وقد حقق عدة كتب نادرة ونشرها مع انشغاله بتخصصه في مجال الصحافة وتاريخها اضافة الى قضايا التاريخ الحديث والكتابة عن شخصيات العراق العلمية والادبية والاجتماعية، فكما لمع المرحوم الدكتور خليل في البحث اللغوي وتحقيق النصوص لمع الدكتور جليل في الادب الصحافي مع تحقيق النصوص ايضا فهما يلتقيان في تحقيق التراث ويفترقان بالبحث في مجال تخصصهما الدقيق.