كوردستان المزوري
في إقليم تتوسطه الجغرافية وتحاصره التناقضات، وفي وقت تتساقط فيه أوراق الاتزان من عواصم الشرق الأوسط، يبقى الرئيس نيجيرفان بارزاني حالة نادرة من القيادة السياسية التي توازن بين الواقعية، والتهدئة، وحماية المصالح دون التفريط بالثوابت، في الشرق الأوسط، حين يشتعل صراع ما، لا يبقى مكان للحياد. الكل مطالب بأن يختار محوراً، أو أن يُتَّهَم بالضعف، أو الخيانة، أو حتى التواطؤ. لكن، في هذا المشهد المحموم، يبرز صوتٌ مختلف، لا يصرخ، لا يهدد، ولا يزايد… صوت الرئيس نيجيرفان بارزاني.
الهجوم الإسرائيلي على إيران، وما تلاه من ردود وتهديدات، شكّل لحظة مفصلية في تاريخ النزاع الإقليمي، حيث بات الخطر حقيقيا بانزلاق المنطقة نحو حرب شاملة. في تلك اللحظة، لم يكن صوت أربيل مرتفعا، لكنه كان حاضراً .
الرئيس نيجيرفان بارزاني، الذي بنى خلال السنوات الماضية شبكة علاقات معقدة وهادئة مع كلٍّ من طهران، أنقرة، واشنطن، وأوروبا، بات يلعب دور الوسيط الصامت. رجلٌ يعرف متى يتكلم، لكنه لا يتوقف عن العمل خلف الكواليس. تشير معطيات عدة إلى أنه تحرك في الأسابيع الماضية لتقريب وجهات النظر، أو على الأقل لتهدئة الأجواء ومنع انتقال الصراع إلى الأرض العراقية، لاسيما إلى إقليم كوردستان.
من يتابع طريقة تفكير الرئيس نيجيرفان بارزاني يدرك أنه يتحرك ضمن معادلة شديدة التعقيد: فهو من جهة يسعى للحفاظ على علاقة مستقرة مع إيران نظراً لحساسية الجغرافية والاقتصاد، ومن جهة أخرى، يدير علاقات وثيقة مع واشنطن والعواصم الغربية، دون أن يغلق الأبواب أمام أحد.
لكن خلف هذه التوازنات هناك ثابت واحد لا يتغير: مصلحة كوردستان. فالرجل يدرك أن الانزلاق في أي محور يعني نهاية الاستقرار الهش الذي تم بناؤه بجهود جبّارة، وأن استدراج الإقليم إلى ساحة معركة يعني ضرب كل مكتسبات الكورد السياسية والاقتصادية.
لهذا السبب، لا يتحرك نيجيرفان بارزاني من باب “الحياد السلبي”، بل من منطلق “الدبلوماسية الوقائية” التي تهدف لتقليل التوتر، وحماية الداخل الكوردي من أي ارتدادات.
من يراقب السياسة الكوردية منذ سنوات يعرف أن الرئيس نيجيرفان بارزاني نجح في تحقيق توازن نادر: علاقة عمل مع إيران دون خضوع، تواصل غير عدائي مع إسرائيل دون استفزاز، وشراكة ستراتيجية مع الغرب دون الارتهان. هذه الصيغة المعقدة ليست سهلة، لكنها ما تجعل من أربيل في كثير من الأوقات العاصمة الوحيدة القادرة على فتح قنوات لا يجرؤ الآخرون على حتى التفكير بها.
في زمن تتسابق فيه الأطراف نحو التصعيد، يحتاج الشرق الأوسط إلى قادة من طراز خاص، قادة يفهمون أن كلفة الحرب ليست فقط في عدد الضحايا، بل في ما تخسره الشعوب من أمن وأمل واستقرار.
الرئيس نيجيرفان بارزاني ليس من الذين يبحثون عن الأضواء، لكنه من القلائل الذين يستحقونها. رجل التوازنات في زمن الانفجارات، الذي اختار طريقًا أصعب، لكنه أكثر نُبلاً وضرورة.
ربما لا تحمل كوردستان طائرات ولا ترسانات، لكن فيها صوتاً عاقلاً يجب أن يُسمَع. وفي زمن الفوضى، نحتاج إلى من يطفئ النار لا إلى من يزيدها حطبا. وربما لهذا بالضبط، يبقى الرئيس نيجيرفان بارزاني لاعباً لا يمكن تجاهله.