دولة الرفاهية الاجتماعية و سبل الوصول إليها

 

 

إعداد ـ التآخي

من المعلوم أن البشر يسعون دوما إلى بناء حياتهم بما يليق بها من استقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي، وضمن هذا الإطار يبحثون عن افضل الطرق لتحقيق هذه الأهداف والوصول الى النظام والدولة الأمثل لطموحات السكان؛  فبرزت عدة مصطلحات متعلقة بذلك ومنها “دولة الرفاهية الاجتماعية”.

دولة الرفاهية الاجتماعية (Welfare State) هي انموذج حكومي يهدف إلى توفير الضمان الاجتماعي والاقتصادي للسكان بوساطة سياسات عامة تشمل الرعاية الصحية، التعليم، التأمين ضد البطالة، والمعاشات التقاعدية، فضلا عن خدمات أخرى تهدف إلى تحسين جودة الحياة وتقليل الفقر وعدم المساواة. 

 أهم مبادئ دولة الرفاهية الاجتماعية،  التعليم المجاني أو المدعوم: ضمان حصول جميع المواطنين على تعليم جيد من دون عوائق مالية، وكذلك  الرعاية الصحية الشاملة: توفير خدمات طبية للجميع، إما مجانا أو بأسعار رمزية، و الحماية الاجتماعية: مثل إعانات البطالة، الإسكان الاجتماعي، ودعم الأسر ذات الدخل المحدود،  وتوفر الدولة معاشات تقاعدية كافية؛ لضمان حياة كريمة للمسنين بعد التقاعد، و فرص عمل عن طريق سياسات اقتصادية تدعم التشغيل الكامل.

 

 إيجابيات دولة الرفاهية الاجتماعية

 

تقلل دولة الرفاهية الفقر وعدم المساواة عبر إعادة توزيع الثروة، ويحدث فيها تحسين الصحة العامة بسبب الرعاية الطبية المتاحة للجميع.  زيادة الإنتاجية نتيجة لقوة عاملة متعلمة وصحية. الاستقرار الاجتماعي بتقليل الاحتقان الطبقي والاضطرابات. جودة حياة أعلى بسبب توفر الخدمات الأساسية. 

 سلبيات محتملة: ارتفاع الضرائب لتمويل هذه الخدمات.  بيروقراطية كبيرة قد تُبطئ الخدمات. اعتماد بعض الأفراد على المساعدات بدل السعي للعمل. 

 

 

ومن أمثلة الدول التي تطبق نظام الرفاهية الاجتماعية، السويد، التي يتضمن نظامها لدولة الرفاهية تعليم مجاني، رعاية صحية شاملة، إجازات ولادة وأمومة سخية؛ و النرويج – نظام تقاعد قوي، دعم بطالة مرتفع، استثمارات في البنية التحتية الاجتماعية. 

 الدنمارك – “انموذج المرونة والأمان” Flexicurity يجمع بين حماية العمال وحرية سوق العمل. فنلندا، تعليم مجاني متميز، دعم للأمهات والأطفال.  ألمانيا، نظام تأمين صحي شامل، إعانات بطالة سخية. 

هذه الدول تُظهر كيف يمكن لدولة الرفاهية أن تعزز رفاه المواطن مع الحفاظ على النمو الاقتصادي، برغم أن التطبيق يختلف حسب الثقافة والسياسات المحلية.

 

 تخلف بلدان الشرق عن تحقيق الرفاهية

 

تعجز كثير من الدول، بخاصة في العالم العربي والشرق الأوسط، عن تحقيق دولة الرفاهية الاجتماعية بالكامل لأسباب متشابكة تشمل السياسة، الاقتصاد، الثقافة، والتاريخ؛ والعوامل تتعلق بالسياسة والحوكمة، وترتبط بالفساد والمحسوبية و توجيه الموارد العامة لصالح النخب بدلا من الاستثمار في الخدمات الاجتماعية، وكذلك الاستبداد وعدم الشفافية: أنظمة غير ديمقراطية تُضعف المساءلة وتقلل أولوية حقوق المواطن.

وكذلك من الاسباب الصراعات والحروب: كما في سوريا، اليمن، ليبيا، والعراق، اذ يجري توجيه الميزانيات نحو الأمن والجيش بدلا من الرفاه الاجتماعي. – ضعف المؤسسات: أنظمة بيروقراطية غير كفؤة تعوق تنفيذ السياسات الاجتماعية الفعالة.

 

وهناك اسباب اقتصادية تتضمن، الاعتماد على الاقتصاد الريعي (مثل النفط والغاز):  يؤدي إلى تقلبات في الإيرادات مع تغير أسعار النفط، وذلك يقلل الحافز لتنويع الاقتصاد وبناء صناعات محلية مُنتجة، من الأمثلة: السعودية، العراق، الجزائر تعتمد هذه البلدان بشكل كبير على النفط من دون استثمار كافٍ في القطاعات الاجتماعية. 

وكذلك من اسباب التخلف ارتفاع معدلات البطالة (بخاصة بين الشباب) بسبب اقتصادات غير متنوعة وضعيفة، كما ان الدين العام المرتفع (مثل لبنان ومصر)  يحد من الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.

 

و تتواجد أسباب اجتماعية وثقافية لتواصل التخلف متمثلة بالنمو السكاني السريع: زيادة الطلب على الخدمات (مثل التعليم والصحة) تفوق قدرة الحكومات على التمويل؛ التركيبة القبلية والطائفية: في بعض الدول (مثل العراق ولبنان)، تُوزع الموارد بحسب الانتماءات الطائفية وليست الكفاءة أو العدالة، و كذلك ثقافة الاعتماد على الدولة: في بعض المجتمعات، هناك توقع بأن توفر الحكومة كل شيء من دون مشاركة مجتمعية فعالة.

كما يبرز ضعف العدالة الضريبية كسبب مهم اذ ان هناك تهربا ضريبيا واسعا من قبل الأثرياء والشركات الكبرى، فضلا عن تواجد أنظمة ضريبية غير عادلة: اذ يدفع الفقراء والطبقة الوسطى النسبة الأكبر من الضرائب، وتغيب الضرائب التصاعدية (التي تزيد مع ارتفاع الدخل) كما في دول الرفاه الأوروبية.

 كما تعاني دول التخلف عن تحقيق الرفاهية الاجتماعية من ضعف التخطيط الاستراتيجي بغياب رؤية طويلة المدى لتحقيق التنمية المستدامة، واجراء الإصلاحات الجزئية من دون تغيير جذري في النظام الاقتصادي وكذلك التبعية للقروض الدولية (مثل صندوق النقد الدولي) التي تشترط تقليص الدعم الاجتماعي.

وبالمقارنة مع دول نجحت (مثل النرويج والسويد) وغيرها فان تلك الدول لديها حوكمة رشيدة، ضرائب عادلة، واقتصاد متنوع؛ و استثمرت عوائد الموارد الطبيعية (مثل النفط في النرويج) في صناديق سيادية لضمان رفاه الأجيال المقبلة، و عندها مجتمعات متجانسة نسبيًا مع ثقة عالية بين السكان والدولة. 

وان دول الشرق الاوسط والعالم العربي بامكانها تحقيق دولة الرفاهية الاجتماعية  بشروط، محاربة الفساد وتعزيز الشفافية، وتنويع الاقتصاد والاستثمار في التعليم والصناعة، و إصلاح الأنظمة الضريبية لتصبح أكثر عدالة، و  تحقيق استقرار سياسي يسمح بالتخطيط طويل الأمد؛ و بعض الدول العربية بدأت تحركات جزئية (مثل الإمارات في الرعاية الصحية، والمغرب في دعم التعليم)، لكن الطريق طويل لتحقيق انموذج متكامل كدول شمالي أوروبا.

 

 تخلف العراق وعدم التحاقه بركب التطور

 

إنَّ تخلف العراق وعدم تحقيقه دولة رفاهية لائقة، برغم ثرواته الهائلة، هو نتيجة لتفاعل معقد من العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، و لا يمكن اختزال هذه الأسباب في نقطة واحدة، بل هي سلسلة متشابكة أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية وتزايد الفقر والبطالة وسوء الخدمات.

وتأتي على رأس الاسباب معاناة العراق من سلسلة حروب مدمرة (الحرب العراقية الإيرانية، غزو الكويت، حرب الخليج الثانية، حرب عام 2003، الصراع مع تنظيم “داعش”)، التي استنزفت موارده البشرية والاقتصادية ودمرت بنيته التحتية بشكل كبير؛ وكذلك  الاضطرابات الأمنية، أدت هذه الحروب إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار الأمني، مما عطل عجلة التنمية وأبعد الاستثمارات المحلية والأجنبية.

 

 

ويُعد الفساد أحد أكبر المعوقات التي تواجه العراق، اذ تتسرب كميات هائلة من الإيرادات النفطية عبر قنوات الفساد المختلفة، بدءا من سرقة الأموال العامة وصولا إلى الرشاوى والمحسوبية في المشاريع الحكومية، وكذلك ضعف المؤسسات، اذ أضعف الفساد مؤسسات الدولة وجعلها غير قادرة على تقديم الخدمات الأساسية بكفاءة، مما أثر سلبا على جودة التعليم والصحة والسكن.

ومن الاسباب الاخرى عدم تواجد نظام فعال للمساءلة والمحاسبة، مما يشجع على استمرار الفساد ويقلل من فرص الإصلاح؛ ويجري ايضا توزيع السلطة على أسس غير كفؤة: أدت المحاصصة إلى توزيع المناصب الحكومية بناءً على الانتماءات الطائفية والعرقية بدلاً من الكفاءة والجدارة، مما أثر سلبًا على أداء الدولة؛ و خلقت المحاصصة بيئة من الصراع على النفوذ والموارد بدلاً من التركيز على بناء الدولة وخدمة المواطنين.

و يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل شبه كامل على إيرادات النفط، مما يجعله هشا ومعرضا لتقلبات أسعار النفط العالمية؛ هذا الاعتماد يقلل من الحوافز لتطوير قطاعات اقتصادية أخرى (الزراعة، الصناعة، السياحة)، كما   تفتقر الحكومات المتعاقبة إلى خطة اقتصادية شاملة وطويلة الأجل لتنويع مصادر الدخل وتوفير فرص عمل مستدامة.

ولم يجري استثمار الأموال الكافية في تحديث وتطوير البنية التحتية (الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، الطرق، المستشفيات، المدارس) التي دمرتها الحروب.

و تعاني الخدمات الأساسية من سوء الإدارة والتقصير، مما يؤثر بشكل مباشر على حياة السكان ويحد من قدرتهم على العيش بمستوى لائق.

و يعاني قطاع السكن من نقص حاد، حيث تزايدت أعداد الأسر التي لا تمتلك سكنًا لائقًا نتيجة للنزوح والنمو السكاني ونقص المشاريع السكنية؛ وأدت الحروب والاضطرابات الأمنية والوضع الاقتصادي المتدهور إلى هجرة أعداد كبيرة من الكفاءات والأكاديميين والمهنيين الشباب إلى الخارج بحثًا عن حياة أفضل وفرص عمل،  تحرم هذه الهجرة العراق من ملاكات مهمة كان من الممكن أن تسهم في عملية التنمية والإصلاح.

وتغيب في العراق سيادة القانون و ان المحسوبية والتدخلات السياسية تحد من قدرة القضاء على فرض العدالة ومحاسبة الفاسدين، و عديد  مؤسسات الدولة تعاني من الهشاشة والضعف، مما يجعلها غير قادرة على أداء دورها الفعال في بناء دولة الرفاهية.

باختصار، يواجه العراق تحديات عميقة الجذور تمنعه من تحقيق التطور واللحاق بالدول المتقدمة. يتطلب الخروج من هذه الدائرة المفرغة إرادة سياسية حقيقية، ومكافحة شاملة للفساد، وبناء مؤسسات قوية، وتنويع الاقتصاد، والأهم من ذلك، وضع مصلحة البلد والسكان فوق كل اعتبار.

 

مؤشرات السعادة العالمية

 

لقد ارتبطت سعادة البلدان بتحقيق محددات دولة الرفاهية الاجتماعية وفي آخر تحديث لمؤشرات السعادة في الدول حتى 20 آذار 2025 يفيد تقرير مؤشرات السعادة الدولية ان  فنلندا،واصلت للعام الثامن على التوالي، تصدّر ترتيب الدول الأكثر سعادة في العالم الصادر، في التصنيف الذي يُنشر سنويا برعاية الأمم المتحدة.

وتراجعت الولايات المتحدة إلى المركز الرابع والعشرين، وهو أسوأ تصنيف لها، منذ نشر التقرير للمرة الأولى عام 2012، حين احتلت المركز الحادي عشر، أعلى تصنيف لها.

وتتمتع فنلندا بديمقراطية جيدة ومستوى عال من حرية التعبير إلى جانب انخفاض معدلات الفساد؛ وحلّل التقرير سلوك السكان في العالم في مدة 2022-2024، وهو ليس مرتبطا تاليا بالتغييرات التي تحصل منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

وبقيت شتى الدول الإسكندينافية ضمن 10 بلدان الأكثر سعادة، إذ أتت الدانمارك وآيسلندا والسويد بعد فنلندا. وللمرة الأولى، برزت كوستاريكا والمكسيك ضمن المراكز العشرة الأولى، وقد احتلت كوستاريكا المركز السادس فيما أتت المكسيك في المركز العاشر.

ومن جديد، صُنّفت أفغانستان الدولة الأكثر تعاسة في العالم؛ وأتت فرنسا في المركز 33، في حين حلّت سويسرا في المركز 13 وبلجيكا في المركز 14 وكندا في المركز 18.

ويعتمد تصنيف السعادة على متوسط ثلاث سنوات من التقويمات الشخصية للرضى عن الحياة، فضلا عن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والدعم الاجتماعي، ومتوسط العمر الصحي، والحرية، والكرم، والفساد.

وأسعد 20 دولة في العالم لعام 2025، بحسب تقرير مؤشرات السعادة هي فنلندا، الدانمارك، آيسلندا، السويد، هولندا، كوستاريكا، النرويج، إسرائيل، لوكسمبورغ، المكسيك، أستراليا، نيوزيلندا، سويسرا، بلجيكا، أيرلندا، ليتوانيا، النمسا، كندا، سلوفينيا، جمهورية التشيك.

ومع ذلك وبرغم تصنيفها الاولى في مؤشر السعادة؛ يتواجد بين الفنلنديين رضى “نسبي” عن اوضاعهم. وعن هذا يقول الأستاذ المساعد المتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسعادة في جامعة آلتو في إسبو قرب هلسنكي فرانك مارتيل  “يظهر أن الفنلنديين راضون نسبيا عن حياتهم”، ويضيف “أن ذلك يمكن تفسيره إلى حد كبير بحقيقة أن الفنلنديين يعيشون في “مجتمع جيد إلى حد ما”.

ويتابع، إنّ “نتائج الديمقراطية جيدة، ولدينا انتخابات حرة، وحرية تعبير، ومستويات منخفضة من الفساد” مما يسهم في “السعادة الوطنية”.

و تتمتع جميع الدول الإسكندينافية بأنظمة حماية اجتماعية قوية نسبيا، مع توفير إجازات للوالدين، ومساعدات للعاطلين من العمل، ورعاية صحية شاملة في الغالب.

وترى إيفيلينا يليتولونين، وهي طالبة عمرها 23 عاما في هلسنكي، أن اهتمام الفنلنديين بجمال الطبيعة يفسّر مستوى السعادة في البلاد، المعروفة بغاباتها وبحيراتها البالغ عددها 160 ألف بحيرة؛  واوضحت يليتولونين، إن “الطبيعة عنصر مهم في هذه السعادة”.

وافقها الرأي جيمي سارجا لامبرت، وهو ممارس محترف لألعاب الفيديو غادر المملكة المتحدة للاستقرار في فنلندا، اذ يقول  “إنّ الجميع قريبون أكثر من الطبيعة، يخرجون ويتواصلون اجتماعيا أكثر لتكوين مجتمع”.

وأكّد معدّو تقرير مؤشرات السعادة لهذا العام، أنّ لديهم أدلة جديدة على أن التصرفات التي تنطوي على كرم وقناعة ولطف هي “توقعات مهمة للسعادة، حتى أكثر من الحصول على راتب مرتفع”، وفيما قالوا عن المجتمعات التي تنخفض فيها مؤشرات السعادة ومنها افغانستان والعراق وغيرهما “أنّ الناس فيها متشائمون جدا بشأن لطف مجتمعهم”، لافتين كذلك إلى، أنّ معدّل إرجاع المحافظ المفقودة هي عامل محدد ايضا لمستوى السعادة، وان فنلندا تتميز في هذا الجانب “بأعلى بكثير مما يتوقعه الناس”، و تصنف الدول الإسكندينافية أيضا “من بين أفضل الدول لمعدلات الإرجاع المتوقع والفعلي للمحافظ المفقودة”.

قد يعجبك ايضا