محمد علي الحيدري -واشنطن
منذ ولادة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) كائتلاف عسكري مدعوم أميركيًا في سياق الحرب على “داعش”، كان واضحًا أنها ليست مجرّد تشكيل عسكري عابر، بل نواة لمشروع سياسيّ يتجاوز منطق مكافحة الإرهاب، نحو تثبيت حضور كردي-محلي في شمال شرق سوريا، بمظلة “إدارة ذاتية” تطرح نفسها كبديل سياسي في مناطق الفراغ. لكن مع تحوّلات المشهد السوري في أعقاب سقوط نظام الأسد، تتغير طبيعة موقع قسد من فاعل أمني شبه مستقل إلى طرف عالق بين متناقضات السياسة الإقليمية والدولية، ما جعلها اليوم ورقة صعبة في يد واشنطن، وعقدة مُعلّقة في ترتيبات ما بعد الأسد.
من جهة، لم تعد تركيا تنظر إلى قسد باعتبارها خصمًا محليًا فحسب، بل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، ما يمنحها في نظر أنقرة صفة التهديد الاستراتيجي. هذا التصنيف التركي يضع كل تسوية سورية مستقبلية أمام قيد أمني تركي، يجعل من نزع سلاح قسد، أو تفكيك إدارتها الذاتية، شرطًا ضمنيًا أو معلنًا لأي تفاهم مع أنقرة. من جهة أخرى، تدرك الولايات المتحدة أن نفوذها المتبقي في الملف السوري لا ينفصل عن استمرار شراكتها مع قسد، خصوصًا في ظل محدودية أدواتها شرق الفرات، وتراجع أولوية الملف السوري ضمن أجندة أمنها القومي الأوسع.
أما دمشق، فهي تنظر إلى قسد نظرة مزدوجة: خصم سياسي وميداني في وقت واحد، وشريك محتمل في معادلة ما بعد الانسحاب الأميركي. فالنظام لم يغلق الباب تمامًا أمام التفاوض مع الإدارة الذاتية، لكنه لم يبدِ أي استعداد فعلي لمنحها أي شكل من أشكال الاعتراف، وهو يعتبرها مشروعًا انفصاليًا مغلّفًا بخطاب لا مركزي. وهذا ما يضع قسد بين خيارين أحلاهما مرّ: إما البقاء تحت الحماية الأميركية التي بات أفقها غامضًا، أو الذوبان التدريجي في سلطة دمشق بشروط غير متكافئة.
وسط هذه المعادلة المعقّدة، تستفيد قسد من إسناد غير مباشر يأتي من إقليم كردستان العراق، حيث تلعب أربيل، ضمن هامش علاقاتها مع واشنطن وأنقرة، دورًا سياسيًا غير معلن في تخفيف عزلة قسد، وتوفير قناة تواصل مع بعض الأطراف الدولية. ورغم التباينات الأيديولوجية والمنافسة التاريخية بين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود قسد، والحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في الإقليم، إلا أن التنسيق الأمني المحدود والدعم السياسي غير الرسمي ساهما في إبقاء قسد ضمن الهامش المقبول دوليًا، ولو دون اعتراف رسمي بوضعها.
إقليميًا، تتحرك قسد في منطقة رمادية: هي ليست حليفة إيران، لكنها لا تعاديها علنًا. وليست معادية لروسيا، لكنها تدرك أن موسكو ترى في إعادة سيطرة النظام على كامل الجغرافيا السورية شرطًا لاستقرار نفوذها. هذا التموضع الحذر يجعل من قسد طرفًا هشًّا في معادلات النفوذ، حتى لو امتلكت الأرض والسلاح. فلا إيران تثق بها، ولا روسيا تراها شريكًا يمكن التعويل عليه في الترتيبات النهائية.
ومع تحوّلات الداخل السوري، تزداد الضغوط على قسد، سياسيًا واجتماعيًا، حيث لم يعد السكان المحليون ينظرون إلى الإدارة الذاتية بنفس الثقة التي حملوها في سنوات الفوضى والفراغ. فالتحديات الاقتصادية، والتوترات الإثنية، والتجاذبات السياسية، بدأت تُضعف من شرعية النموذج الإداري لقسد، وتطرح أسئلة جدية حول قابليته للاستمرار، خصوصًا إذا ما قررت واشنطن تقليص وجودها أو إعادة تموضعها نهائيًا.
في المحصّلة، تقف قسد اليوم عند مفترق دقيق: فهي لم تعد مجرّد ذراع محلية لسياسة أميركية طارئة، لكنها لم تتحوّل إلى كيان سياسي راسخ ومعترف به دوليًا. ووسط غموض المشهد السوري، واحتمالات إعادة تشكيل السلطة بعد سقوط النظام، تبقى قسد ورقة قابلة للاستخدام، ولكنها أيضًا عبء سياسي لا تملك واشنطن وحدها قرار حسم مصيرها. فالمعادلة المقبلة لن تكون عسكرية فقط، بل سياسية أولًا، وقسد مطالبة بإعادة تعريف موقعها في سوريا الجديدة، ليس كقوة أمر واقع، بل كطرف قادر على الصمود في لعبة معقدة لا ترحم الضعفاء ولا تغفر للمراهنين على الوقت.
Sent from my iPhone