د. ابراهيم احمد سمو
في كل ظهور إعلامي جديد، لا يمرّ السيد هوشيار زيباري مرورًا عابرًا. بل يحمل معه أسئلة كبيرة وإجابات أكبر، تتجاوز حدود السياسة نحو عمق الانتماء، وتُقرَأ من زاوية مواطن كوردي بسيط يقف أمام شاشة التلفاز محاولًا التمييز بين الصواب والخطأ. وفي حال اختلطت عليه الأمور، فالصوت الكوردي العاقل لا يتردد في التذكير، لأن الانتماء لا يُعطى بل يُستحق.
وفي لقائه الأخير على قناة سكاي نيوز عربية، تجلّى السيد هوشيار زيباري ليس فقط كسياسي محنّك، بل أيضًا كإعلامي متمرّس، جاء إلى المنبر وهو يحمل خزينًا من المعلومات، ووعيًا واضحًا برسائل المرحلة، وإدراكًا عميقًا لحساسية اللحظة.
بين السؤال والجواب… رسائل تتجاوز الشاشات
بدأ اللقاء مع الإعلامي ماجد حميد بسؤال مباشر حول تغريدة زيباري بشأن القرار المجحف بقطع رواتب إقليم كوردستان، وهي التغريدة التي أثارت ضجة، لما حملته من رأي صريح وصوت واضح. وفي سياق الحوار، بدا واضحًا أن الرجل لم يأتِ فقط ليعلّق على قرار إداري، بل ليؤدي واجبًا أكبر من ذلك: أن يتحدث باسم المعاناة، أن يمثّل شعبًا يشعر بالخذلان، وأن ينقل بصدق صورة الواقع إلى الرأي العام العربي والدولي.
لم يكن حديث زيباري مجرّد موقف سياسي، بل كان بيانًا إعلاميًا صادرًا من ماكينة سياسية تعرف أين تقف، وتدرك ماذا تقول، وتعلم متى تصمت ومتى تتكلم. فقد استطاع في زمن محدود أن يرسم خريطة الألم الكوردي، ويحدد مواضع الخلل في العلاقة بين بغداد وأربيل، دون أن ينزلق إلى الشعبوية أو الاتهامات.
رجل بحقيبة متعددة المهام
لا يمكن اختزال السيد هوشيار زيباري في عنوان وظيفي واحد. فهو رجل الدولة الذي شغل وزارتي الخارجية والمالية في العراق، وهو حاليًا عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني، ورئيس لجنة التفاوض لتشكيل الحكومة العاشرة في الإقليم. وبين اجتماع وآخر، وبين لقاء مع سفير أجنبي وقنصل عربي، يظهر زيباري على الشاشات وهو يحمل ملف كوردستان إلى العالم، متحدثًا بلسان الوعي والواقعية.
في هذا اللقاء تحديدًا، كان يحمل همّين في آنٍ واحد: أن يوضح للشارع الكوردستاني خلفيات قرار قطع الرواتب، وأن يبعث برسالة سياسية هادئة ولكن صارمة إلى الحكومة الاتحادية. وكان صوته واضحًا: “لا يجوز المساس بقوت الناس في نزاعات سياسية”. وهذه ليست عبارة إنشائية، بل موقف مسؤول يصدر عن شخصية تدرك خطورة تحميل المواطن ثمن الخلافات بين الحكومات.
الدستور… الحكم المعطّل
حين تحدث زيباري عن الدستور، بدا كمن يقرأ من وثيقة مقدّسة نُسيت على رفّ الزمن. فقد أكّد، مرةً تلو الأخرى، أن الدستور العراقي هو الحكم والفصل في الخلافات، ولكن المؤسف أنه لا يُطبّق من قبل بغداد. وذكّر بالمادة المتعلقة بقانون النفط والغاز، الذي وُعد به منذ 2007، ولكن لم يُفعّل حتى اليوم.
ومع إدراكه لتعقيدات القانون، أشار بلغة بسيطة يفهمها الجميع: “الدستور هو الضمان”، وكل خروج عنه يُعَدّ إخلالًا بالتزامات سياسية وقانونية يجب أن يخجل منها من يدّعي الحفاظ على وحدة العراق.
الصمت الحزبي… والنداء الصريح
لم يمرّ زيباري مرور الكرام على غياب المواقف الصريحة من الأحزاب السياسية المختلفة تجاه قرار قطع رواتب موظفي كوردستان. بل تساءل بوضوح: “أين هي مواقف الإدانة من هذا القرار الجائر؟”. لقد أراد بذلك أن يوقظ الضمير السياسي في الداخل العراقي، لا سيما في لحظة تتطلب أن تلتقي فيها القوى الوطنية على مبدأ إنساني وأخلاقي: “لا تمسّوا الراتب، فهو ليس طرفًا في الصراع”.
وهو بذلك لم يخاطب الكورد فقط، بل وجّه رسائل مفتوحة إلى كل العراقيين، عربًا وكوردًا، شيعة وسنة، مفادها أن الكرامة تبدأ من العدالة، وأن الإنصاف يبدأ من احترام لقمة العيش.
بين الداخل والخارج… كوردستان على الطاولة
في كلام زيباري، لم تغب العلاقات الإقليمية والدولية عن المشهد. فقد أشار إلى أهمية الخطوات التي تتخذها حكومة اقليم كوردستان في تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وتركيا، وإيران. وبهذا التوازن الدقيق بين القوى، تسعى كوردستان لحماية حقوقها ومصالحها في ظل واقع سياسي معقّد.
ورغم أنه لم يدخل في تفاصيل اللقاءات الدبلوماسية، إلا أن إشاراته كانت واضحة: كوردستان ليست معزولة، وهناك من يسمعها، ومن يتفهّم مواقفها، ومن يقدّر واقعها.
الإعلام كمنبر للمسؤولية
ما يُميّز السيد هوشيار زيباري عن كثير من السياسيين هو أنه حين يظهر على شاشة التلفاز، لا يتحدّث من برجٍ عاجي، بل من موقع المواطن المسؤول. خطابه هادئ، لكن كلماته تطرق بعمق. لا يصرخ ولا يهاجم، بل يقدّم وقائع وأفكارًا، ويجعل المستمع يتوقّف ليسأل نفسه: “أين الخطأ؟ ومن المسؤول؟”
ولعلّ الأهم من كل ذلك، هو أن زيباري لا ينتظر من الإعلام أن يدافع عنه، بل يتقدّم هو إلى الإعلام، ويحوّله إلى ساحة للحقيقة والمكاشفة.
أكثر من مجرد لقاء
اللقاء الذي جمع السيد هوشيار زيباري مع سكاي نيوز عربية لم يكن مجرد مقابلة سياسية، بل كان مناسبة لتمرير رسائل استراتيجية، وللتذكير بالمظالم، وللتأكيد على أن الصوت الكوردي لا يزال حاضرًا، وواعٍ، وقادر على الدفاع عن حقّه دون صراخ أو خصومة.
ومن اللافت أن زيباري، رغم كل ما يحمله من مسؤوليات، لا يزال يخصص وقتًا للظهور الإعلامي المتزن، مدركًا أن الحرب اليوم لم تعد فقط في الميدان، بل أيضًا في الرواية، والصورة، والصوت.
في الختام…
نجح السيد هوشيار زيباري في هذا اللقاء في لفت الانتباه، لا فقط من المشاهد الكوردي، بل من المشاهد العربي أيضًا. وربما اقتنع به كثير من العرب قبل الكورد، لأن منطقه بسيط وصريح، وموقفه واضح، ولغته تجمع بين العقلانية والانتماء. وفي زمن الضجيج، تبرز الأصوات الواثقة التي لا تحتاج للصراخ كي تُسمع