عزالدين ملا
لم تعد المسألة الكوردية في سوريا شأناً محلياً محصوراً بجغرافيا محدّدة أو مطالب فئوية، بل باتت حجر زاوية في أيّ معادلة سياسية تسعى إلى إخراج البلاد من دوامة التفكك والانقسام. فما شهده الكورد خلال العقود الماضية لم يكن مجرد تهميش إداري أو حرمانٍ ثقافي، بل كان انعكاساً لمنهجية متجذّرة في بنية الدولة، تقوم على إنكار التعدد وتكريس الهوية الواحدة على حساب المكونات الأخرى. واليوم، وفي ظل المخاض السوري المفتوح، يغادر الكورد موقعهم الهامشي القسري، متسلحين برؤية ناضجة وتفاهم سياسي غير مسبوق، ليطرحوا أنفسهم كشركاء حقيقيين في مشروع وطني جامع، لا تابعين ولا معزولين.
إن تحوّل الكورد من خانة القضية إلى خانة الفاعل السياسي لم يكن وليد لحظة آنية، بل ثمرةَ مسار طويل من النضال والمراجعة والتجريب، توجته جهود توحيد الصف السياسي في كونفرانس قامشلي 26 نيسان 2025، الذي لم يكن مجرد استجابة ظرفية، بل إعلاناً عن مرحلة جديدة في الفكر الكوردي السياسي، تنطلق من قناعة راسخة بأن نيل الحقوق لا يكون بالاستعطاف، بل بالعمل السياسي المسؤول والواقعي، وبالشراكة لا بالانعزال.
لقد ترافقت هذه التحوُّلات مع انفتاح غير مسبوق على الداخل السوري، وعلى القوى الوطنية الأخرى، في محاولة لكسر الصور النمطية وتبديد المخاوف المتبادلة. فالرؤية الكوردية التي تتبلور اليوم لم تعد قومية مغلقة، بل رؤية تزاوج بين الخصوصية القومية والانتماء الوطني، وتسعى إلى صياغة مستقبل سوري يقوم على التعددية والمساواة والعدالة. وهو ما يجعل هذه اللحظة مفصلية في تاريخ الكورد السوريين، لحظة الانتقال من حقل المطالب إلى ميدان الشراكة، ومن موقع الدفاع عن الذات إلى المبادرة في صياغة شكل الدولة القادمة.
الرؤية التي نتجت عن هذا الكونفرانس لا تحمل فقط مضموناً سياسياً، بل تمتلك قدرة تأسيسية حقيقية، تجعل منها وثيقة مشروع يمكن البناء عليه. إنها رؤية تستمد مشروعيتها من واقع الظلم التاريخي الذي تعرّض له الكورد، كما من مشاركتهم الفاعلة في مقاومة الإرهاب ومواجهة الاستبداد. وما يضفي عليها قوة إضافية هو توازنها بين الطموح القومي والانفتاح الوطني، بين حماية الهوية الكوردية والسعي نحو دولة سورية موحّدة وعادلة. إلا أن تحويل هذه الرؤية من إطار نظري إلى واقع ملموس، يتطلب بنية ثلاثية، وحدة داخلية صلبة، شراكة سياسية مع المكونات الأخرى، واستراتيجية مرنة تستوعب المتغيرات وتحمي المكتسبات.
لكن هذا التماسُك الكوردي يواجه تحديات جدّيةً، فالمحاولات لا تتوقف لإرباك الصف الكوردي وزرع الانقسام داخله عبر الإغراءات أو الضغوط. التدخلات الإقليمية والاستخباراتية لا تزال حاضرة، وبعض القوى تسعى لتوظيف الكورد كورقة في صراع أوسع لا علاقة له بمصالحهم. لذلك فإن تحويل الوحدة الكوردية من توافق مرحلي إلى خيار استراتيجي يبدو اليوم أولوية قصوى. فبهذه الوحدة فقط يمكن للكورد تثبيت مكانتهم كلاعب أساسي في المعادلة السورية، لا تابعا لهذا الطرف أو ذاك، بل شريكا في إعادة تشكيل الدولة.
في المقابل، تبقى علاقة الكورد بالعرب مفتوحة على آفاق شراكة واعدة، لكنها تحتاج إلى ترميم الثقة وبناء تفاهمات راسخة. فالتاريخ بين الطرفين مثقل بالتوجّس، غير أن اللحظة الحالية تفرض مقاربة جديدة، قائمة على الاحترام المتبادل، وضمان الحقوق، وتغليب منطق المواطنة على حساب الهويات القلقة. الكورد ليسوا خصوماً للمشروع الوطني، بل حلفاء طبيعيون لقوى تسعى للخلاص من الاستبداد. غير أن هذه العلاقة لا تترسخ إلا حين يشعر كل طرف أن الآخر لا يشكّل تهديداً، بل ضمانة لتوازن وعدالة مستقبليين.
تاريخياً، استخدمت القوى الكبرى الملف الكوردي كأداة تفاوض وضغط، تحرّكه حسب الحاجة وتوقفه عند حدود مصالحها. واليوم، ومع تغيّر شروط اللعبة الدولية والإقليمية، تتاح للكورد فرصة تاريخية لتحويل قضيتهم من ورقة تتقاذفها العواصم، إلى مشروع وطني تفرضه الأرض والناس والتضحيات. هذا لا يتم إلا من خلال تعزيز الحضور السياسي الكوردي داخل الإطار السوري، والانفتاح على شركاء الداخل، وتجنب الارتهان للخارج. الإرادة المستقلة والقدرة على التفاوض باسم الشعب، لا كوكيل عن أحد، هما معيار النجاح.
في الحديث عن مرحلة ما بعد الأسد، لا يمكن تصوُّر سوريا جديدة بدون شراكة حقيقية للكورد. هذه الشراكة لا تعني فقط مقعداً في اللجنة الدستورية، بل دوراً مركزياً في صياغة العقد الوطني، في بناء اقتصاد منتج، وفي إعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة.
يبقى أن يترافق كل ذلك مع مشروع اقتصادي متماسك يربط التنمية بالعدالة والاستقرار. فالمجتمعات لا تعيش بالشعارات وحدها، ولا تبني مؤسساتها على الآمال فقط. وجود رؤية اقتصادية قابلة للتنفيذ هو شرط أساسي لتحويل الطموح السياسي إلى واقع فعلي. كما أن الجانب الأمني لا يقل أهمية، ويتطلب من الكورد المساهمة في بناء جهاز أمني وطني جامع، لا طائفي ولا فئوي، يحمي السوريين جميعا من الفوضى والإرهاب.
إن اللحظة الكوردية في سوريا اليوم ليست عابرة، بل مفصلية. وقد خرج الكورد من حالة الانتظار إلى حالة المبادرة، واضعين أنفسهم في صلب المشهد، لا على هامشه. غير أن هذه المبادرة تحتاج إلى عقول باردة، وخطاب وحدوي، وبرامج عمل قابلة للتطبيق، وإرادة جماعية لا تنكسر أمام الضغوط. فإما أن يكون الحضور الكوردي في سوريا الجديدة حضوراً فاعلاً، شريكاً في القرار، مساهماً في البناء، أو تُعاد الكرّة إلى دائرة التهميش. وما بين هذين الخيارين، تقع مسؤولية الكورد، لا كقومية فقط، بل كمكوّن وطني قرر أن يصنع مصيره بيده، في لحظة لم تعد تنتظر أحداً.