تحقيق التمويل الذاتي لرواتب إقليم كوردستان العراق: رؤية استراتيجية في سياق التحديات المالية

د. دژوارسندي

المقدمة: 
تواجه حكومة إقليم كوردستان العراق تحديات مالية حادة، تتركز أساسًا في التأخر المتكرر أو الانقطاع في تحويلات الحصة المالية المقررة في قانون الموازنة الثلاثية، مما أدى إلى أزمات مستمرة في صرف رواتب الموظفين . في هذا السياق، تبرز الحتمية الاستراتيجية لمسار التماس داخلي شامل يهدف إلى تحقيق التمويل الذاتي المستدام للرواتب، والحد من الاعتماد على التحويلات الاتحادية غير المستقرة، وتعزيز الأسس الاقتصادية والاجتماعية للإقليم.

اولاً: الأبعاد الدستورية والسياق السياسي: 
ترتكز الخلفية القانونية لهذه الأزمة على المادة (121) من الدستور العراقي، والتي تمنح الإقليم صلاحيات واسعة لإدارة شؤونه الداخلية وموارده. ومع ذلك، فإن الخلافات السياسية المستمرة مع الحكومة الاتحادية، لا سيما بشأن إدارة عائدات النفط ومسألة تسليم الحصص المتفق عليها لشركة سومو النفطية، أسفرت عن قرار بغداد عام 2020 بوقف تحويل مستحقات الإقليم. كما أضاف قرار المحكمة الاتحادية العليا عام 2024، القاضي بتوطين رواتب موظفي الإقليم في المصارف الاتحادية وخصمها من حصته المالية،جانب جديد من التعقيد على هذه العلاقة، مؤكدًا الحاجة الملحة لبدائل داخلية.

ثانياً: ركائز التحول نحو الاستدامة المالية:
في مواجهة هذه التحديات، يتطلب تحقيق التمويل الذاتي للرواتب تبني حزمة متكاملة من الإجراءات لتعزيز الاستقلال المالي من خلال:
١. تنويع مصادر الإيرادات: تعزيز الإيرادات غير النفطية عبر تطوير النظم الضريبية الحديثة وتمكين آليات الجباية الفعالة، مع الحفاظ على التوازن بين متطلبات التنمية وضرائب تنافسية.

٢. تطوير القطاع النفطي: العمل على تعظيم العوائد من هذا القطاع الحيوي عبر تحسين كفاءة الإنتاج وضبط العمليات وفق أفضل معايير الشفافية، بما يخدم المصالح المشتركة مع الحكومة الاتحادية.

٣. تحسين الحوكمة المالية: تعزيز آليات الرقابة المالية المستقلة ورفع كفاءة الإنفاق العام، بما يتماشى مع الجهود المستمرة لتحقيق النزاهة المؤسسية.

٤. تنويع القاعدة الاقتصادية: دعم القطاعات الإنتاجية الواعدة كالزراعة والصناعة التحويلية والسياحة، بما يخلق اقتصاداً متوازناً قادراً على امتصاص الصدمات.

ويمكن للإقليم الاستفادة من النماذج المقارنة، مثل نظام “الكونسيرت الاقتصادي” في إقليم الباسك الإسباني الذي يوفر صلاحيات ضريبية واسعة، أو تجربة كاتالونيا في بناء اقتصاد متنوع رغم التحديات السياسية. كما توجد خبرات سابقة داخل الإقليم نفسه في إدارة تصدير النفط بشكل مستقل، وإن كانت محفوفة بتحديات قانونية.

 ثالثاً: الفرص المتاحة والتوجهات المستقبلية: يتمتع الإقليم بإمكانيات كبيرة لتحقيق الاستقلال المالي، منها:
١. البنية التحتية المؤسسية المتطورة نسبياً.
٢. الموارد البشرية المؤهلة.
٣. الدعم الدولي لبرامج الإصلاح.
٤. موقع جيواقتصادي استراتيجي.

ثالثاً: المقترحات الاستراتيجية: لتعزيز التمويل الذاتي للرواتب، نقترح هذه الرؤية:
1. تبني خطة متدرجة لتحقيق الاكتفاء المالي مع مراعاة الظروف السياسية.
2. تعزيز التعاون البناء مع بغداد لضمان الحقوق الدستورية للإقليم.
3. تطوير الشراكات الاستثمارية مع القطاع الخاص المحلي والدولي.
4. تعزيز الشفافية المالية كأداة لبناء الثقة المحلية والدولية.
5. الاستفادة من الدعم الفني للمؤسسات المالية الدولية في برامج التحول الاقتصادي.

 الخاتمة:
تمثل جهود تحقيق التمويل الذاتي للرواتب مساراً استراتيجياً ينبغي ان تعمل عليه حكومة الإقليم بجدية، وهو يعكس رؤية متكاملة لتعزيز السيادة المالية في إطار الدستور العراقي. ونجاح هذه الرؤية يتطلب جهوداً متواصلة لتعزيز الإصلاحات المؤسسية، مع الحفاظ على الحوار البناء مع الحكومة الاتحادية لضمان الحقوق المالية للإقليم. هذه المساعي تمثل التزاماً راسخاً بضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لشعب كوردستان، وتعكس حكمة القيادة في إدارة التحديات المعقدة، والذي يمكن لإقليم كوردستان من خلاله تجاوز أزمته الراهنة وبناء أساس اقتصادي متين يضمن مستقبلاً مزدهراً ومستقراً لشعبه.

قد يعجبك ايضا