الكتابة ليست حكرًا على التخصص: عن حق الأدباء في خوض كل الميادين

د. ابراهيم احمد سمو

كثيرًا ما نصادف، نحن الكتّاب والأدباء، تعليقات تأتي كرد فعل على ما نكتبه في مقالاتنا حول مواضيع متنوعة: سياسية، رياضية، اجتماعية، طبية، أو حتى اقتصادية. وغالبًا ما تتكرر عبارة: “هذا ليس من اختصاصكم!”، وكأن الكتابة تُقاس بالشهادة الأكاديمية، أو أن الفكر يُختزل في التخصص المهني، وهذا في الحقيقة انتقاص من جوهر العملية الثقافية، ومن طبيعة الكتابة بوصفها فعلًا إنسانيًا شاملًا.

في الواقع، الكاتب ليس موظفًا في دائرة مقيدة، بل هو عين مفتوحة على الحياة، وقلب نابض بمشاعر الناس، وذاكرة تتفاعل مع الأحداث اليومية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو فنية أو حتى علمية. نحن لا نزاحم الأطباء في عياداتهم، ولا نتطفل على عمل الاقتصاديين في تقاريرهم، ولا ننافس السياسيين في مكاتبهم، لكننا ننقل رؤانا، ونصوغها من منطلقنا ككتّاب، لنا الحق الكامل في التعبير عن رأينا في كل ما يمس الحياة العامة.

الشاعر مثلاً لا يكتب فقط عن الحب والقصائد، بل يمكنه أن يكتب عن معاناة عامل أو تفاصيل حياة مزارع، أو أثر أزمة اقتصادية على الإنسان البسيط، لأنه يرى بعين أخرى، ويلتقط من الحياة ما لا تلتقطه الإحصاءات. والأديب الذي كتب عن الحرب أو الطفولة أو الحنين أو النزوح أو الوطن، لم يكن خبيرًا عسكريًا أو طبيبًا نفسيًا أو عالم اجتماع، بل كان إنسانًا يعيش مع الناس ويتأثر بهم ويعبّر عنهم. وهذا هو دورنا.

كم من كاتب، بسطور قليلة، اختصر أزمة وطن؟ وكم من مقال، كتبه أديب بعيد عن السياسة، لكنه لامس وجدان الشارع أكثر من عشرات الخطابات الرنانة؟ الأمر ليس في التخصص بل في الصدق، والقدرة على الصياغة، والقراءة العميقة للواقع.

الرياضة على سبيل المثال، كميدان اجتماعي وإنساني، لا تنحصر في خبر فني أو تحليل تكتيكي. هي ثقافة وسلوك وانتماء، وهي تفتح الباب لكل شرائح المجتمع، من العامل إلى الطبيب، ومن الطالب إلى السياسي. إذًا، لماذا لا يكتب عنها كاتب يحمل في داخله شغفًا وموقفًا؟ أليست كرة القدم، مثلًا، لغة عالمية تتجاوز الحدود، وتجمع الشعوب، وتثير قضايا سياسية واقتصادية وأخلاقية؟

فهل يحتاج من يكتب عنها إلى شهادة تدريب؟ أم إلى فهم أعمق لدورها وتأثيرها؟ الكاتب يمتلك هذا الفهم لأنه يرى الظاهرة من زوايا متعددة، ويكتب عنها بلغة تتجاوز الحدث إلى التأمل.

ينطبق الأمر ذاته على الفن والمسرح والموسيقى، وعلى القضايا الطبية والاجتماعية، كظاهرة الطلاق، وتعاطي المخدرات، والفقر، والتعليم. فكل هذه المواضيع ليست حكرًا على الخبراء وحدهم، بل هي جزء من المشهد الإنساني العام، والكاتب مسؤول عن تأملها، والكتابة عنها، لا بصفته متخصصًا، بل بصفته مشاركًا في صناعة الوعي.

نحن لا ندّعي امتلاك الحقيقة الكاملة، ولا نرفض رأي المتخصص، بل نرحّب به، ونسعد حين يتفاعل معنا المختصون ويصوبون أو يضيفون. ولكن ما لا نقبله هو مصادرة الحق في الكتابة، أو محاسبة الكاتب على خلفية شهادته، وكأن القلم مرهون برخصة مهنية!

إن الفكرة لا تُقاس بعدد سنوات الدراسة، بل بقدرتها على التأثير. والكاتب الحقيقي يقرأ قبل أن يكتب، ويجمع المعلومة من مصادر متعددة، ثم يصوغها بأسلوبه، فيجعلها سهلة الهضم للقارئ العام، ويفتح الباب أمام النقاش، لا الإقصاء.

لقد صار من السهل اليوم جمع المعلومات عن أي موضوع بضغطة زر، لكن الصعوبة تكمن في ترتيبها، وفهمها، وإعادة تقديمها بلغة واضحة. وهذا ما يفعله الكاتب حين يتناول موضوعًا طبيًا مثل “فوائد البصل”، أو اقتصاديًا مثل “تأثير التضخم”، أو حتى حين يكتب عن “الكعكعة على النار” في نص أدبي رمزي يُحاكي الواقع بلغة الفن!

الكاتب لا يحل محل المتخصص، لكنه يساهم في توصيل المعرفة للناس، ويضيء لهم الزوايا التي قد لا يلتفتون إليها. وهو حين يكتب، لا يتحدث من فراغ، بل من تراكم قراءة وخبرة وملاحظة، ومن رصيد إنساني يتقاطع مع كل الميادين.

الكتابة فعل يقظة، والكاتب هو أول من يشعر بالتحولات في المجتمع. من الظلم أن يُطلب منه أن يلتزم الصمت في كل ما لا يحمل فيه شهادة، فالشهادة لا تصنع وحدها الوعي، ولا تمنح الموقف، ولا تنتج الإبداع.

نحن لا نُحرّض على الفوضى في التعبير، ولا نُبرّر التطفل على التخصصات، لكننا نُدافع عن حق الكاتب في أن يكون مرآة مجتمعه، فيكتب عن كل شيء، لأن كل شيء أصبح يعني الإنسان، وكل ما يخص الإنسان، يخص الكاتب.

ولذلك، فالكاتب الجاد يقرأ، ويتعلم، ويعيد إنتاج ما قرأه في صيغة تُناسب المتلقي، ويحرص على تقديم الفكرة بشكلٍ غير ضار، ولا مضلل، بل نافع ومُلهِم. وإن أخطأ، فليس العيب في المحاولة، بل في الغياب التام عن المشهد.

ونحن في زمن لم يعد فيه التخصص حكرًا، ولا المعرفة ملكًا للنخبة، بل صارت مفتوحة ومتاحة. ويبقى التحدي هو في كيفية تحويل هذه المعرفة إلى وعي، وإلى نصٍّ يحرّك العقل والوجدان. وهنا بالضبط تكمن وظيفة الكاتب.

ختامًا، نقول للذين يعترضون على كتابات الكتّاب والأدباء خارج التخصص: لسنا ضد رأيكم، ولكننا ضد إقصاء الآخر. وإذا كنا نكتب عن السياسة أو الطب أو الاقتصاد أو الفن أو الفلفل الحار، فذلك لأننا نعيش في هذه الحياة، ونتفاعل معها، ولدينا رأي نودّ أن نوصله. والمجال مفتوح للجميع، والحوار هو السبيل، لا التوبيخ، ولا تقزيم الأقلام.

دعونا نكتب، ودعوا القارئ يحكم

قد يعجبك ايضا