من أجل بيئة تعليمية عادلة: إصلاح هيكلية وزارة التربية ضرورة لا خيار

د. إبراهيم أحمد سمو

تشهد العملية التربوية في إقليم كوردستان مرحلة حساسة، تفرض على وزارة التربية إعادة تقييم شاملة لهيكليتها الإدارية والتنظيمية، في سبيل تحقيق بيئة تعليمية عادلة ومتوازنة. فالحاجة اليوم باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى إلى إعادة رسم السياسات التربوية وفق أسس علمية، تنبع من إحصاءات دقيقة وتحليلات واقعية، تضمن عدالة في توزيع الكوادر التربوية، سواء في التثبيت أو في النقل، وتؤسس لإدارة تعليمية رشيدة مدعومة بإمكانيات حكومية حقيقية، لا شعارات سطحية.

قد يخرج علينا من داخل الوزارة من يقول إن كل ما ذُكر متوفر في هيكل العمل الحالي، وهذا صحيح جزئيًا. لكن إعادة التنظيم لا تعني بالضرورة البدء من الصفر، بل تعني الإبقاء على ما هو جيّد وتطويره، والبحث عمّا هو أفضل حتى لو كان موجودًا مسبقًا. فالتذكير في حدّ ذاته وسيلة للإصلاح، وطرح الأفكار المتكررة بأسلوب جديد قد يفتح آفاقًا غير مطروقة.

إن ما نشهده من لجان ومحاولات تطويرية في الوزارة أمر مشجع، لكنّ المطلوب لا يزال أكبر من ذلك بكثير. لذلك نعود ونكتب، ونقترح، ونطالب بخلق مساحات جديدة للحوار والتخطيط، قد تكون إحداها تشكيل غرفة عمليات تربوية دائمة من المشرفين والمدرسين ذوي الاختصاص والكفاءة والتاريخ المشرف، لتكون مركز قرار تربوي حقيقي، لا مجرد لجنة شكلية.

لقد مرّ النظام التعليمي في الإقليم بمرحلة حرجة، تمثلت في تطبيق نظام الدوام الثلاثي في العديد من المدارس، وهو ما خلق ضغطًا نفسيًا كبيرًا على المعلمين والطلبة على حد سواء. ولحسن الحظ، بدأت ملامح تراجع هذا النظام تظهر، وهناك بوادر إيجابية تشير إلى قرب زواله. لكن الإصلاح لا يجب أن يكون تدريجيًا في هذه الحالة؛ بل يتطلب قرارًا حازمًا وسريعًا بإنهائه نهائيًا، لأنه يُلحق ضررًا مباشرًا بجودة التعليم ومخرجاته.

ورغم تحسّن بعض الجوانب، لا تزال ظاهرة الدوام الثنائي قائمة في العديد من المدارس، وأحيانًا يُدار المبنى الواحد من قبل إدارتين مختلفتين، لكل منهما طاقم إداري وغرف مخصصة للمعلمين. هذا الانقسام يُربك العملية التربوية، ويزيد من صعوبة التنظيم والمتابعة، كما يُثقل كاهل الإدارات بمسؤوليات إضافية، مثل النظافة، والانضباط، وتأمين بيئة جاذبة للطلبة، وكلها عوامل تؤثر في استمرارية الدوام وانخراط التلاميذ في الحياة المدرسية.

إن بناء بيئة مدرسية مثالية لا يتطلب قرارات فوقية فقط، بل يبدأ من أبسط التفاصيل: نظافة المدرسة، جمالية الصفوف، توافر وسائل التعليم، وضبط الطلبة بوسائل تربوية، لا ردعية. فهذه العوامل مجتمعة تخلق جوًا محفزًا، وتشجع الطلبة على الالتزام، وتُسهم في الحدّ من التسرب والعزوف.

وفي المقابل، لا يمكن أن نغفل دور الكادر التربوي، الذي يضم نخبة من المعلمين والمدرسين الأكفاء في كوردستان. لكن هذه الكفاءة، مهما بلغت، معرضة للضعف والجمود ما لم تُدعم بالتدريب المستمر، والتأهيل المهني المتجدد، وورش العمل المتخصصة التي تحاكي تحديات اليوم. إن الإشراف التربوي، الذي كان في الماضي يشكّل العمود الفقري في تقييم الأداء، تراجع دوره بشكل مقلق، وأصبح في بعض الحالات مجرد زيارة شكلية لا أثر لها في تحسين الأداء.

نحن بحاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لقلم المشرف، ليكون أداة تقييم حقيقية في يد تربوي خبير، قادر على التمييز بين المعلم القادر على العطاء، والآخر الذي يحتاج إلى دعم أو توجيه. بل من الضروري التفكير بتشكيل هيئة استشارية من المشرفين المتقاعدين، أولئك الذين يحملون إرثًا تربويًا وخبرة واسعة، ليكونوا صوتًا حيًا في رسم السياسات، حتى لو كان عملهم طوعيًا، بشرط أن يُحترم وضعهم، وتُخصص لهم مكافآت رمزية تحفظ كرامتهم وتكفل لهم ظروف عمل لائقة.

لكن الوزارة، مهما اجتهدت، لن تنجح وحدها ما لم يكن هناك شراكة حقيقية بينها وبين الأسرة. فإدارات المدارس يجب أن تُشكّل حلقة الوصل بين الجانبين، لكنّ الواقع يُظهر أن العلاقة بين المدرسة والبيت أصبحت سطحية في كثير من الأحيان، ولا تتعدى الاتصال عند وقوع مشكلة، بدلًا من أن تكون علاقة تواصل دائم تهدف إلى الوقاية والدعم المشترك.

الأسرة عنصر محوري في دعم التعليم، ويجب أن يُعاد تفعيل دورها من خلال برامج توعية، واجتماعات دورية، وآليات تنسيق واضحة تجعلها شريكًا لا متفرجًا.

ولكي تتحقق كل هذه الأهداف، نحن بحاجة إلى رؤية شاملة لا تقتصر على ردود الأفعال، بل تتأسس على تخطيط استباقي، يأخذ بالحسبان التطورات المجتمعية والتغيرات السكانية، ويعتمد على معايير علمية في التثبيت والتوزيع، لا على المزاج الإداري أو العلاقات الشخصية.

أما الدعم الحكومي، فهو العمود الفقري لكل عملية إصلاح.
لا يكفي أن تُصرف الرواتب بانتظام، بل يجب أن يُدعم التعليم من خلال بناء مدارس جديدة، وتأهيل القديمة، وتزويدها بالمستلزمات الأساسية، وتحديث المناهج بما يواكب العصر، ويُلبي احتياجات الطلبة في عالم متغير.

التربية ليست قطاعًا ثانويًا يمكن تأجيل إصلاحه. إنها ركيزة أساسية لأي نهضة، وأساس لكل مشروع وطني ناجح. ومتى ما منحنا هذا القطاع ما يستحقه من اهتمام، وكرّمنا من يعمل فيه، وفتحنا قنوات حوار حقيقية بين الوزارة والكادر التربوي والمجتمع، فإننا سنقترب من تحقيق بيئة تعليمية عادلة، تليق بطموحاتنا ككورد، وتُحقق لأبنائنا ما يستحقونه من فرص وكرامة في آنٍ معًا

قد يعجبك ايضا