د. ابراهيم احمد سمو
رغم أن قناة “فوكس نيوز” تأسست حديثًا نسبيًا، في السابع من أكتوبر عام 1996 على يد رجل الإعلام الشهير روبرت مردوخ، فإنها استطاعت في زمن قياسي أن ترسّخ مكانتها في الساحة الإعلامية الأمريكية والدولية. وقد تميزت القناة بتغطياتها الإخبارية السريعة وتحليلاتها السياسية العميقة من منظور محافظ، مما جعلها واحدة من أبرز وأقوى المنصات الإعلامية في الولايات المتحدة. ووسط الأحداث الكبرى في أمريكا، صاحبة النفوذ العالمي، استطاعت “فوكس نيوز” أن تقدم محتوى إعلاميًّا مختلفًا، يجمع بين سرعة التغطية وعمق التحليل، ما منحها ثقة واسعة لدى الجمهور، ونفوذًا لا يستهان به في صياغة الرأي العام بأسلوب يتسم بالرصانة والسرعة في نقل الأحداث، حتى أصبحت علامة بارزة في الإعلام السياسي الأمريكي.
الذي لفت انتباهي منذ البداية، هو شعار القناة الذي حمل دلالة عميقة تتجاوز حدود الكلمات: “نحن نبلغ، أنتم تقررون”. شعار يعكس احترامًا للمُتلقي، ويمنحه حرية التقييم دون فرض سردية أو توجيه مباشر. إنه نوع من الإعلام الذي يضع أمامك الحقائق، ويترك لك القرار، بعيدًا عن الضجيج الأيديولوجي.
ومن هذا المنطلق، كانت المقابلة الأخيرة التي أجرتها “فوكس نيوز” مع رئيس وزراء إقليم كوردستان، السيد مسرور بارزاني، بمثابة حدث سياسي وإعلامي لافت. فرغم بساطة بعض الأسئلة في ظاهرها، ورغم تكرارها في لقاءات سابقة، فإن وقعها هذه المرة كان مختلفًا تمامًا. ليس لأن الأسئلة جديدة، بل لأن الجهة التي طرحتها ليست عادية، ولأن التوقيت والسياق أعطيا اللقاء وزنًا خاصًا.
اللقاء لم يكن مجرد ظهور إعلامي آخر، بل كان خطوة محسوبة بدقة في طريق توصيل صوت كوردستان إلى مركز القرار الأمريكي، بل إلى الجمهور الأمريكي نفسه. ولعلّ ما أضفى على الحوار هذا الثقل هو المكانة التي تحظى بها القناة، ومقدم البرنامج الذي ارتبط صوته وصورته بـ”فوكس نيوز” حتى صار كلاهما يُكمل الآخر، في أذهان ملايين المشاهدين.
في ذلك التوقيت الأمريكي الثمين، ظهر السيد مسرور بارزاني بخطاب متزن، واضح، وصريح، حمل في طياته مواقف سياسية وشراكات استراتيجية، ومضى أبعد من الطابع البروتوكولي المعتاد لمثل هذه اللقاءات. لقد كان صوتًا سياسيًا قادمًا من الشرق و بالتحديد اقليم كوردستان – العراق ، يخاطب الغرب دون وسطاء، ودون تزييف، حاملاً معه ذاكرة الحرب ضد داعش، وشراكة الدم، والسلاح، والانتصار المشترك.
لبّ المقابلة كان واضحًا: نطالب بحقوقنا بقدر ما نستحق، ونقدّم في المقابل كل ما يلزم من التزام وعطاء بحجم العلاقة والعهود المشتركة. إنها رسالة متوازنة تعبّر عن شراكة قائمة على العدل والوفاء، لا مجرد مطالبات أو وعود، بل مسؤولية متبادلة وتجربة أثبتها الواقع .
نحن بقدر ما نأخذ، نعطي. ونوفي في التزاماتنا، والتجربة أثبتت ذلك.” وهو بذلك لم يكن يطلب، بل يذكّر. لم يكن يتوسل الدعم، بل يعرض رصيدًا من الوفاء السياسي والعسكري والأخلاقي، بُني على أرض المعركة، لا خلف المكاتب.
من تابع اللقاء، يستطيع بسهولة أن يلمس التحول النوعي في الخطاب الكوردي، لا فقط في مخاطبة الداخل، بل في مخاطبة الخارج أيضًا. الرئيس لم يأتِ ليشتكي، بل ليؤكد الشراكة، ويعيد رسم ملامح التحالف الاستراتيجي الذي بدأ في خنادق الحرب ضد داعش، واليوم يمتد إلى مجالات البناء، والإعمار، والاستثمار، والاقتصاد.
ولعل أبرز ما في اللقاء هو هذا النفس الواقعي، البعيد عن الانفعال، والقائم على قراءة دقيقة لموقع الكورد في السياسة الأمريكية. فنحن لم نسمع منذ سنوات، لا في العلن ولا في الخفاء، موقفًا أمريكيًا بهذا الوضوح. لكن هذه المرة، جاءت الكلمات من قلب العاصمة واشنطن، عبر صوت “فوكس نيوز”، ومن خلال كلمات مباشرة لوزير الخارجية الأمريكي في جلسة الكونغرس، ثم عبر البيان الرسمي حول اللقاء مع مسرور بارزاني.
كل ذلك يعكس تطورًا حقيقيًا في فهم واشنطن لدور الكورد، ليس فقط كقوة عسكرية، بل كشريك سياسي إقليمي يمكن الاعتماد عليه في خريطة الشرق الأوسط المتقلبة.
وبينما كانت الأسئلة تطرح، كانت الإجابات أكثر جرأة من ذي قبل، وربما أكثر وضوحًا. فقد ابتعدت عن الدبلوماسية المفرطة، واقتربت من لغة المصارحة والمكاشفة، بلغة تحمل بين سطورها رسائل موجهة إلى من يهمه الأمر، سواء في الداخل العراقي، أو في الإقليم، أو في البيت الأبيض.
وإن كان اللقاء قد حمل هذا الزخم السياسي، فلا بد أن نشير إلى أهمية الترجمة الدقيقة التي رافقته، سواء باللغة الكوردية أو العربية. هذه الترجمة لم تكن مجرد جهد لغوي، بل كانت جسرًا مكّن الجمهور الكوردي والعربي من التفاعل مع الحدث، وفهم أبعاده دون تشويه أو نقص.
من هنا، جاءت هذه المقالة، لا بوصفها تلخيصًا للقاء، بل محاولة لتوثيق انطباعنا عنه، وقراءة أبعاده، وتسليط الضوء على ما يمكن أن يكون تحولًا في السياسة الأمريكية تجاه الكورد، ليس فقط في الخطاب، بل في الفعل أيضًا.
لقد كانت زيارة مسرور بارزاني إلى واشنطن زيارة تاريخية بكل المقاييس. وهي ليست الأولى، لكنها الأهم، من حيث التوقيت، والمحتوى، والنتائج المتوقعة. وكما قيل: “في السياسة، التوقيت نصف المعركة”، ويبدو أن التوقيت هذه المرة كان لصالح كوردستان.
ربما لهذا السبب شعرنا – ولأول مرة منذ فترة طويلة – أن صوت كوردستان لم يكن صوتًا هامشيًا في وسائل الإعلام الغربية، بل كان في صُلب الحوار السياسي. وكان من الطبيعي أن نشهد هذا الحضور من خلال قناة كبرى مثل “فوكس نيوز”، التي تمثل إلى حدّ بعيد المزاج السياسي الأمريكي المحافظ، والمؤثر.
ختامًا، نحن أمام مرحلة جديدة، يمكن أن تشكل منعطفًا في العلاقة بين كوردستان والولايات المتحدة. وإذا كانت الحرب ضد داعش قد قرّبتنا من بعضنا، فإن معركة البناء والاستقرار تتطلب شراكة أعمق، وأكثر وضوحًا. لقاء “فوكس نيوز” لم يكن لقاء عابرًا، بل كان صوتًا من الشرق يطرق أبواب القرار في الغرب. وكما بدأنا المقال بشعار القناة، نختم بنفس المعنى: “نحن نبلغ… وأنتم تقررون.”
ونحن قررنا أن نكتب، أن نوثّق، وأن نُصغي لما لم يُقَل بعد.